روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا لِلظَّـٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمۡ سُرَادِقُهَاۚ وَإِن يَسۡتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٖ كَٱلۡمُهۡلِ يَشۡوِي ٱلۡوُجُوهَۚ بِئۡسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتۡ مُرۡتَفَقًا} (29)

{ وَقُلْ } لأولئك الذين أغفلنا قلوبهم عن الذكر واتبعوا هواهم { الحق مِن رَّبّكُمْ } خبر مبتدأ محذوف أي هذا الذي أوحى إلى الحق و { مّن رَّبّكُمْ } حال مؤكدة أو خبر بعد خبر والأولى أولى ، والظاهر أن قوله تعالى : { فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ } من تمام القول المأمور به فالفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها بطريق التهديد أي عقيب تحقيق أن ذلك حق لا ريب فيه لازم الاتباع من شاء أن يؤمن به ويتبعه فليفعل كسائر المؤمنين ولا يتعلل بما لا يكاد يصلح للتعلل ومن شاء أن يكفر به وينبذه وراء ظهره فليفعل ، وفيه من التهديد وإظهار الاستغناء عن متابعتهم التي وعدوها في طرد المؤمنين وعدم المبالاة بهم وبإيمانهم وجوداً وعدماً ما لا يخفي .

وجوز أن يكون { الحق } مبتدأ خبره { مّن رَّبّكُمْ } واختار الزمخشري هنا الأول ، قال في الكشف : ووجه إيثار الحذف أن المعنى عليه أتم التئاماً لأنه لما أمره سبحانه بالمداومة على تلاوة هذا الكتاب العظيم الشأن في جملة التالين له حق التلاوة المريدين وجهه تباك وتعالى غير ملتفت إلى زخارف الدنيا فمن أوتي هذه النعمة العظمى فله بشكرها اشتغال عن كل شاغل ذيله لإزاحة الأعذار والعلل بقوله سبحانه { وَقُلْ } الخ أي هذا الذي أوحى هو الحق فمن شاء فليدخل في سلك الفائزين بهذه السعادة ومن شاء فليكن في الهالكين انهماكا في الضلالة ، أما لو جعل مبتدأ فالتعريف إن كان للعهد رجع إلى الأول مع فوات المبالغة وإن كان للجنس على معنى جميع الحق من ربكم لا من غيره ويشمل الكاتب شمولاً أولياً لم يطبق المفصل إذ ليس ما سيق له الكلام كونه منه تعالى لا غير بل كونه حقاً لازم الاتباع لا غير اه .

وهو كلام يلوح عليه مخايل التحقيق ويشعر ظاهره بحمل الدعاء على ثاني الأقوال فيه وكون المشار إليه الكتاب مطلقاً لا المتضمن الأمر بصبر النفس مع المؤمنين وترك الطاعة للغافلين كما جوزه ابن عطية ، وعلى تقدير أن يكون الحق مبتدأ قيل المراد به أنه القرآن كما كان المراد من المشار إليه على تقدير كونه خبراً وهو المروى عن مقاتل ، وقال الضحاك : هو التوحيد ، وقال الكرماني : الإسلام والقرآن .

وقال مكي : المراد به التوفيق والخذلان أي قل التوفيق والخذلان من عند الله تعالى يهدي من يشاء فيوفقه فيؤمن ويضل من يشار فيخذله فيكفر ليس إلى من ذلك شيء وليس بشيء كما لا يخفي .

وجوز أن يكون قوله سبحانه { فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن } الخ تهديداً من جهته تعالى غير داخل تحت القول المأمور به فالفاء لترتيب ما بعدها من التهديد على نفس الأمر أي قل لهم ذلك وبعد ذلك فمن شاء أن يؤمن به أو أن يصدقك فيه فليفعل ومن شاء أن يكفر به أو أن يكذبك فيه فليفعل ، وعلى الوجهين ليس المراد حقيقة الأمر والتخيير وهو ظاهر .

وذكر الخفاجي أن الأمر بالكفر غير مراد وهو استعارة للخذلان والتخلية بتشبيه حال من هو كذلك بحال المأمور بالمخالفة ؛ ووجه الشبه عدم المبالاة والاعتناء ، وهذا كقول كثير : أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة .

واستدل المعتزلة بالآية على أن العبد مستقل في أفعاله موجد لها لأنه علق فيها تحقق الإيمان والكفر على محض مشيئته لأن المتبادر من الشرط أنه علة تامة للجزاء فدل على أنه مستقل في إيجادهما ولا فرق بين فعل وفعل فهو الموجد لكل أفعاله . وأجيب بأنا لو فرضنا أن مشيئة العبد مؤثرة وموجدة للأفعال لا يتم المقصود لأن العقل والنقل يدلان على توقفها على مشيئة الله تعالى وإرادته ، أما الأول فلأنهم قالوا : لو لم تتوقف على ذلك لزم الدور أو التسلسل ، وأما الثاني فلأنه سبحانه يقول : { وَمَا * تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله } [ الإنسان : 30 ] ومع هذا التوقف لا يتم أمر الاستقلال ويثبت أن العبد مضطر في صورة مختار وهو مذهب الأشاعرة . وفي الإحياء لحجة الإسلام فإن قلت : إني أجد في نفسي وجداناً ضرورياً أني إن شئت الفعل قدرت عليه وإن شئت الترك قدرت عليه فالفعل والترك بي لا بغيري قلت : هب أنك تجد من نفسك هذا المعنى ولكن هل تجد من نفسك أنك إن شئت مشيئة الفعل حصلت تلك المشيئة أو لم تشأ تلك المشيئة لم تحصل لأن العقل يشهد بأنه يشاء الفعل لا لسبق مشيئة أخرى على تلك المشيئة وإذا شاء الفعل وجب حصول الفعل من غير مكنة واختيار فحصول المشيئة في القلب أمر لازم وترتب الفعل على حصول المشيئة أيضاً أمر لازم وهذا يدل على أن الكل من الله تعالى انتهى . وبعضهم يكتفي في إثبات عدم الاستقلال بثبوت توقف مشيئة العبد على مشيئة الله تعالى وتمكينه سبحانه بالنص ولا يذكر حديث لزوم الدور أو التسلسل لما فيه من البحث ، وتمام الكلام في ذلك في كتب الكلام ، وستذكر ان شاء الله تعالى طرفاً لائقاً منه في الموضع اللائق به ، وقال السدى : هذه الآية منسوخة بقوله سبحانه : { وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله } [ الإنسان : 30 ] ولعله أراد أن لا يراد المتبادر منها للآية المذكورة وإلا فهو قول باطل ، وحكى ابن عطية عن فرقة أن فاعل { شَاء } في الشرطيتين ضميره تعالى ، واحتج له بما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في الآية : من شاء الله تعالى له الإيمان آمن ومن شاء له الكفر كفر .

والحق أن الفاعل ضمير { مِنْ } والرواية عن الحبر أخرجها ابن جرير . وابن المنذر . وابن أبي حاتم . والبيهقي في الأسماء والصفات فإذا صحت يحتمل أن يكون ذلك القول لبيان ان من شاء الإيمان هو من شاء الله تعالى له الإيمان ومن شاء الكفر هو من شاء الله سبحانه له ذلك لا لبيان مدلول الآية وتحقيق مرجع الضمير ، ويؤيد ذلك قوله في آخر الخبر الذي أخرجه الجماعة وهو قوله تعالى : { وَمَا * تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء الله رَبُّ العالمين } [ التكوير : 29 ] والله تعالى أعلم . وقرأ أبو السمال قعنب { وَقَالَ الحق } بفتح اللام حيث وقع ، قال أبو حاتم : وذلك رديء في العربية . وعنه أيضاً ضم اللام حيث وقع كأنه اتباع لحركة القاف ، وقرأ أيضاً { الحق } بالنصب وخرجه صاحب اللوامح على تقدير القول الحق و { مّن رَّبّكُمْ } قيل حال أي كائناً من ربكم ، وقيل : صفة أي الكائن من ربكم وفيه بحث .

