المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ فَٱسۡلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلٗاۚ يَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ فِيهِ شِفَآءٞ لِّلنَّاسِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (69)

وقوله تعالى : { ثم كلي من كل الثمرات } الآية ، المعنى : ثم ألهمها أن كلي ، فعطف { كلي } على { اتخذي } ، و { من } ، للتبعيض ، أي : كلي جزءاً ، أو شيئاً من كل الثمرات ، وذلك أنها إنما تأكل النوار من أشجار ، و «السبل » ، الطرق : وهي مسالكها في الطيران وغيرها ، وأضافها إلى : «الرب » من حيث هي ملكه وخلقه التي يسر لك ربك ، وقوله : { ذللاً } ، يحتمل أن يكون حالاً من { النخل } ، أي : مطيعة منقادة لما يسرت له ، قاله قتادة ، وقال ابن زيد : فهم يخرجون بالنحل ينتجعون ، وهي تتبعهم ، وقرأ { أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً فهم لها مالكون وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون }{[7363]} [ يس : 71-72 ] ، ويحتمل أن يكون حالاً من «السبل » ، أي : مسهلة مستقيمة ، قال مجاهد : لا يتوعر عليها سبيل تسلكه ، ثم ذكر تعالى على جهة تعديد النعمة والتنبيه على العبرة ، أمر العسل في قوله : { يخرج من بطونها } ، وجمهور الناس على أن العسل يخرج من أفواه النحل ، وورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أنه قال في تحقير الدنيا : أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة ، وأشرف شرابه رجيع نحلة ، فظاهر هذا أنه من غير الفم ، و «اختلاف الألوان » في العسل ، بحسب اختلاف النحل والمراعي ، وقد يختلف طعمه بحسب اختلاف المراعي ، ومن هذا المعنى : قول زينب للنبي صلى الله عليه وسلم : جرست نحْلُهُ العرفطَ حين شبهت رائحته برائحة المغافير{[7364]} ، وقوله : { فيه شفاء للناس } ، الضمير للعسل ، قاله الجمهور : ولا يقتضي العموم في كل علة ، وفي كل إنسان ، بل هو خبر عن أنه يشفي ، كما يشفي غيره من الأدوية في بعض دون بعض ، وعلى حال دون حال ، ففائدة الآية : إخبار منبه منه في أنه دواء ، كما كثر الشفاء به ، وصار خليطاً ومعيناً للأدوية في الأشربة والمعاجين ، وقد روي عن ابن عمر ، أنه كان لا يشكو شيئاً إلا تداوى بالعسل ، حتى إنه يدهن به الدمل والضرحة ، ويقرأ : { فيه شفاء للناس } .

قال القاضي أبو محمد : وهذا يقتضي أنه يرى الشفاء به على العموم ، وقال مجاهد : الضمير للقرآن ، أي : فيه شفاء ، وذهب قوم من أهل الجهالة إلى أن هذه الآية إنما يراد بها : أهل البيت ورجال بني هاشم ، وأنهم النحل ، وأن الشراب القرآن والحكمة ، وقد ذكر بعضهم هذا في مجلس المنصور أبي جعفر العباسي : فقال له رَجل ممن حضر : جعل الله طعامك وشرابك مما يخرج من بطون بني هاشم ، فأضحك الحاضرين ، وبُهت الآخر ، وظهرت سخافة قوله ، وباقي الآية بين .


[7363]:الآية (71) من سورة (يس).
[7364]:قال ابن الأثير في النهاية: المعنى: أكلت النحل، والعرفط: شجر، وفي المعجم الوسيط: جرس النحل نور الشجرة: لحسه للتعسيل، والعرفط: نبات من العضاه من الفصيلة القرينة، والمغافير: جمع مغفارن وهو صمغ حلو يسيل من شجر العرفط يؤكل، أو يوضع في ثوب ثم ينضح بالماء فيشرب، وحديث المغافير أو العسل رواه البخاري، ولفظه: (عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عسلا عند زينب ابنة جحش ويمكث عندها، فواطأت أنا وحفصة عن أيتنا دخل عليها فلتقل له: أكلت مغافير، إني أجد منك ريح مغافير، قال: لا، ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب ابنة جحش، فلن أعود، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحدا).