جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري  
{ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ فَٱسۡلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلٗاۚ يَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ فِيهِ شِفَآءٞ لِّلنَّاسِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (69)

القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ كُلِي مِن كُلّ الثّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنّاسِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً لّقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ } .

يقول تعالى ذكره : ثم كلي أيتها النحل من الثمرات ، فاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ، يقول : فاسلكي طرق ربك ذُلُلاً ، يقول : مُذَلّلَةً لك ، والذّلُل : جمع ذَلُول .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء وحدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى : فاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً ، قال : لا يتوعّر عليها مكان سلكته .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : فاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً ، قال : طُرُقا ذُلُلا ، قال : لا يتوعّر عليها مكان سلكته .

وعلى هذا التأويل الذي تأوّله مجاهد ، الذلل من نعت السبل .

والتأويل على قوله : فاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً ، الذّلُل لك : لا يتوعر عليكِ سبيل سلكتيه ، ثم أسقطت الألف واللام ، فنصب على الحال .

وقال آخرون في ذلك بما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً : أي مطيعة .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ذُلُلاً قال : مطيعة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً قال : الذلول : الذي يُقاد ويُذهب به حيث أراد صاحبه ، قال : فهم يخرجون بالنحل ينتجعون بها ، ويذهبون وهي تتبعهم . وقرأ : أوَلمْ يَرَوْا أنّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمّا عَمِلَتْ أيْدِينا أنْعاما فَهُمْ لَهَا مالِكُونَ وَذلّلْناها لَهُمْ . . . . الاَية .

فعلى هذا القول ، الذّلُل من نعت النحل ، وكلا القولين غير بعيد من الصواب في الصحة وجهان مخرجان ، غير أنا اخترنا أن يكون نعتا للسّبل ؛ لأنها إليها أقرب .

وقوله : يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ ألْوَانُهُ ، يقول تعالى ذكره : يخرج من بطون النحل شراب ، وهو العسل ، مختلف ألوانه ؛ لأن فيها أبيض وأحمر وأسحر وغير ذلك من الألوان .

قال أبو جعفر : «أسحر » : ألوان مختلفة ، مثل أبيض يضرب إلى الحمرة .

وقوله : فِيهِ شِفاءٌ للنّاسِ ، اختلف أهل التأويل فيما عادت عليه الهاء التي في قوله : فِيهِ ، فقال بعضهم : عادت على القرآن ، وهو المراد بها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا نصر بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا المحاربيّ ، عن ليث ، عن مجاهد : فِيهِ شِفاءٌ للنّاسِ قال : في القرآن شفاء .

وقال آخرون : بل أريد بها العسل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ ألْوَانُهُ فِيهِ شِفاءٌ للنّاسِ ، ففيه شفاء كما قال الله تعالى من الأدواء ، وقد كان ينهي عن تفريق النحل وعن قتلها .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذكر أن أخاه اشتكى بطنه ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «اذْهَبْ فاسْقِ أخاكَ عَسَلاً » ثم جاءه فقال : ما زاده إلا شدة ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «اذْهَبْ فاسْقِ أخاكَ عَسَلاً ، فَقَدْ صَدَقَ اللّهُ وكَذَبَ بَطْنُ أخِيكَ » فسقاه ، فكأنما نُشِط من عِقال .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ ألْوَانُهُ فِيهِ شِفاءٌ للنّاسِ ، قال : جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحوه .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، قال : شفاءان : العسل شفاء من كلّ داء ، والقرآن شفاء لما في الصدور .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : فِيهِ شِفاءٌ للنّاسِ ، العسل .

وهذا القول ، أعني قول قتادة ، أولى بتأويل الآية ؛ لأن قوله : فِيهِ ، في سياق الخبر عن العسل ، فأن تكون الهاء من ذكر العسل ، إذ كانت في سياق الخبر عنه أولى من غيره .

وقوله : إنّ فِي ذلكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ ، يقول تعالى ذكره : إن في إخراج الله من بطون هذه النحل : الشراب المختلف ، الذي هو شفاء للناس ، لدلالة وحجة واضحة على من سخّر النحل وهداها لأكل الثمرات التي تأكل ، واتخاذها البيوت التي تنحت من الجبال والشجر والعروش ، وأخرج من بطونها ما أخرج من الشفاء للناس ، أنه الواحد الذي ليس كمثله شيء ، وأنه لا ينبغي أن يكون له شريك ولا تصحّ الألوهة إلا له .