ثم قال تعالى : { ثم كلي من كل الثمرات } لفظة «من » ههنا للتبعيض أو لابتداء الغاية ، ورأيت في «كتب الطب » أنه تعالى دبر هذا العالم على وجه ، وهو أنه يحدث في الهواء طل لطيف في الليالي ويقع ذلك الطل على أوراق الأشجار ، فقد تكون تلك الأجزاء الطلية لطيفة صغيرة متفرقة على الأوراق والأزهار ، وقد تكون كثيرة بحيث يجتمع منها أجزاء محسوسة .
أما القسم الثاني : فهو مثل الترنجبين فإنه طل ينزل من الهواء ويجتمع على أطراف الطرفاء في بعض البلدان وذلك محسوس .
وأما القسم الأول : فهو الذي ألهم الله تعالى هذا النحل حتى أنها تلتقط تلك الذرات من الأزهار وأوراق الأشجار بأفواهها وتأكلها وتغتذي بها ، فإذا شبعت التقطت بأفواهها مرة أخرى شيئا من تلك الأجزاء وذهبت بها إلى بيوتها ووضعتها هناك ، لأنها تحاول أن تدخر لنفسها غذاءها ، فإذا اجتمع في بيوتها من تلك الأجزاء الطلية شيء كثير فذاك هو العسل ، ومن الناس من يقول : إن النحل تأكل من الأزهار الطيبة والأوراق المعطرة أشياء ، ثم إنه تعالى يقلب تلك الأجسام في داخل بدنها عسلا ، ثم إنها تقيء مرة أخرى فذاك هو العسل ، والقول الأول أقرب إلى العقل وأشد مناسبة إلى الاستقراء ، فإن طبيعة الترنجبين قريبة من العسل في الطعم والشكل ، ولا شك أنه طل يحدث في الهواء ويقع على أطراف الأشجار والأزهار فكذا ههنا . وأيضا فنحن نشاهد أن هذا النحل إنما يتغذى بالعسل ، ولذلك فإنا إذا استخرجنا العسل من بيوت النحل نترك لها بقية من ذلك لأجل أن تغتذى بها ، فعلمنا أنها إنما تغتذى بالعسل وأنها إنما تقع على الأشجار والأزهار لأنها تغتذى بتلك الأجزاء الطلية العسلية الواقعة من الهواء عليها .
إذا عرفت هذا فنقول : قوله تعالى : { ثم كلي من كل الثمرات } كلمة ( من ) ههنا تكون لابتداء الغاية ، ولا تكون للتبعيض على هذا القول .
ثم قال تعالى : { فاسلكي سبل ربك } والمعنى : ثم كلي كل ثمرة تشتهينها فإذا أكلتها فاسلكي سبل ربك في الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل ، أو يكون المراد : فاسلكي في طلب تلك الثمرات سبل ربك . أما قوله : { ذللا } ففيه قولان : الأول : أنه حال من السبل لأن الله تعالى ذللها لها ووطأها وسهلها ، كقوله : { هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا } الثاني : أنه حال من الضمير في { فاسلكي } أي وأنت أيها النحل ذلل منقادة لما أمرت به غير ممتنعة .
ثم قال تعالى : { يخرج من بطونها } وفيه بحثان :
البحث الأول : أن هذا رجوع من الخطاب إلى الغيبة . والسبب فيه أن المقصود من ذكر هذه الأحوال أن يحتج الإنسان المكلف به على قدرة الله تعالى وحكمته وحسن تدبيره لأحوال العالم العلوي والسفلي ، فكأنه تعالى لما خاطب النحل بما سبق ذكره خاطب الإنسان وقال : إنا ألهمنا هذا النحل لهذه العجائب ، لأجل أن يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه .
البحث الثاني : أنه قد ذكرنا أن من الناس من يقول : العسل عبارة عن أجزاء طلية تحدث في الهواء وتقع على أطراف الأشجار وعلى الأوراق والأزهار ، فيلقطها الزنبور بفمه ، فإذا ذهبنا إلى هذا الوجه كان المراد من قوله : { يخرج من بطونها } أي من أفواهها ، وكل تجويف في داخل البدن فإنه يسمى بطنا ، ألا ترى أنهم يقولون : بطون الدماغ وعنوا أنها تجاويف الدماغ ، وكذا ههنا يخرج من بطونها أي من أفواهها ، وأما على قول أهل الظاهر ، وهو أن النحلة تأكل الأوراق والثمرات ثم تقيء فذلك هو العسل فالكلام ظاهر .
