إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ فَٱسۡلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلٗاۚ يَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ فِيهِ شِفَآءٞ لِّلنَّاسِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (69)

{ ثُمَّ كُلِي مِن كُلّ الثمرات } ، من كل ثمرة تشتهينها ، حُلوِها ومُرِّها ، { فاسلكي } ، ما أكلتِ منها ، { سُبُلَ رَبّكِ } ، أي : مسالكَه التي برَأها ، بحيث يُحيل فيها بقدرته القاهرة ، النَّوَر{[486]} المرَّ عسلاً من أجوافك ، أو فاسلكي الطرقَ التي ألهمك في عمل العسلِ ، أو فاسلكي راجعةً إلى بيوتك سبلَ ربك ، لا تتوعّر عليك ، ولا تلتبس . { ذُلُلاً } ، جمع ذَلول ، وهو حال من السبل ، أي : مذللة غيرَ متوعرة ، ذللها الله سبحانه وسهلها لك ، أو من الضمير في اسلكي ، أي : اسلكي منقادةً لما أُمرتِ به ، { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا } ، استئناف عُدل به عن خطاب النحلِ ؛ لبيان ما يظهر منها من تعاجيب صنعِ الله تعالى ، التي هي موضعُ العبرة ، بعد ما أُمِرتْ بما أمرتْ . { شَرَابٌ } ، أي : عسل ؛ لأنه مشروب ، واحتج به وبقوله تعالى : { كُلِي } ، من زعم : أن النحلَ تأكلُ الأزهار والأوراقَ العطِرة ، فتستحيل في بطنها عسلاً ، ثم تقيءُ ادّخاراً للشتاء ، ومن زعم : أنها تلتقط بأفواهها أجزاءً قليلةً حُلوة صغيرة متفرقةً على الأزهار والأوراق ، وتضعها في بيوتها ، فإذا اجتمع فيها شيءٌ كثيرٌ يكون عسلاً ، فسّر البطونَ بالأفواه ، { مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ } ، أبيضُ ، وأسودُ ، وأصفرُ ، وأحمرُ ، حسب اختلاف سنِّ النحل ، أو الفصلِ ، أو الذي أخذت منه العسل ، { فِيهِ شفاء لِلنَّاسِ } ، إما بنفسه كما في الأمراض البلغمية ، أو مع غيره كما في سائر الأمراض ، إذ قلما يكون معجونٌ لا يكون فيه عسلٌ ، مع أن التنكيرَ فيه مُشعرٌ بالتبعية ، ويجوز كونه للتفخيم ، وعن قتادةَ ، أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن أخي يشتكي بطنه ، فقال عليه الصلاة والسلام : « اسقِه العسلَ » فذهب ثم رجع فقال : قد سقَيتُه فما نفع ، فقال : « اذهبْ فاسقِه عسلاً ، فقد صدق الله ، وكذب بطنُ أخيك » ، فسقاه ، فبرِئ . كأنما أُنْشِط من عِقال ، وقيل : الضميرُ للقرآن ، أو لِما بين الله تعالى من أحوال النحل . وعن ابن مسعود رضي الله عنه : « العسلُ شفاءٌ لكل داء ، والقرآنُ شفاء لما في الصدور » « فعليكم بالشفاءَين : العسلِ والقرآنِ » { إِنَّ في ذَلِكَ } ، الذي ذكر من أعاجيب آثار قدرةِ الله تعالى ، { لآيَةً } عظيمة ، { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ، فإن من تفكر في اختصاص النحلِ بتلك العلومِ الدقيقة والأفعالِ العجيبةِ ، المشتملةِ على حسن الصنعةِ ، وصِحة القسمة ، التي لا يقدر عليها حُذّاقُ المهندسين ، إلا بآلات دقيقةٍ ، وأدواتٍ أنيقة ، وأنظار دقيقة ، جزم قطعاً بأن له خالقاً قادراً حكيماً ، يلهمها ذلك ، ويهديها إليه جل جلاله .


[486]:النور: الزهر الأبيض.