تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فإن حاجوك} اليهود، خاصموك يا محمد في الدين. {فقل أسلمت وجهي لله}: أخلصت ديني لله. {ومن اتبعن}: على ديني فقد أخلص.
{وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين}: أهل التوراة والإنجيل: اليهود والنصارى. {أأسلمتم}: والإسلام اسم مشتق من اسم الله عز وجل، أمر الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى الإسلام، فقال: أسلمت، يعني أخلصت. {فإن أسلموا}: فإن أخلصوا له، يعني لله عز وجل بالتوحيد. {فقد اهتدوا}: من الضلالة. {وإن تولوا}: فإن أبوا أن يسلموا. {فإنما عليك البلاغ}: بلاغ الرسالة. {والله بصير بالعباد}: بأعمال العباد...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
فإن حاجّك يا محمد النفر من نصارى أهل نجران في أمر عيسى صلوات الله عليه، فخاصموك فيه بالباطل، فقل: اِنْقَدتُ لله وحده بلساني وقلبي وجميع جوارحي، وإنما خصّ جلّ ذكره بأمره بأن يقول:"أسلمت وجهي لله"، لأن الوجه أكرم جوارح ابن آدم عليه، وفيه بهاؤه وتعظيمه، فإذا خضع وجهه لشيء، فقد خضع له الذي هو دونه في الكرامة عليه من جوارح بدنه. {وَمَنِ اتّبَعَنِي}: وأسلم من اتبعني أيضا وجهه لله معي، "ومن "معطوف بها على التاء في «أسلمت». {وَقُلْ لِلّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ وَالأُمّيّينَ أأسْلَمْتُمْ فإنْ أسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدُوا}: وقل يا محمد للذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى، والأميين الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب: "أأسلمتم"؟ يقول: قل لهم: هل أفردتم التوحيد، وأخلصتم العبادة والألوهة لربّ العالمين دون سائر الأنداد والأشراك التي تشركونها معه في عبادتكم إياهم، وإقراركم بربوبيتهم، وأنتم تعلمون أنه لا ربّ غيره، ولا إله سواه. "فإن أسلموا": فإن انقادوا لإفراد الوحدانية لله، وإخلاص العبادة والألوهة له. "فقد اهتدوا": فقد أصابوا سبيل الحقّ، وسلكوا محجة الرشد.
{وإن تَوَلّوْا فَإنّما عَلَيْكَ البَلاغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالعِبادِ}: وإن أدبروا معرضين عما تدعوهم إليه من الإسلام، وإخلاص التوحيد لله ربّ العالمين، فإنما أنت رسول مبلغ، وليس عليك غير إبلاغ الرسالة إلى من أرسلتك إليه من خلقي، وأداء ما كلفتك من طاعتي. {وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالعِبادِ}: والله ذو علم بمن يقبل من عباده ما أرسلتك به إليه، فيطيعك بالإسلام، وبمن يتولى منهم عنه معرضا، فيردّ عليك ما أرسلتك به إليه فيعصيك بإبائه الإسلام.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وجهي لله}: أي نفسي لله، لا أشرك فيها أحدا، ولا أجعل لغير الله فيها على ما جعل الكفار في أنفسهم شركاء وأربابا...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
والوجه: العمل، كقوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}: أي قصده وعمله. وقوله: {إِلاَّ ابْتِغَآءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} [الليل: 20]...
(ءأسْلمتم): لفظ استفهام ومعناهُ أمر، أي أسلموا كقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91]... {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}: عالم بمن يؤمن بالله ومن لا يؤمن باللهِ وبأهل الثواب وبأهل العقاب...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِىَ للَّهِ} أي أخلصت نفسي وجملتي لله وحده لم أجعل فيها لغيره شريكاً بأن أعبده وأدعوه إلها معه؛ يعني أن ديني التوحيد وهو الدين القديم الذي ثبتت عندكم صحته كما ثبتت عندي، وما جئت بشيء بديع حتى تجادلوني فيه، ونحوه: {قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} [آل عمران: 64] فهو دفع للمحاجة بأن ما هو عليه ومن معه من المؤمنين هو حق اليقين الذي لا لبس فيه... {أأَسْلَمْتُمْ}: يعني أنه قد أتاكم من البينات ما يوجب الإسلام ويقتضي حصوله لا محالة؛ فهل أسلمتم أم أنتم بعد على كفركم؟... وفي هذا الاستفهام استقصار وتعيير بالمعاندة وقلة الإنصاف، لأن المنصف إذا تجلت له الحجة لم يتوقف إذعانه للحق، وللمعاند بعد تجلي الحجة ما يضرب أسداداً بينه وبين الإذعان...
{فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن}: يعني إنا بالغنا في تقرير الدلائل، وإيضاح البينات، فإن تركتم الأنف والحسد، وتمسكتم بها كنتم أنتم المهتدين، وإن أعرضتم فإن الله تعالى من وراء مجازاتكم،... أسلمت وجهي لله أي أسلمت وجه عملي لله، والمعنى أن كل ما يصدر مني من الأعمال فالوجه في الإتيان بها هو عبودية الله تعالى والانقياد لإلهيته وحكمه... قال تعالى: {وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين ءأسلمتم}... هذه الآية متناولة لجميع المخالفين لدين محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن منهم من كان من أهل الكتاب، سواء كان محقا في تلك الدعوى كاليهود والنصارى، أو كان كاذبا فيه كالمجوس، ومنهم من لم يكن من أهل الكتاب وهم عبدة الأوثان...
المراد بقوله {فان حاجوك} عام في كل الكفار، لأنه دخل كل من يدعي الكتاب تحت قوله {الذين أوتوا الكتاب} ودخل من لا كتاب له تحت قوله {الأميين}...
قال الله تعالى {ءأسلمتم} فهو استفهام في معرض التقرير، والمقصود منه الأمر... قال النحويون: إنما جاء بالأمر في صورة الاستفهام، لأنه بمنزلته في طلب الفعل والاستدعاء إليه إلا أن في التعبير عن معنى الأمر بلفظ الاستفهام فائدة زائدة، وهي التعبير بكون المخاطب معاندا بعيدا عن الإنصاف،... {فإنما عليك البلاغ} والغرض منه تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وتعريفه أن الذي عليه ليس إلا إبلاغ الأدلة وإظهار الحجة فإذا بلغ ما جاء به فقد أدى ما عليه، وليس عليه قبولهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
قال الحرالي: و لما أدرج تعالى شهادة الملائكة وأولي العلم في شهادته، لقن نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدرج من اتبعه في إسلامه وجهه لله ليكون إسلامهم بإسلام نبيهم صلى الله عليه وسلم لا بإسلام أنفسهم، لتلحق التابعة من الأمة بالأئمة، وذلك حال الفرقة الناجية مؤثرة الفرق الاثنين والسبعين التي قال النبي صلى الله عليه وسلم "وما أنا عليه "فيما أوتي من اليقين "وأصحابي" فيما أوتوه من الانقياد وبراءتهم من الرجوع إلى أنفسهم في أمر،... مشيراً بالاستفهام إلى عنادهم منكراً عليهم موبخاً لهم: {ءأسلمتم فإن أسلموا} عند ذلك {فقد اهتدوا} فنفعوا أنفسهم في الدنيا والآخرة، وفي صيغة "افتعلوا" ما يليح إلى أن الأنفس مائلة إلى الضلال زائغة عن طرق الكمال {وإن تولوا} أي عن الإسلام فهم معاندون فلا يهمنك أمرهم {فإنما عليك البلاغ} أي وعليهم وبال توليهم...
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
"فقل أسلمت وجهي لله": أي انقدت لآياته المنزلة، وأخلصت نفسي وعبادتي له، لا أشرك فيها غيره...
"فإن أسلموا فقد اهتدوا": أي خرجوا من الضلال فنفعوا أنفسهم. "وإن تولوا": عن هداك وهديك، "فإنما عليك البلاغ": أي تبليغ آيات الله، لا الإكراه إذا عاندوك، إذ ليس عليك هداهم... وقد روى عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، مات ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أهل النار". رواه مسلم...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{فإن حاجوك}: يعني به أهل الكتاب أو عام؛ أي فإن جادلوك بعد أن جئتهم بالحق اليقين، وأقمت عليه البينات والبراهين، ودمغت الباطل، بالآيات والدلائل، {فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن}: أقبلت عليه بعبادتي مخلصا له معرضا هما سواه أنا ومن اتبعني من المؤمنين...
