التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{فَإِنۡ حَآجُّوكَ فَقُلۡ أَسۡلَمۡتُ وَجۡهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِۗ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡأُمِّيِّـۧنَ ءَأَسۡلَمۡتُمۡۚ فَإِنۡ أَسۡلَمُواْ فَقَدِ ٱهۡتَدَواْۖ وَّإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّمَا عَلَيۡكَ ٱلۡبَلَٰغُۗ وَٱللَّهُ بَصِيرُۢ بِٱلۡعِبَادِ} (20)

تفريع على قوله : { إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب } [ آل عمران : 19 ] الآية فإنّ الإسلام دين قد أنكروه ، واختلافهم في أديانهم يفضي بهم إلى محاجّة الرسول في تبرير ما هم عليه من الدين ، وأنّهم ليسوا على أقلّ مما جاء به دين الإسلام .

والمحاجة مُفاعلة ولم يجىء فِعلها إلاَّ بصيغة المفاعلة . ومعنى المحاجّة المخاصمة ، وأكثر استعمال فعل حاجّ في معنى المخاطمة بالباطل : كما في قوله تعالى : { وحاجّهُ قومه } [ الأنعام : 80 ] وتقدم عند قوله تعالى : { ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه } في سورة [ البقرة : 258 ] .

فالمعنى : فإن خاصموك خاصمَ مكابرة فقل أسلمت وجهي لله .

وضمير الجمع في قوله : { فإن حاجوك } عائد إلى غير مذكور في الكلام ، بل معلوم من المقام ، وهو مقام نزول السورة ، أعني قضية وفد نجران ؛ فإنّهم الذين اهتمّوا بالمحاجّة حينئذ . فأما المشركون فقد تباعدَ ما بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الهجرة ، فانقطعت محاجّتهم ، وأما اليهود فقد تظاهروا بمسالمة المسلمين في المدينة .

وقد لقّن الله رسوله أن يجيب مجادلتهم بقوله : { أسلمت وجهي لله } والوجه أطلق على النفس كما في قوله تعالى : { كل شيء هالك إلاّ وجهه } [ القصص : 88 ] أي ذاته .

وللمفسّرين في المراد من هذا القول طرايق ثلاث : إحداها أنّه متاركة وإعْراض عن المجادلة أي اعترفت بأن لا قدرة لي على أن أزيدكم بياناً ، أي أنّي أتيت بمنتهى المقدور من الحجّة فلم تقتنعوا ، فإذ لم يقنعكم ذلك فلا فائدة في الزيادة من الأدلة النظرية ، فليست محاجّتكم إياي إلاّ مكابرة وإنكاراً للبديهيات والضروريات ، ومباهته ، فالأجدر أن أكفّ عن الازدياد . قال الفخر : فإن المُحِقّ إذا ابتُلي بالمُبْطل اللَّجوج يقول : أمّا أنا فمنقاد إلى الحق . وإلى هذا التفسير مال القرطبي .

وعلى هذا الوجه تكون إفادة قطع المجادلة بجملة : { أسلمت وجهي لله ومن اتّبعن } وقوله : { أأسلمتم } دون أن يقال : فأعرض عنهم وقُل سلام ، ضَرْباً من الإدماج ؛ إذ أدمج في قطع المجادلة إعادةَ الدعوة إلى الإسلام ، بإظهار الفرق بين الدينين .

والقصد من ذلك الحرصُ على اهتدائهم ، والإعذارُ إليهم ، وعلى هذا الوجه فإنّ قوله : { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم } خارج عن الحاجة ، وإنّما هو تكرّر للدعوة ، أي اتْرُكْ محاجَّتهم ولا تَترك دعوتهم .

وليس المراد بالحِجاج الذي حاجَّهم به خصوصَ ما تقدم في الآيات السابقة ، وإنّما المراد ما دار بين الرسول وبين وفد نجران من الحجاج الذي علِموه فمنهُ ما أشير إليه في الآيات السابقة ، ومنه ما طُوي ذكره .

