محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا لِلظَّـٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمۡ سُرَادِقُهَاۚ وَإِن يَسۡتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٖ كَٱلۡمُهۡلِ يَشۡوِي ٱلۡوُجُوهَۚ بِئۡسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتۡ مُرۡتَفَقًا} (29)

وقوله تعالى :

{ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا ( 29 ) } .

{ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ } أي جاء الحق وهو ما أوحي إلي منه تعالى : { فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } إما من تمام المقول المأمور به ، والفاء لترتب ما بعدها على ما قبلها ، بطريق التهديد . أي عقيب تحقق أن ما أوحي إلي حق لا ريب فيه ، وأن ذلك الحق من جهة ربكم . فمن شاء أن يؤمن به ، فليؤمن كسائر المؤمنين . ولا يتعلل بما لا يكاد يصلح للتعلل . ومن شاء أن يكفر به فليفعل . وفيه من التهديد وإظهار الاستغناء عن متابعتهم ، وعدم المبالاة بهم وبإيمانهم ، وجودا وعدما – ما لا يخفى . وإما تهديد من جهة الله تعالى ، والفاء لترتيب ما بعدها من التهديد على الأمر . والمعنى : قل لهم ذلك . وبعد ذلك من شاء أن يؤمن به أو أن يصدقك فيه ليؤمن . ومن شاء أن يكفر به أو يكذبك فيه فليفعل . أفاده أبو السعود . وفي ( العناية ) : الأمر والتخيير ليس على حقيقته . فهو مجاز عن عدم المبالاة والاعتناء به . والأمر بالكفر غير مراد ، فهو استعارة للخذلان والتخلية ، بتشبيه حال من هو كذلك بحال المأمور بالمخالفة . ووجه الشبه عدم المبالاة والاعتناء به فيهما . وهذا كقوله : ( أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة ) وهذا رد عليهم في دعائهم إلى طرد الفقراء المؤمنين ليجالسوه ويتبعوه . فقيل لهم : إيمانكم إنما يعود نفعه عليكم ، فلا نبالي به حتى نطردهم لذلك ، بعد ما تبين الحق وظهر . وقوله تعالى : { إنا اعتدنا للظالمين نارا } وعيد شديد ، وتأكيد للتهديد وتعليل لما يفيده من الزجر عن الكفر . أو لما يفهم من ظاهر التخيير ، من عدم المبالاة بكفرهم وقلة الاهتمام بزجرهم عنه . فإن إعداد جزائه من دواعي الإملاء والإمهال . وعلى الوجه الأول ، هو تعليل للأمر بما ذكر من التخيير التهديدي . أي قل لهم : { إنا اعتدنا للظالمين } أي هيأنا للكافرين بالحق ، بعدما جاء من الله سبحانه . والتعبير عنهم ب { الظالمين } للتنبيه على أن مشيئة الكفر واختياره ، تجاوز عن الحد ووضع للشيء في غير موضعه . أفاده أبو السعود . وقوله تعالى : { أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } أي فسطاطها . وهي الخيمة . شبه به ما يحيط بهم من النار . فإن انتشار لهب النار في الجهات شبيه بالسرادق . ويطلق السرادق على الحظيرة حول الفسطاط للمنع من الوصول إليه . شبه ما يحيط بهم من جهنم ، بها . يقال بيت مسردق ، ذو سرداق { وَإِن يَسْتَغِيثُوا } أي من الظمأ لاحتراق أفئدتهم { يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ } أي كالحديد المذاب وكعكر الزيت ، وقال القاشاني : من جنس الغساق والغسلين ، أي المياه المتعفنة التي تسيل من أبدان أهل النار ، مسودة يغاثون بها . أو غسالاتهم القذرة . ويؤيد قوله تعالى { ويسقى من ماء صديد يتجرعه } { يشوي الوجوه } أي إذا قدم إليه ليشرب من فرط حرارته { وساءت } أي النار { مرتفقا } أي متكأ . وأصل الارتفاق نصب المرفق تحت الخد . وذكره لمشالكة قوله { وحسنت مرتفقا } وإلا فلا ارتفاق لأهل النار ولا اتكاء . وقد يكون تهكما ، كقوله .

إني أرقت فبت الليل مرتفقا *** كأن عيني فيها الصاب مذبوح

والصاب : شجر مر يحرق ماؤه العين . ومذبوح : مشقوق . وفي كتاب ( تنزيل الآيات ) في الصحاح : باب فلان مرتفقا ، أي متكئا على مرفق يده . وهو هيئة المتحزنين المتحسرين . فعلى هذا لا يكون من المشاكلة ولا للتهكم ، بل هو على حقيقته . كما يكون للتنعم يكون للتحزن . وتعقبه في ( العناية ) فقال : وأما وضع اليد تحت الخد للتحزن والتحسر ، فالظاهر أن العذاب يشغلهم عنه . فلا يتأتى منهم حتى يكون هذا حقيقة لا مشاكلة ، فلذا لم يعرجوا عليه .