محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ فَٱسۡلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلٗاۚ يَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ فِيهِ شِفَآءٞ لِّلنَّاسِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (69)

[ 69 ] { ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون 69 } .

{ ثم كلي من كل الثمرات } ، أي : من كل ثمرة تشتهيها ، حلوها ومرها . فالعموم عرفيّ ، أو لفظ ( كل ) للتكثير . أو هو عام مخصوص بالعادة . ولو أبقي الأمر على ظاهره لجاز ؛ لأنه لا يلزم من الأمر بالأكل من جميع الثمرات ، الأكل منها ؛ لأن الأمر للتخلية والإباحة .

/ لطيفة : إنما أوثر { من } في قوله تعالى : { من الجبال } الخ ، على ( في ) دلالة على معنى التبعيض . وأن لا تبني بيوتها في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش ، ولا في كل مكان منها . نبه عليه الزمخشري .

قال الناصر : ويتزين هذا المعنى الذي نبه عليه في تبعيض ( من ) ، المتعلقة باتخاذ البيوت ، بإطلاق الأكل . كأنه تعالى وكل الأكل إلى شهوتها واختيارها . فلم يحجر عليها فيه ، وإن حجر عليها في البيوت ، وأمرت باتخاذها في بعض المواضع دون بعض ؛ لأن مصلحة الأكل حاصلة على الإطلاق باستمراء مشتهاها منه . وأما البيوت فلا تحصل مصلحتها في كل موضع . ولهذا المعنى دخلت ( ثم ) ؛ لتفاوت الأمر بين الحجر عليها في اتخاذ البيوت ، والإطلاق لها في تناول الثمرات . كما تقول راع الحلال فيما تأكله ، ثم كل أي شيء شئت . فتوسط ( ثم ) ؛ لتفاوت الحجر والإطلاق . فسبحان اللطيف الخبير .

وقوله تعالى : { فاسلكي سبل ربك ذللا } ، أي : الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل . فالسبل مجاز عن طرق العمل ، وأنواعها ، أو على حقيقتها . أي : إذا أكلت الثمار في المواضع النائية ، فاسلكي راجعة إلى بيوتك ، سبل ربك ، لا تتوعّر عليك ولا تضلين فيها . و { ذللا } ، جمع ذلول ، حال من ( السبل ) ، أي : مذللة ، ذللها الله لك وسهلها . فهي تسلك من هذا الجو العظيم . والبراري الشاسعة والأودية والجبال الشاهقة . ثم تعود كل واحدة منها إلى بيتها لا تحيد عنه يمنة ولا يسرة . وقوله تعالى : { يخرج من بطونها شراب } ، استئناف ، عدل به عن خطاب النحل ؛ لبيان ما يظهر منها من عجيب صنعه تعالى ، تعديدا للنعم ، وتنبيها على العبر ، وإرشادا إلى الآيات العظيمة من هذا الحيوان الضعيف . وسمي العسل شرابا ؛ لأنه يشرب مع الماء وغيره . { مختلف ألوانه } ، أي : فمنه أبيض وأصفر وأحمر ؛ لاختلاف ما يؤكل من النّور أو مزاجها . { فيه شفاء للناس } ؛ لأنه من جملة الأشفية والأدوية في بعض الأمراض . وله دخل في أكثر ما به الشفاء والمعاجين . وقل عجون من المعاجين ، لم يذكر الأطباء فيه العسل . وقد قام الآن مقامه السكر ، لكثرته بالنسبة إليه . وفي الصحيحين{[5290]} عن أبي سعيد الخدريّ ، رضي الله عنه : " أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن أخي استطلق بطنه ، فقال : " اسقه عسلا " . فذهب فسقاه عسلا ، فقال : يا رسول الله ! سقيته عسلا ما زاده إلا استطلاقا . قال : " اذهب فاسقه عسلا " ، فذهب فسقاه عسلا ، ثم جاء فقال : يا رسول الله ! ما زاده إلا استطلاقا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صدق الله ، وكذب بطن أخيك ، اذهب فاسقه عسلا " . فذهب فسقاه عسلا فبرأ " .