وقرأ الحسن . وعيسى الثقفي { فَلْيُؤْمِن } بكسر لام الأمر فيهما { إِنَّا أَعْتَدْنَا للظالمين } للكافرين بالحق بعد ما جاء من الله سبحانه ، والتعبير عنهم بالظالمين للتنبيه على أن مشيئة الكفر واختياره تجاوز عن الحد ووضع للشيء في غير موضعه ، والجملة تعليل للأمر بما ذكر من التخيير التهديديد ، وجعلها من جعل { فَمَن شَاء } الخ تهديداً من قبله تعالى تأكيداً للتهديد وتعليلاً لما يفيده من الزجر عن الكفر . وجوز كونها تعليلاً لما يفهم من ظاهر التخيير من عدم المبالاة بكفرهم وقلة الاهتمام بشأنهم ، و { أَعْتَدْنَا } من العتاد وهو في الأصل ادخار الشيء قبل الحاجة إليه ، وقيل : أصله أعددنا فأبدل من احدى الدالين تاء والمعنى واحد أي هيأنا لهم { نَارًا } عظيمة عجيبة { أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } أي فسطاطها ، شبه به ما يحيط بهم من لهبها المنتشر منها في الجهات ثم استعير له استعارة مصرحة والإضافة قرينة والإحاطة ترشيح ، وقيل : السرادق الحجزة التي تكون حول الفسطاط تمنع من الوصول إليه ، ويطلق على الدخان المرتفع المحيط بالشيء وحمل عليه بعضهم ما في الآية وهو أيضاً مجاز كإطلاقه على اللهب ، وكلام القاموس يوهم أنه حقيقة ، والمروى عن قتادة تفسيره بمجموع الأمرين اللهب والدخان .

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه حائط من نار ، وحكى الكلبي أنه عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار ، وحكى القاضي الماوردي أنه البحر المحيط بالدنيا يكون يوم القيامة ناراً ويحيط بهم ، واحتج له بما أخرجه أحمد . والبخاري في التاريخ . وابن أبي حاتم وصححه . والبيهقي في البعث . وآخرون عن يعلى بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إن البحر هو من جهنم ثم تلا ناراً أحاط بهم سرادقها » والسرادق قال الراغب فارسي معرب وليس من كلامهم اسم مفرد ثالثه ألف وبعده حرفان انتهى ، وقد أصاب في دعوى التعريب فإن عامة اللغويين على ذلك ، وأما قوله : وليس من كلامهم الخ فيكذبه ورود علابط وقرأ مص وجنادف وحلاحل وكلها بزنة سرادق ومثل ذلك كثير والغفلة مع تلك الكثرة من هذا الفاضل بعيدة فينظر ما مراده ، ثم إنه معرب سراً يرده أي ستر الديوان ، وقيل : سرا طاق أي طاق الديوان وهو أقرب لفظاً إلا أن الطاق معرب أيضاً وأصله تا أو تاك ، وقال أبو حيان .

وغيره : معرب سرادر وهو الدهليز ووقع في بيت الفرزدق :

تمنيتهم حتى إذا ما لقيتهم*** تركت لهم قبل الضراب السرادقا

ويجمع كما قال سيبويه بالألف والتاء وإن كان مذكراً فيقال سرادقات ، وفسره في النهاية بكل ما أحاط بموضع من حائط أو مضرب أو خباء ، وأمر إطلاقه على اللهب أو الدخان أو غيرهما مما ذكر على هذا ظاهر .

{ وَإِن يَسْتَغِيثُواْ } من العطش بقرينة قوله تعالى : { يُغَاثُواْ بِمَاء كالمهل } وقيل : مما حل بهم من أنواع العذاب ، والمهل على ما أخرج ابن جرير . وغيره عن ابن عباس . وابن جبير ماء غليظ كدردي الزيت ، وفيه حديث مرفوع فقد أخرج أحمد . والترمذي . وابن حبان . والحاكم وصححه . والبيهقي . وآخرون عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { كالمهل } قال : كعكر الزيت فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه فيه ، وقال غير واحد . هو ما أذيب من جواهر الأرض ، وقيل : ما أذيب من النحاس ، وأخرج الطبراني . وابن المنذر . وابن جرير عن ابن مسعود أنه سئل عنه فدعا بذهب وفضة فإذا به فلما ذات قال : هذا أشبه شيء بالمهل الذي هو شراب أهل النار ولونه لون السماء غير أن شراب أهل النار أشد حراً من هذا .

