قوله تعالى : { وقل الحق من ربكم } أي : ما ذكر من الإيمان والقرآن ، معناه : قل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا : أيها الناس قد جاءكم من ربكم الحق وإليه التوفيق والخذلان ، وبيده الهدى والضلال ، ليس إلي من ذلك شيء . { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } ، هذا على طريق التهديد والوعيد كقوله : { اعملوا ما شئتم } [ فصلت -40 ] . وقيل معنى الآية : وقل الحق من ربكم ، ولست بطارد المؤمنين لهواكم ، فإن شئتم فآمنوا وإن شئتم فاكفروا ، فإن كفرتم فقد أعد لكم ربكم ناراً أحاط بكم سرادقها ، وإن آمنتم فلكم ما وصف الله عز وجل لأهل طاعته . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في معنى الآية : من شاء الله له الإيمان آمن ، ومن شاء له الكفر ، كفر ، وهو قوله : { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله } [ الإنسان – 30 ] . { إنا أعتدنا } : أعددنا ، وهيأنا ، من الإعداد ، وهو العدة ، { للظالمين } للكافرين { ناراً أحاط بهم سرادقها } السرادق : الحجزة التي تطيف بالفساطيط .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنبأنا محمد بن أحمد بن الحارث ، أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أنبأنا عبد الله بن المبارك ، عن رشدين بن سعد ، حدثني عمرو بن الحارث ، عن دراج بن أبي السمح ، عن أبي الهيثم بن عبد الله ، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " سرادق النار أربعة جدر كثف كل جدار مثل مسيرة أربعين سنة " . قال ابن عباس : هو حائط من نار . وقال الكلبي :هو عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار كالحظيرة . وقيل : هو دخان يحيط بالكفار وهو الذي ذكره الله تعالى { انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب } [ المرسلات – 30 ] . { وإن يستغيثوا } ، من شدة العطش ، { يغاثوا بماء كالمهل } .
أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنبأنا محمد بن أحمد بن الحارث ، أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنبأنا عبد الله بن محمود ، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله بن الخلال ، ثنا عبد الله بن المبارك عن رشدين بن سعد ، ثنا عمرو بن الحارث ، عن دراج بن أبي السمح ، عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بماء كالمهل " قال كعكر الزيت ، فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه فيه " . وقال ابن عباس : هو ماء غليظ مثل دردي الزيت . وقال مجاهد : هو القيح والدم . وسئل ابن مسعود عن : المهل فدعا بذهب وفضة فأوقد عليهما النار حتى ذابا ، ثم قال : هذا أشبه شيء بالمهل . { يشوي الوجوه } ينضج الوجوه من حره . { بئس الشراب وساءت } النار { مرتفقاً } ، قال ابن عباس : منزلاً . وقال مجاهد : مجتمعاً . وقال عطاء : مقراً . وقال القتيبي : مجلساً . وأصل المرتفق : المتكأ .
بعد أن أمر الله نبيئه صلى الله عليه وسلم بما فيه نقض ما يفتلونه من مقترحاتهم وتعريضٌ بتأييسهم من ذلك أمره أن يصارحهم بأنه لا يعدل عن الحق الذي جاءه من الله ، وأنه مبلغه بدون هوادة ، وأنه لا يرغب في إيمانهم ببعضه دون بعض ، ولا يتنازل إلى مشاطرتهم في رغباتهم بشطر الحق الذي جاء به ، وأن إيمانهم وكفرهم موكول إلى أنفسهم ، لا يحسبون أنهم بوعد الإيمان يستنزلون النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض ما أوحى إليه .
و { الحق } خبر مبتدأ محذوف معلوم من المقام ، أي هذا الحق . والتعبير ب { ربكم } للتذكير بوجوب توحيده .
والأمر في قوله : { فليؤمن } وقوله : { فليكفر } للتسوية المكنى بها عن الوعد والوعيد .
وقدم الإيمان على الكفر لأن إيمانهم مرغوب فيه .
وفاعل المشيئة في الموضعين ضمير عائد إلى ( من ) الموصولة في الموضعين .
وفعل « يؤمن ، ويكفر » مستعملان للمستقبل ، أي من شاء أن يوقع أحد الأمرين ولو بوجه الاستمرار على أحدهما المتلبس به الآن فإن العزم على الاستمرار عليه تجديد لإيقاعه .