الطريقة الثانية أنّ قوله : { فقل أسلمت وجهي } تلخيص للحجة ، واستدراج لتسليمهم إياها ، وفي تقريره وجوه مآلها إلى أنّ هذا استدلال على كون الإسلام حقاً ، وأحسنها ما قال أبو مسلم الأصفهاني : إنّ اليهود والنصارى والمشركين كانوا متّفقين على أحقّية دين إبراهيم عليه السلام إلاّ زيادات زادتها شرائعهم ، فكما أمر الله رسوله أن يتّبع ملة إبراهيم في قوله : { ثم أوحينا إليك أن اتّبع ملة إبراهيم حنيفاً } [ النحل : 123 ] أمَرَه هنا أن يجادل الناس بمثل قوله إبراهيم : فإبراهيم قال : { إنّي وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض } [ الأنعام : 79 ] ومحمد عليه الصلاة والسلام قال : " أسلمت وجهي لله " أي فقد قلتُ ما قاله الله ، وأنتم معترفون بحقيقة ذلك ، فكيف تنكرون أنّي على الحق ، قال : وهذا من باب التمسّك بالإلزامات وداخل تحت قوله : { وجادلهم بالتي هي أحسن } [ النحل : 125 ] .

الطريقة الثالثة ما قاله الفخر وحاصله مع بيانه أن يكون هذا مرتبطً بقوله : { إن الذين عند الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] أي فإن حاجّوك في أنّ الدين عند الله الإسلام ، فقل : إنّي بالإسلام أسلمتُ وجهي لله فلا ألتفتُ إلى عبادة غيره مثلكم ، فديني الذي أرسلتُ به هو الدين عند الله ( أي هو الدين الحقّ وما أنتم عليه ليس ديناً عند الله ) .

وعلى الطريقتين الأوليين في كلام المفسّرين جعلوا قوله : { وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم } خارجاً عن الحجة ؛ إذ لا علاقة بينه وبين كون الإسلام هو ملّة إبراهيم ، ويكون مراداً منه الدعوة إلى الإسلام مرة أخرى بطريقة الاستفهام المستعمل في التحْضيض كقوله : { فهل أنتم منتهون } [ المائدة : 91 ] أي قل لأولئك : أتُسلمون .

وعندي أنّ التعليق بالشرط لما اقتضى أنّه للمستقبل فالمراد بفعل : « حاجُّوك » الاستمرار على المحاجّة : أي فإن استمرّ وفدُ نجران على محاجّتهم فقل لهم قولاً فَصْلاً جامعاً للفَرْق بين دينك الذي أرسلتَ به وبين ما هُم متديّنون به . فمعنى { أسلمت وجهي لله } أخلصت عبوديتي له لا أوَجِّه وجهي إلى غيره ، فالمراد أنّ هذا كُنْه دين الإسلام ، وتَبيَّن أنَّه الدين الخالص ، وأنّهم لا يُلْفُوْن تَدَيّنهم على هذا الوصفِ .

وقوله : { وقل للذين أوتوا الكتاب والأمين أأسلمتم } معطوف على جملة الشرط المفرّعة على ما قبلها ، فيدخل المعطوف في التفريع ، فيكون تقديرُ النظم : ومن يكفر بآيات الله فإنّ الله سريع الحساب فقُل للذين كفروا بآيات الله الذين أوتوا الكتاب والأميّين : أأسلمتم ، أي فكرِّرْ دعوتهم إلى الإسلام .

والاستفهامُ مستعمل في الاستبطاء والتحضيض كما في قوله تعالى : { فهل أنتم منتهون } [ المائدة : 91 ] . وجيء بصيغة الماضي في قوله : { أأسلمتم } دون أن يقول أتسلمون على خلاف مقتضى الظاهر ، للتنبيه على أنّه يَرجو تحقق إسلامهم ، حتى يكونَ كالحاصل في الماضي .