قال ابن كثير . قال بعض العلماء بالطب : كان هذا الرجل عنده فضلات . فلما سقاه عسلا وهو حار ، تحللت فأسرعت في الاندفاع ، فزاده إسهالا ، فاعتقد الأعرابي أن هذا يضره ، وهو مصلحة لأخيه . ثم سقاه فازداد التحليل والدفع . ثم سقاه فكذلك . فلما اندفعت الفضلات الفاسدة المضرة بالبدن ، استمسك بطنه ، وصلح مزاجه ، واندفعت الأسقام والآلام ، ببركة إشارته عليه الصلاة والسلام . انتهى .

وفي ( العناية ) للشهاب هنا ، قصة عن طبقات الأطباء ، فيها تأييد لقصة الأعرابي فانظرها .

{ إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون } ، أي : فيعتبرون ويستدلون على وحدانيته سبحانه ، وانفراده بألوهيته . وأنه هو الذي ألهم هذه الدواب الضعيفة ، فعلمت مساقط الأنداء ، من وراء البيداء ، فتقع على كل حرارة عبقة ، وزهرة أنفة ، ثم تصدر عنها بما تحفظه رضابا ، وتلفظه شرابا .

/ قال الحجة الغزالي ( في الإحياء ) : انظر إلى النحل كيف أوحى الله إليها حتى اتخذت من الجبال بيوتا . وكيف استخرج من لعابها الشمع والعسل . وجعل أحدهما ضياء ، والآخر شفاء . ثم لو تأملت عجائب أمرها في تناولها الأزهار والأنوار ، واحترازها من النجاسات والأقدار ، وطاعتها لواحد من جملتها ، وهو أكبرها شخصا ، وهو : أميرها ، ثم ما سخر الله لأميرها من العدل والإنصاف بينها ، حتى أنه ليقتل منها على باب المنفذ كل ما وقع منها على نجاسة - لقضيت من ذلك العجب إن كنت بصيرا في نفسك ، وفارغا من هم بطنك وفرجك ، وشهوات نفسك في معاداة أقرانك ، وموالاة إخوانك . ثم دع عنك جميع ذلك ، وانظر إلى بنيانها بيتا من الشمع ، واختيارها من جميع الأشكال الشكل المسدس ، فلا تبني بيتها مستديرا ، ولا مربعا ، ولا مخمسا ، بل مسدسا ؛ لخاصية في الشكل المسدس ، يقصر فهم المهندس عن درك ذلك . وهو أن أوسع الأشكال وأحواها المستدير وما يقرب منه . فإن المربع تخرج منه زوايا ضائعة . وشكل النحل مستدير مستطيل . فترك المربع حتى لا تبقى الزوايا فارغة . ثم لو بناها مستديرة لبقيت خارج البيوت فرج ضائعة . فإن الأشكال المستديرة إذا اجتمعت لم تجتمع متراصة . ولا شكل في الأشكال ذوات الزوايا يقرب في الاحتواء من المستدير . ثم تتراص الجملة منه ، بحيث لا تبقى بعد اجتماعها فرجة إلا المسدس . وهذه خاصية هذا الشكل . فانظر كيف ألهم الله تعالى النحل ، على صغر جرمه ، ذلك . لطفا به وعناية بوجوده ، فيما هو محتاج إليه . ليهنأ عيشه . فسبحانه ما أعظم شأنه وأوسع لطفه وامتنانه . وفي طبعه : أنه يهرب بعضه من بعض ، ويقاتل بعضه بعضا في الخلايا ، ويلسع من دنا من الخلية . وربما هلك الملسوع . وإذا أهلك شيء منها داخل الخلايا ، أخرجته الأحياء إلى خارج . وفي طبعه أيضا النظافة . فلذلك يخرج رجيعه من الخلية ؛ لأنه منتن الريح . وهو يعمل زماني الربيع والخريف . والذي يعمله في الربيع أجود . والصغير أعمل من الكبير . وهو يشرب من الماء ما كان صافيا عذبا . يطلبه حيث كان . ولا يأكل من العسل إلا قدر شبعة . وإذا قلّ العسل في الخلية ، فذقه بالماء ليكثر ، خوفا على نفسه من نفاذه ؛ لأنه إذا نفذ ، أفسد النحل بيوت الملوك ، وبيوت الذكور . وربما قتلت ما كان منها هناك .

