تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير  
{فَإِنۡ حَآجُّوكَ فَقُلۡ أَسۡلَمۡتُ وَجۡهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِۗ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡأُمِّيِّـۧنَ ءَأَسۡلَمۡتُمۡۚ فَإِنۡ أَسۡلَمُواْ فَقَدِ ٱهۡتَدَواْۖ وَّإِن تَوَلَّوۡاْ فَإِنَّمَا عَلَيۡكَ ٱلۡبَلَٰغُۗ وَٱللَّهُ بَصِيرُۢ بِٱلۡعِبَادِ} (20)

ثم قال تعالى : { فَإِنْ حَاجُّوكَ } أي : جادلوك في التوحيد { فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ } أي : فقل أخلصت عبادتي لله وحده ، لا شريك له ولا ند [ له ]{[4906]} ولا ولد ولا صاحبة له { وَمَنِ اتَّبَعَنِ } على ديني ، يقول كمقالتي ، كما قال تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ]{[4907]} } [ يوسف : 108 ] .

ثم قال تعالى آمرًا لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى طريقته ودينه ، والدخول في شرعه وما بعثه الله به الكتابيين{[4908]} من الملتين والأميين من المشركين فقال : { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ } أي : والله عليه حسابهم وإليه مرجعهم ومآبهم ، وهو الذي يهدي من يشاء ، ويضل من يشاء ، وله الحكمة في ذلك ، والحجة البالغة ؛ ولهذا قال : { وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } أي : هو{[4909]} عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلالة ، وهو الذي { لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [ الأنبياء : 33 ] وما ذاك{[4910]} إلا لحكمته ورحمته .

وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته ، صَلوات الله وسلامه{[4911]} عليه ، إلى جميع الخلق ، كما هو معلوم من دينه ضرورة ، وكما دل عليه الكتاب والسنة في غير{[4912]} ما آية وحديث ، فمن ذلك قوله تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [ الأعراف : 158 ] وقال تعالى : { تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } [ الفرقان : 1 ] وفي الصحيحين وغيرهما ، مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة ، أنه بعث كتبه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله ملوك الآفاق ، وطوائف {[4913]} بني آدم من عربهم وعجمهم ، كتابِيِّهم وأمِّيِّهم ، امتثالا لأمر الله له بذلك . وقد روى عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن هَمَّام ، عن أبي هريرة ، عن النبي{[4914]} صلى الله عليه وسلم أنه قال : " والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لا يَسْمَعُ بِي أحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأمَّةِ يَهُوديّ وَلا نَصْرَانِي ، ومَاتَ وَلمَ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أرْسلتُ بِهِ ، إلا كان مِنْ أَهْلِ النَّارِ " رواه مسلم{[4915]} .

وقال صلى الله عليه وسلم : " بُعِثْتُ إلَى الأحْمَرِ والأسْودِ " {[4916]} وقال : " كَانَ النَّبيُّ يُبْعَثُ إلَى قَوْمِه خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إلَى النَّاسِ عَامَّةً " . وقال الإمام أحمد : حدثنا مُؤَمِّل ، حدثنا حَمَّاد ، حدثنا ثابت عن أنس ، رضي الله عنه : أن غلاما يهوديا كان يَضع للنبي صلى الله عليه وسلم وَضُوءه ويناوله نعليه ، فمرض ، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه وأبوه قاعد عند رأسه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " يا فُلانُ ، قُلْ : لا إله إلا الله " فَنَظَرَ إلَى أبيه ، فَسَكَتَ أبوه ، فأعَادَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ، فَنَظَرَ إلَى أَبيهِ ، فَقَالَ أبُوهُ : أطِعْ أبا الْقَاسِم ، فَقَالَ الْغُلامُ : أشْهَدُ أن لا إلَهَ إلا الله وأَنَّكَ رَسُولُ اللهِ ، فَخَرَجَ النَّبَيُّ{[4917]} صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ : " الْحَمْدُ للهِ الَّذِي أخْرَجَهُ بِي مِنِ النَّارِ " أخرجه البخاري في الصحيح{[4918]} إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث .


[4906]:زيادة من جـ، ر، أ، و.
[4907]:زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".
[4908]:في جـ: "أهل الكتابين".
[4909]:في أ، و: "وهو".
[4910]:في أ، و: "وذلك".
[4911]:في جـ: "الله".
[4912]:في أ: "وغير".
[4913]:في و: "من طوئف".
[4914]:في جـ، ر، أ، و: "رسول الله".
[4915]:صحيح مسلم برقم (153).
[4916]:في جـ، ر، أ، و: "الأسود والأحمر".
[4917]:في جـ، ر، أ، و: "رسول الله".
[4918]:المسند (3/175) والبخاري برقم (1356).