اعلم أنّ قوله : { أسلمت وجهي لله } كلمة جامعة لمعاني كنه الإسلام وأصوله ألقيت إلى الناس ليتدبّروا مطاويها فيهتدي الضالون ، ويزداد المسلمون يقيناً بدينهم ؛ إذ قد علمنا أنّ مجيء قوله : { أسلمت وجهي لله } عقب قوله : { إن الدين عند الله الإسلام } [ آل عمران : 19 ] وقوله : { فإن حاجوك } وتعقيبه بقوله : { أأسلمتم } أنّ المقصود منه بيان جامع معاني الإسلام حتى تسهل المجادلة ، وتختصر المقاولة ، ويسهل عَرض المتشككين أنفسهم على هذه الحقيقة ، ليعلموا ما هم عليه من الديانة .

وبَيّنتْ هذه الكلمة أنّ هذا الدين يترجم عن حقيقة اسمه ؛ فإنّ اسمه الإسلام ، وهو مفيد معنى معروفاً في لغتهم يرجع إلى الإلقاء والتسليم ، وقد حذف مفعوله ونُزِّل الفعل منزلة الفعل اللاّزم فعلم أنّ المفعول حذف لدلالة معنى الفاعل عليهِ ، فكأنّه يقول : أسلمتُني أي أسلمتُ نفسي ، فبُين هنا هذا المفعول المحذوف من اسم الإسلام لئلاّ يقع فيه التباس أو تأويل لما لا يطابق المراد ، فعبّر عنه بقوله : ( وجهي ) أي نفسي : لظهور ألاّ يحسن محمل الوجه هنا على الجزء المعروف من الجسد ، ولا يفيد حمله عليه ما هو المقصود ، بل المعنى البَيِّن هو أن يراد بالوجه كامل الذات ، كقوله تعالى : { كل شيء هالك إلا وجهه } [ القصص : 88 ] .

وإسلام النفس لله معناه إسلامها لأجله وصيرورتها ملكاً له ، بحيث يكون جميع أعمال النفس في مرضاة الله ، وتحت هذا معاننٍ جمّة هي جماع الإسلام : نحصرها في عشرة :

المعنى الأول : تمام العبودية لله تعالى ، وذلك بألاّ يعبد غير الله ، وهذا إبطال للشرك لأنّ المشرك بالله غير الله لم يسلم نفسه لله بل أسلم بعضَها .

المعنى الثاني : إخلاصُ العمل لله تعالى فلا يلحظ في عمله غير الله تعالى ، فلا يرائي ولا يصانع فيما لا يرضي الله ولا يُقدّم مرضاةَ غير الله تعالى على مرضاة الله .

الثالث : إخلاص القول لله تعالى فلا يقول ما لا يرضَى به الله ، ولا يصدر عنه قول إلاّ فيما أذن الله فيه أن يقال ، وفي هذا المعنى تجيء الصراحة ، والأمرُ بالمعروف ، والنهيُ عن المنكر ، على حسب المقدرة والعلممِ ، والتَّصدِي للحجة لتأييد مراد الله تعالى ، وهي صفة امتاز بها الإسلام ، ويندفع بهذا المعنى النفاق ، والملق ، قال تعالى في ذكر رسوله : { وما أنا من المتكلّفين } [ يس : 86 ] .

الرابع : أن يكون ساعياً لِتَعَرُّف مرادِ الله تعالى من الناس ، ليُجري أعماله على وفقه ، وذلك بالإصغاء إلى دعوة الرسل المخبرين بأنّهم مرسلون من الله ، وتلقّيها بالتأمّل في وجود صدقها ، والتمييز بينها وبين الدعاوي الباطلة ، بدون تحفّز للتكذيب ، ولا مكابرة في تلقّي الدعوة ، ولا إعراضٍ عنها بداعي الهوى وهو الإفحام ، بحيث يكون علمه بمراد الله من الخلق هو ضالته المنشودة .

الخامس : امتثال ما أمر الله به ، واجتناب ما نهى عنه ، على لسان الرسل الصادقين ، والمحافظة على اتّباع ذلك بدون تغيير ولا تحريف ، وأن يذود عنه من يريد تغييره .