ثم قال تعالى : { شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس } اعلم أنه تعالى وصف العسل بهذه الصفات الثلاثة :
فالصفة الأولى : كونه شرابا والأمر كذلك ، لأنه تارة يشرب وحده وتارة يتخذ منه الأشربة .
والصفة الثانية : قوله : { مختلف ألوانه } والمعنى : أن منه أحمر وأبيض وأصفر . ونظيره قوله تعالى : { ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود } والمقصود منه : إبطال القول بالطبع ، لأن هذا الجسم مع كونه متساوي الطبيعة لما حدث على ألوان مختلفة ، دل ذلك على أن حدوث تلك الألوان بتدبير الفاعل المختار ، لا لأجل إيجاد الطبيعة .
والصفة الثالثة : قوله : { فيه شفاء للناس } وفيه قولان :
القول الأول : وهو الصحيح أنه صفة للعسل .
فإن قالوا : كيف يكون شفاء للناس وهو يضر بالصفراء ويهيج المرار ؟
قلنا : إنه تعالى لم يقل : إنه شفاء لكل الناس ولكل داء وفي كل حال ، بل لما كان شفاء للبعض من بعض الأدواء صلح بأن يوصف بأنه فيه شفاء ، والذي يدل على أنه شفاء في الجملة ، أنه قل معجون من المعاجين إلا وتمامه وكماله إنما يحصل بالعجن بالعسل ، وأيضا فالأشربة المتخذة منه في الأمراض البلغمية عظيمة النفع .
والقول الثاني : وهو قول مجاهد أن المراد : أن القرآن شفاء للناس ، وعلى هذا التقدير فقصة تولد العسل من النحل تمت عند قوله : { يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه } ثم ابتدأ وقال : { فيه شفاء للناس } أي في هذا القرآن حصل ما هو شفاء للناس من الكفر والبدعة ، مثل هذا الذي في قصة النحل . وعن ابن مسعود : أن العسل شفاء من كل داء ، والقرآن شفاء لما في الصدور .
واعلم أن هذا القول ضعيف ويدل عليه وجهان : الأول : أن الضمير في قوله : { فيه شفاء للناس } يجب عوده إلى أقرب المذكورات ، وما ذاك إلا قوله : { شراب مختلف ألوانه } وأما الحكم بعود هذا الضمير إلى القرآن مع أنه غير مذكور فيما سبق ، فهو غير مناسب . والثاني : ما روى أبو سعيد الخدري : أنه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : إن أخي يشتكي بطنه فقال : « اسقه عسلا » فذهب ثم رجع فقال : قد سقيته فلم يغن عنه شيئا ، فقال عليه الصلاة والسلام : « اذهب واسقه عسلا » فذهب فسقاه ، فكأنما نشط من عقال ، فقال : « صدق الله وكذب بطن أخيك » وحملوا قوله : « صدق الله وكذب بطن أخيك » على قوله : { فيه شفاء للناس } وذلك إنما يصح لو كان هذا صفة للعسل .
فإن قال قائل : ما المراد بقوله عليه السلام : « صدق الله وكذب بطن أخيك » ؟
قلنا : لعله عليه السلام علم بنور الوحي أن ذلك العسل سيظهر نفعه بعد ذلك ، فلما لم يظهر نفعه في الحال مع أنه عليه السلام كان عالما بأنه سيظهر نفعه بعد ذلك ، كان هذا جاريا مجرى الكذب ، فلهذا السبب أطلق عليه هذا اللفظ .
ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله : { إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون } واعلم أن تقرير هذه الآية من وجوه : الأول : اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والمعارف الغامضة مثل بناء البيوت المسدسة وسائر الأحوال التي ذكرناها . والثاني : اهتداؤها إلى جميع تلك الأجزاء العسلية من أطراف الأشجار والأوراق . والثالث : خلق الله تعالى الأجزاء النافعة في جو الهواء ، ثم إلقاؤها على أطراف الأشجار والأوراق ، ثم إلهام النحل إلى جمعها بعد تفريقها وكل ذلك أمور عجيبة دالة على أن إله العالم بنى ترتيبه على رعاية الحكمة والمصلحة ، والله أعلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.