قال الأستاذ الإمام: لأن هذا هو روح الدين فمن أصابه فهو على هداية من هذا الوجه فإن غشيه مع ذلك شيء من الباطل الصوري فهو لا يلبث أن يزول متى ظهر له الدليل على بطلانه. ولذلك كان إسلامهم هذا لا بد من أن يستتبع اتباعك فيما جئت به، لأن من كان كذلك فهو نير القلب متوجه دائما إلى طلب الحق، فهو أقرب الناس إلى قبوله متى جاءه وظهر له... {والله بصير بالعباد} فهو أعلم بمن طمس قلبه فارتكس في شقائه، ووقع اليأس من اهتدائه، ومن يرجى له بتوفيق الله من بعد ما لا يرجى له اليوم. أقول: ومثل هذه الآية نص قاطع في حصر وظيفة الرسول بالبلاغ عن الله وأنه ليس مسيطرا على الناس، ولا جبارا ولا مكرها لهم على الإسلام...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{أسلمت وجهي لله ومن اتبعن} أي: أنا ومن اتبعني قد أقررنا وشهدنا وأسلمنا وجوهنا لربنا، وتركنا ما سوى دين الإسلام، وجزمنا ببطلانه، ففي هذا تأييس لمن طمع فيكم،...
وسيد أهل العلم وأفضلهم وأعلمهم هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم من بعده أتباعه على اختلاف مراتبهم وتفاوت درجاتهم، فلهم من العلم الصحيح والعقل الرجيح ما ليس لأحد من الخلق ما يساويهم أو يقاربهم... فإذا ثبت وتقرر توحيد الله ودينه بأدلته الظاهرة، وقام به أكمل الخلق وأعلمهم، حصل بذلك اليقين وانتفى كل شك وريب وقادح، وعرف أن ما سواه من الأديان باطلة...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم لقن نبيه صلى الله عليه وسلم فصل الخطاب في موقفه من أهل الكتاب والمشركين جميعا. ليحسم الأمر معهم عن بينة، ويدع أمرهم بعد ذلك لله، ويمضي في طريقه الواضح متميزا متفردا:
(فإن حاجوك فقل: أسلمت وجهي لله ومن اتبعن. وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم؟ فإن أسلموا فقد اهتدوا. وإن تولوا فإنما عليك البلاغ. والله بصير بالعباد)
إنه لا سبيل إلى مزيد من الإيضاح بعد ما تقدم. فإما اعتراف بوحدة الألوهية والقوامة، وإذن فلا بد من الإسلام والاتباع. وإما مماحكة ومداورة. وإذن فلا توحيد ولا إسلام.
ومن ثم يلقن الله -تعالى- رسوله صلى الله عليه وسلم كلمة واحدة تبين عقيدته كما تبين منهج حياته:
(فإن حاجوك) -أي في التوحيد وفي الدين- (فقل: أسلمت وجهي لله) أنا (ومن اتبعن).. والتعبير بالاتباع ذو مغزى هنا. فليس هو مجرد التصديق. إنما هو الاتباع. كما أن التعبير بإسلام الوجه ذو مغزى كذلك. فليس هو مجرد النطق باللسان أو الاعتقاد بالجنان. إنما هو كذلك الاستسلام. استسلام الطاعة والاتباع.. وإسلام الوجه كناية عن هذا الاستسلام. والوجه أعلى وأكرم ما في الإنسان. فهي صورة الانقياد الطائع الخاضع المتبع المستجيب.
هذا اعتقاد محمد صلى الله عليه وسلم ومنهج حياته. والمسلمون متبعوه ومقلدوه في اعتقاده ومنهج حياته.. فليسأل إذن أهل الكتاب والأميين سؤال التبين والتمييز ووضع الشارة المميزة للمعسكرين على وضوح لا اختلاط فيه ولا اشتباه:
(وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين: أأسلمتم؟)..
فهم سواء. هؤلاء وهؤلاء. المشركون وأهل الكتاب هم مدعوون إلى الإسلام بمعناه الذي شرحناه. مدعوون للإقرار بتوحيد ذات الله، ووحدة الألوهية ووحدة القوامة. مدعوون بعد هذا الإقرار إلى الخضوع لمقتضاه. وهو تحكيم كتاب الله ونهجه في الحياة.
فالهدى يتمثل في صورة واحدة. هي صورة الإسلام. بحقيقته تلك وطبيعته. وليس هنالك صورة أخرى، ولا تصور آخر، ولا وضع آخر، ولا منهج آخر يتمثل فيه الاهتداء.. إنما هو الضلال والجاهلية والحيرة والزيغ والالتواء..
(وإن تولوا فإنما عليك البلاغ)..
فعند البلاغ تنتهي تبعة الرسول وينتهي عمله. وكان هذا قبل أن يأمره الله بقتال من لا يقبلون الإسلام حتى ينتهوا: إما إلى اعتناق الدين والخضوع للنظام الذي يتمثل فيه. وإما إلى التعهد فقط بالطاعة للنظام في صورة أداء الجزية.. حيث لا إكراه على الاعتقاد..
يتصرف في أمرهم وفق بصره وعلمه. وأمرهم إليه على كل حال.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والقصد من ذلك الحرصُ على اهتدائهم، والإعذارُ إليهم... وتحت هذا معان جمّة هي جماع الإسلام: نحصرها في عشرة:
المعنى الأول: تمام العبودية لله تعالى، وذلك بألاّ يعبد غير الله، وهذا إبطال للشرك لأنّ المشرك بالله غير الله لم يسلم نفسه لله بل أسلم بعضَها.
المعنى الثاني: إخلاصُ العمل لله تعالى فلا يلحظ في عمله غير الله تعالى، فلا يرائي ولا يصانع فيما لا يرضي الله ولا يُقدّم مرضاةَ غير الله تعالى على مرضاة الله.
الثالث: إخلاص القول لله تعالى فلا يقول ما لا يرضَى به الله، ولا يصدر عنه قول إلاّ فيما أذن الله فيه أن يقال، وفي هذا المعنى تجيء الصراحة، والأمرُ بالمعروف، والنهيُ عن المنكر، على حسب المقدرة والعلمِ، والتَّصدِي للحجة لتأييد مراد الله تعالى، وهي صفة امتاز بها الإسلام، ويندفع بهذا المعنى النفاق، والملق، قال تعالى في ذكر رسوله: {وما أنا من المتكلّفين} [يس: 86].
الرابع: أن يكون ساعياً لِتَعَرُّف مرادِ الله تعالى من الناس، ليُجري أعماله على وفقه، وذلك بالإصغاء إلى دعوة الرسل المخبرين بأنّهم مرسلون من الله، وتلقّيها بالتأمّل في وجود صدقها، والتمييز بينها وبين الدعاوي الباطلة، بدون تحفّز للتكذيب، ولا مكابرة في تلقّي الدعوة، ولا إعراضٍ عنها بداعي الهوى وهو الإفحام، بحيث يكون علمه بمراد الله من الخلق هو ضالته المنشودة.
الخامس: امتثال ما أمر الله به، واجتناب ما نهى عنه، على لسان الرسل الصادقين، والمحافظة على اتّباع ذلك بدون تغيير ولا تحريف، وأن يذود عنه من يريد تغييره.
السادس: ألاّ يجعل لنفسه حُكماً مع الله فيما حكم به، فلا يتصدّى للتحكّم في قبول بعض ما أمر الله به ونبذِ البعض. كما حكى الله تعالى: {وإذا دُعوا إلى الله ورسوله لِيحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين} [النور: 48، 49]، وقد وصف الله المسلمين بقوله: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسولُه أمراً أنْ يكون لهم الخِيَرَةُ من أمرهم} [الأحزاب: 36]، فقد أعرض الكفّار عن الإيمان بالبعث؛ لأنّهم لم يشاهدوا ميّتاً بُعث.
السابع: أن يكون متطلّباً لمراد الله ممّا أشكل عليه فيه، واحتاج إلى جريه فيه على مراد الله: بتطلّبه من إلحاقه بنظائره التامةِ التنظيرِ بما عُلم أنّه مراد الله، كما قال الله تعالى: {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} [النساء: 83] ولهذا أدخل علماء الإسلام حكم التفقّه في الدين والاجتهاد، تحت التقوى المأمور بها في قوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16].
الثامن: الإعراض عن الهوى المذموم في الدين، وعن القولِ فيه بغير سلطان: {ومن أضَلُّ ممن اتّبع هواه بغير هُدًى من الله} [القصص: 50].
التاسع: أن تكون معاملة أفراد الأمة بعضها بعضاً، وجماعاتِها، ومعاملتها الأممَ كذلك، جارية على مراد الله تعالى من تلك المعاملات.