/ قال حكيم من اليونان لتلامذته : كونوا كالنحل في الخلايا قالوا : وكيف النحل في الخلايا ؟ قال : إنها لا تترك عندها بطالا إلا نفته وأبعدته وأقصته عن الخلية ؛ لأنه يضيق المكان ، ويفني العسل ، ويعلم النشيط الكسل .

والنحل يسلخ جلده كالحيات . وتوافقه الأصوات اللذيذة المطربة ، ويضره السوس . ودواؤه أن يطرح له في كل خلية كف ملح . وأن يفتح في كل شهر مرة . ويدخن بأخثاء البقر . وفي طبعه أنه متى طار من الخلية ، يرعى ثم يعود ، فتعود كل نحلة إلى مكانها لا تخطئه . كذا في ( حياة الحيوان ) .

وذكر الإمام الغزالي أيضا في كتاب ( الحكمة في خلق المخلوقات ) : أن الله تعالى جعل للنحل رئيسا ، تتبعه وتهتدي به فيما تناله من أقواتها . فإن ظهر مع الرئيس الذي تتبعه رئيس آخر من جنسه ، قتل أحدهما الآخر . وذلك لمصلحة ظاهرة ، وهو خوف الافتراق ؛ لأنهما إذا كانا أميرين ، وسلك كل واحد منهما فجّا ، افترق النحل خلفهما . ثم إنها ألهمت أن ترعى رطوبات من على الأزهار . فيستحيل في أجوافها عسلا . فعلم من هذا التسخير ما فيه من مصالح العباد ، من شراب فيه شفاء للناس . كما أخبر سبحانه وتعالى . وفيه غذاء وملاذ العباد . وفيه من أقوات فضلات عظيمة ، جعلت لمنافع بني آدم . فهي مثل ما يفضل من اللبن الذي خلق لمصالح أولاد البهائم وأقواتها . وما فضل من ذلك ، ففيه من البركة والكثرة ما ينتفع به الناس . ثم انظر ما تحمله النحل من الشمع في أرجلها ، لترعى فيه العسل وتحفظه . فلا تكاد تجد وعاء أحفظ للعسل ، من الشمع في الأجناح . فانظر في هذه الذبابة ، هل في علمها وقدرتها جمع الشمع مع العسل ؟ أو عندها من المعرفة . بحيث رتبت حفظ العسل مدة طويلة ، باستقراره في الشمع ، وصيانته في الجبال والشجر ، في المواضع التي تحفظه ولا يفسد فيها ! ثم انظر لخروجها نهارا لرعيها ورجوعها عشية إلى أماكنها ، وقد حملت ما يقوم بقوتها ويفضل عنها ، ولها في ترتيب بيوتها من الحكمة في بنائها ، حافظ لما تلقيه من أجوافها من العسل ، / ولها جهة أخرى تجعل فيها برازها ، مباعدا عن مواضع العسل . وفيها غير هذا مما انفرد الله بعلمه .


[5290]:أخرجه البخاري في: 76- كتاب الطب، 4- باب الدواء بالعسل، وقوله تعالى: {فيه شفاء للناس} حديث 2251. وأخرجه مسلم في: 39- كتاب السلام، حديث رقم 91 (طبعتنا).