وجملة { إنا أعتدنا للظالمين ناراً } مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن ما دل عليه الكلام من إيكال الإيمان والكفر إلى أنفسهم وما يفيده من الوعيد كلاهما يثير في النفوس أن يقول قائل : فماذا يلاقي من شاء فاستمر على الكفر ، فيجاب بأن الكفر وخيم العاقبة عليهم .
والمراد بالظالمين : المشركون قال تعالى : { إن الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] .
وتنوين { ناراً } للتهويل والتعظيم .
والسرادق بضم السين قيل : هو الفسطاط ، أي الخيمة . وقيل : السرادق : الحُجزة بضم الحاء وسكون الزاي ، أي الحاجز الذي يكون محيطاً بالخَيمة يمنع الوصول إليها ، فقد يكون من جنس الفسطاط أديماً أو ثوباً وقد يكون غير ذلك كالخندق . وهو كلمة معربة من الفارسية . أصلها ( سراطاق ) قالوا : ليس في كلام العرب اسم مفرد ثالثه ألف وبعده حرفان . والسرادق : هنا تخييل لاستعارة مكنية بتشبيه النار بالدار ، وأثبت لها سُرادق مبالغة في إحاطة دار العذاب بهم ، وشأن السرادق يكون في بيوت أهل الترف ، فإثباته لدار العذاب استعارة تهكمية .
والاستغاثة : طلب الغوث وهو الإنقاذ من شدة وبتخفيف الألم . وشمل { يستغيثوا } الاستغاثة من حر النار يطلبون شيئاً يُبرد عليهم ، بأن يصبوا على وجوههم ماء مثلاً ، كما في آية الأعراف { ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء } [ الأعراف : 50 ] . والاستغاثة من شدة العطش الناشىء عن الحر فيسألون الشراب . وقد أومأ إلى شمول الأمرين ذكر وصفين لهذا الماء بقوله : { يشوي الوجوه بئس الشراب } .
والإغاثة : مستعارة للزيادة مما استغيث مِن أجله على سبيل التهكم ، وهو من تأكيد الشيء بما يشبه ضده .
والمُهل بضم الميم له معاننٍ كثيرة أشبهها هنا أنه دُردي الزيت فإنه يزيدها التهاباً قال تعالى : { يوم تكون السماء كالمهل } [ المعارج : 8 ] .
والتشبيه في سواد اللوْن وشدة الحرارة فلا يزيدهم إلا حرارة ، ولذلك عقب بقوله : { يشوي الوجوه } وهو استئناف ابتدائي .
والوجه أشد الأعضاء تألماً من حر النار قال تعالى : { تلفح وجوههم النار } [ المؤمنون : 104 ] .
وجملة { بئس الشراب } مستأنفة ابتدائية أيضاً لتشنيع ذلك المَاء مشروباً كما شُنع مغتسَلاً . وفي عكسه الماءُ الممدوح في قوله تعالى : { هذا مغتسل بارد وشراب } [ ص : 42 ] .
والمخصوص بذم { بئس } محذوف دل عليه ما قبله . والتقدير : بئس الشراب ذلك الماء .
وجملة { وساءت مرتفقاً } معطوفة على جملة { يشوي الوجوه } ، فهي مستأنفة أيضاً لإنشاء ذم تلك النار بما فيها .
والمرتفق : محل الارتفاق ، وهو اسم مكان مشتق من اسم جامد إذ اشتق من المِرْفَقِ وهو مجمع العضد والذراع . سمي مرفقاً لأن الإنسان يحصل به الرفق إذا أصابه إعياء فيتكىء عليه . فلما سمي به العضو تنوسي اشتقاقه وصار كالجامد ، ثم اشتق منه المُرتفق . فالمرتفق هو المُتكأ ، وتقدم في سورة يوسف .
وشأن المرتفَق أن يكون مكان استراحة ، فإطلاق ذلك على النار تهكم ، كما أطلق على ما يزاد به عذابهم لفظ الإغاثة ، وكما أطلق لى مكانهم السرادق .
وفعل ( سَاء ) يستعمل استعمالَ ( بئس ) فيَعمَل عمل ( بئس ) ، فقوله : { مرتفقاً } تمييز . والمخصوص بالذم محذوف كما تقدم في قوله : { بئس الشراب } .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.