العاشر: التصديق بما غُيّب عنّا، مما أنبأنا الله به: من صفاته، ومن القضاء والقدر، وأنّ الله هو المتصرّف المطلق. وقوله: {وقل للذين أوتوا الكتاب والأمين أأسلمتم} إبطال لكونهم حاصلين على هذا المعنى، فأمّا المشركون فبعدهم عنه أشدّ البعد ظاهر، وأمّا النصارى فقد ألَّهوا عيسى، وجعلوا مريم صاحبة لله تعالى فهذا أصل لبطلان أن يكونوا أسلموا وجوههم لله؛ لأنّهم عبدوا مع الله غيره، وصانعوا الأمم الحاكمة والملوك، فأسّسوا الدين على حسب ما يلذّ لهم ويكسبهم الحظوة عندهم. وأما اليهود فإنّهم وإن لم يشركوا بالله قد نقضوا أصول التقوى، فسفّهوا الأنبياء وقتلوا بعضهم، واستهزأوا بدعوة الخير إلى الله، وغيّروا الأحكام اتّباعاً للهوى، وكذّبوا الرسل، وقتلوا الأحبار، فأنَّى يَكون هؤلاء قد أسلموا لله، وأكبر مُبطل لذلك هو تكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم دون النظر في دلائل صدقه...
وبعد ذلك إذا كان في الإسلام خضوع، فإن الحق يأتي بأشرف شيء في الإنسان ليجعله مظهر الخضوع. لأن الوجه هو السمة العالية المميزة، وهو الذي يظهر عليه انفعالات الأحداث في الكون من سرور أو حزن، ويظهر عليه أنك قد تكون قد سجدت وأنت كاره للسجود، أو سجدت وأنت مقرب لله سبحانه وتعالى فيمتلئ الوجه بالبشر والبشاشة...
إذن {فعليك البلاغ} نأخذ منها الفهم الواضح أن البلاغ لا تنتهي مهمته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما يشمل كل عالم بالبلاغ الذي وصل إلى رسول الله وآمن به، فقد كان لهم في رسول الله أسوة حسنة، ويوضح الحق ذلك في آية أخرى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110]...
ويقول الحق في آية أخرى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ...} [الحج: 78] ومعنى ذلك أنكم تشهدون على الناس أنكم أبلغتموهم رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن لم يقم بإبلاغ الناس برسالة رسول الله فهو لم يأخذ ميراث النبوة، وميراث النبوة كما يكون شرف تبليغ، فهو أيضا تجلّد وتحمل، إن ميراث النبوة يكون مرة هو نيل شرف التبليغ لرسالةً رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومرة أخرى يكون ميراث النبوة هو جلادة التحمل، في سبيل أداء الرسالة، وجلادة التحمل هي التي يجب أن يتصف بها أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فكلما ورثناه نحن المسلمين في شرف النبوة فإننا نرثه في جلادة التحمل، وهذا هو معنى القول الحق: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ} [الحج: 78]...
فما معنى الأسوة إذن؟ إن الأسوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم تقتضي أنه ما دام قد تحمل بجلادة بلاغ الناس في رسالته، فعلينا ايضا أن نقتدي به. لقد ناضل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى أتباع رسول الله أن يناضلوا في سبيل نشر الدعوة، فإن رأيت أهل الدين في استرخاء وترهل وعدم قدرة على النضال في سبيل البلاغ عن الله فلتعلم أن هؤلاء القوم لن يأخذوا ميراث النبوة. ولذلك إذا رأيت عالما من علماء الإسلام ليس له أعداء فأعلم أنه قد نقص ميراثه من ميراث الأنبياء...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
إن الدين هو الإسلام، هذا هو الذي ينبغي أن يعلنه النبي على الناس كافة، لأن ذلك هو سبيل الانفتاح الواعي على الحق الآتي من الله، في مواقع الجدال والنزاع، وهذا ما أراد الله لنبيه أن يعلنه لكل من يحاجه. فقد أسلم وجهه لله، من خلال إسلامه الروحي والعملي، كما أسلم أتباعه وجههم لله من خلال التزامهم بخط الرسالة والرسول، الذي هداهم إلى العقيدة الحقة والخط الصحيح...