السادس : ألاّ يجعل لنفسه حُكماً مع الله فيما حكم به ، فلا يتصدّى للتحكّم في قبول بعض ما أمر الله به ونبذِ البعض . كما حكى الله تعالى : { وإذا دُعوا إلى الله ورسوله لِيحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين } [ النور : 48 ، 49 ] ، وقد وصف الله المسلمين بقوله : { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسولُه أمراً أنْ يكون لهم الخِيَرَةُ من أمرهم } [ الأحزاب : 36 ] ، فقد أعرض الكفّار عن الإيمان بالبعث ؛ لأنّهم لم يشاهدوا ميّتاً بُعث .

السابع : أن يكون متطلّباً لمراد الله ممّا أشكل عليه فيه ، واحتاج إلى جريه فيه على مراد الله : بتطلّبه من إلحاقه بنظائره التامةِ التنظيرِ بما عُلم أنّه مراد الله ، كما قال الله تعالى : { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } [ النساء : 83 ] ولهذا أدخل علماء الإسلام حكم التفقّه في الدين والاجتهاد ، تحت التقوى المأمور بها في قوله تعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } [ التغابن : 16 ] .

الثامن : الإعراض عن الهوى المذموم في الدين ، وعن القولِ فيه بغير سلطان : { ومن أضَلُّ ممن اتّبع هواه بغير هُدًى من الله } [ القصص : 50 ] .

التاسع : أن تكون معاملة أفراد الأمة بعضها بعضاً ، وجماعاتِها ، ومعاملتها الأممَ كذلك ، جارية على مراد الله تعالى من تلك المعاملات .

العاشر : التصديق بما غُيّب عنّا ، مما أنبأنا الله به : من صفاته ، ومن القضاء والقدر ، وأنّ الله هو المتصرّف المطلق .

وقوله : { وقل للذين أوتوا الكتاب والأمين أأسلمتم } إبطال لكونهم حاصلين على هذا المعنى ، فأمّا المشركون فبعدهم عنه أشدّ البعد ظاهر ، وأمّا النصارى فقد ألَّهوا عيسى ، وجعلوا مريم صاحبة لله تعالى فهذا أصل لبطلان أن يكونوا أسلموا وجوههم لله ؛ لأنّهم عبدوا مع الله غيره ، وصانعوا الأمم الحاكمة والملوك ، فأسّسوا الدين على حسب ما يلذّ لهم ويكسبهم الحظوة عندهم .

وأما اليهود فإنّهم وإن لم يشركوا بالله قد نقضوا أصول التقوى ، فسفّهوا الأنبياء وقتلوا بعضهم ، واستهزءوا بدعوة الخير إلى الله ، وغيّروا الأحكام اتّباعاً للهوى ، وكذّبوا الرسل ، وقتلوا الأحبار ، فأنَّى يَكون هؤلاء قد أسلموا لله ، وأكبر مُبطل لذلك هو تكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم دون النظر في دلائل صدقه .

ثم إنّ قوله : { فإن أسلموا فقد اهتدوا } معناه : فإن التزموا النزول إلى التحقّق بمعنى أسلمت وجهي لله فقد اهتدوا ، ولم يبق إلا أن يتّبعوك لتَلقي ما تُبَلِّغِهم عن الله ؛ لأنّ ذلك أول معاني إسلام الوجه لله ، وإن تولّوا وأعرضوا عن قولك لهم : آسلمتم فليس عليك من إعراضهم تبِعة ، فإنّما عليك البلاغ ، فقوله : { فإنما عليك البللاغ } وقع موقع جواب الشرط ، وهو في المعنى علة الجواب ، فوقوعه موقع الجواب إيجاز بديع ، أي لا تحزن ، ولا تظنّن أنّ عدم اهتدائهم ، وخيبتَك في تحصيل إسلامهم ، كان لتقصير منك ؛ إذ لم تُبعث إلاّ للتبليغ ، لا لتحصيل اهتداء المبلَّغ إليهم .

وقوله : { والله بصير بالعباد } أي مطّلع عليهم أتمّ الأطّلاع ، فهو الذي يتولّى جَزاءهم وهو يعلم أنّك بلّغت ما أمرت به .

وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، وحمزة والكسائي ، وأبو جعفر ، وخلف « اتبعني » بإثبات ياء المتكلم في الوصل دون الوقف . وقرأه الباقون بإثبات الياء في الوصل والوقف .