وفي ضوء ذلك، تنطلق الدعوة إلى الحوار العلمي الموضوعي الذي يرتكز على الحجة والبرهان لكل الذين يختلفون مع المسلمين في الدين أو في الرأي في أيّ جانب من جوانب وعي الحقيقة المتحركة في الحياة من دون أية عقدةٍ ذاتيةٍ أو مشكلةٍ نفسيةٍ، لأن المسألة عندهم هو أنهم أسلموا وجوههم لله، فهو الذي يتوجهون إليه بعقولهم لتكتشف من خلال هدايته الحقيقة كل الحقيقة في قضايا العقيدة والحياة...
وتبقى القضية أن على الآخرين الاستجابة لهذه الدعوة الإنسانية الحضارية الحوارية من أجل الانطلاق نحو الموقف الواحد على أساس العقل الواعي والفكر الصحيح، وهذا هو المنطق الذي أراد الله لنبيِّه وللمسلمين من أتباعه أن يخاطبوا به أهل الكتاب ليقودوهم إلى إسلام وجوههم لله، كما أسلم النبي ومن اتبعه وجوههم له، ليلتقي الجميع على الإسلام الذي يمثل روحية البحث عن الحقيقة من خلال الفكر والحوار...
{وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ} هم المشركون، لأنهم لم يملكوا كتاباً سماوياً حتى يكون حافزاً لهم على تعلم القراءة والكتابة كما قيل. قل لهم، ممّا تثيره أمامهم من البينات والحجج على أحقيّة الرسالة: {ءَأَسْلَمْتُمْ}؟ فإذا استجابوا لك في طريقة الحوار الخالي من التعقيد والتعصب، وفي مواجهتهم للحقائق بروح منفتحة خاشعة لله ولآياته، فقد اهتدوا إلى الجوّ الطاهر الذي يهديهم إلى الحق في اتباع سبيلك في ما بُلِّغت وفي ما هديت، {فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ} وأعرضوا وانطلقوا يكيدون لك في خط العناد والاستكبار، فلا تحزن... {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبلاغُ} وتلك هي مسؤوليتك التي قمت بها خير قيام، وعلينا الحساب، فليست مسؤوليتك أن تحاسبهم أو تعاقبهم، فقد أديت ما عليك من واجب الإبلاغ والإنذار وانتهت مهمتك عند هذا الحدّ من خلال صفتك كرسول يبلغ رسالة الله {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} ويبقى لله أن يواجههم بنتائج أعمالهم، فإنه بصير بعباده في كل شيء...
وقد نستوحي من ذلك كيف نواجه بعض الفئات التي ندخل معها في قضايا الحوار، فإن من الضروري لنا أن نواجه الموقف في داخل وجداننا من موقع الإسلام لله، الذي يجعل الإنسان يتقدم إلى الحوار من خلال الروح الطيبة النظيفة التي أسلمت فكرها لله، لا من خلال الأفق الضيق الذي يقوده التعصب الأعمى، فإننا نلاحظ في هذا المجال أن الدعاة إلى الله، قد يتحركون من موقع العقدة الذاتية ضد خصومهم، فيمارسون بعض الأساليب التي لا تتفق مع خط الإيمان وأسلوبه العملي في الحوار، فيسيئون إلى الفكرة من حيث يخيّل إليهم أنهم يحسنون صنعاً، ولذلك، فلا بد لهم من أن يرتفعوا إلى مستوى هذا الأسلوب الذي يعلن فيه الرسول إسلامه لله، من موقع الحاجة إلى تأكيد هذا الإسلام في العقيدة والموقف والحوار. ثم يبدأ الحوار من هذه القاعدة، ليثير السؤال أمامهم عن وصولهم إلى القناعة التي تقودهم إلى إسلام الوجه والقلب واللسان والعمل لله، ويحاول أن يقدم لهم كل الوسائل التي تقودهم إلى ذلك، فإن لم يهتدوا بعد استنفاد كل الأساليب، فلا مجال للتعقيد والانفعال واللجوء إلى السباب وغيره من الأشياء التي تعبّر عما في الذات من الحالات الانفعالية، بل على الإنسان أن ينسحب بكل هدوء ويترك الآخرين لضلالهم بعد أن أقام عليهم الحجة، فقد أدّى واجبه، لأن خطّ الدعوة إلى الله يتمثل في إقناع الآخرين بالحق، أو في إقامة الحجة عليهم، فإذا بلغ إلى أحدهما، فقد انتهت مهمته، {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}...