وأخرج ابن أبي حاتم . وغيره عن مجاهد أنه القيح والدم الأسود ، وقيل : هو ضرب من القطران ، وقوله سبحانه : { يُغَاثُواْ } الخ خارج مخرج التهكم بهم كقول بشر بن أبي حازم :

غضبت تميم( {[592]} ) أن تقتل عامرا*** يوم النسار فاعتبوا بالصيلم

{ يَشْوِى الوجوه } ينضجها إذا قدم ليشرب من فرط حرارته حتى أنه يسقط جلودها كما سمعت في الحديث ، فالوجوه جمع وجه وهو العضو المعروف ، والظاهر أنه المراد لا غير ، وقيل : عبر بالوجوه عن جميع أبدانهم والجمل صفة ثانية لماء والأولى { كالمهل } أو حال منه كما في البحر لأنه قد وصف أو حال من المهل كما قال أبو البقاء .

وظاهر كلام بعضهم جواز كونها في موضع الحال من الضمير المستتر في الكاف لأنها اسم بمعنى مشابه فيستتر الضمير فيها كما يستر فيه ؛ وفيه ما لا يخفي من التكلف لأنها ليس صفة مشتقة حتى يستتر فيها ولم يعهد مشتق على حرف واحد قاله الخفاجي .

وذكر أن أبا علي الفارسي منع في شرح الشواهد جعل ذؤابتي في قول الشاعر :

رأتني كأفحص القطاه ذؤابتي*** مرفوعاً بالكاف لكونها بمنزلة مثل وقال : إن ذلك ليس بالسهل لأن الكاف ليست على ألفاظ الصفات .

وجوز أن تكون في موضع الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور ، وقيل : يجوز أن يكون مراد ذلك البعض إلا أنه تسامح { بِئْسَ الشراب } ذلك الماء الذي يغاثون به { وَسَاءتْ } النار { مُرْتَفَقًا } أي متكأ كما قال أبو عبيدة وروي عن السدي ، وأصل الارتفاق كما قيل الاتكاء على مرفق اليد . قال في الصحاح يقال : بات فلان مرتفقاً أي متكئاً على مرفق يده ، وقيل : نصب المرفق تحت الخد فمرتفقا اسم مكان ونصبه على التمييز ، قال الزمخشري : وهذا لمشاكلة قوله تعالى : { وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً } [ الكهف : 31 ] وإلا فلا ارتفاق لأهل النار ولا اتكاء إلا أن يكون من قوله :

إني أرقت فبت الليل مرتفقا*** كأن عيني فيها الصاب مذبوح

أي فحينئذ لا يكون من المشاكلة ويكون الكلام على حقيقته بأن يكون لأهل النار ارتفاق فيها أي اتكاء على مرافق أيديهم كما يفعله المتحزن المتحسر ، وقد ذكر في الكشف أن الاتكاء على الحقيقة كما يكون للتنعم يكون للتحزن .

وتعقب بأن ذلك وإن أمكن عقلاً إلا أن الظاهر أن العذاب أشغلهم عنه فلا يتأتى منهم حتى يكون الكلام حقيقة لا مشاكلة . وجوز أن يكون ذلك تهكماً أو كناية عن عدم استراحتهم .

وروي عن ابن عباس أن المرتفق المنلز . وأخرج ذلك ابن أبي حاتم عن قتادة ، وفي معناه قول ابن عطاء : المقر ؛ وقول العتبي : الملجس ، وقيل موضع الترافق أي ساءت موضعاً للترافق والتصاحب ، وكأنه مراد مجاهد في تفسيره بالمجتمع فإنكار الطبري أن يكون له معنى مكابرة .

وقال ابن الأنباري : المعنى ساءت مطلباً للرفق لأن من طلب رفقاً من جهنم عدمه ، وجوز بعضهم أن يكون المرتفق مصدراً ميمياً بمعنى الارتفاق والاتكاء .

( هذا ومن باب الإشارة ) :{ وَقُلِ الحق مِن رَّبّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُر } [ الكهف : 29 ] قالوا : فيه إشارة إلى عدم كتم الحق وإن أدى إلى إنكار المحجوبين وإعراض الجاهلين ، وعدم من ذلك في أسرار القرآن كشف الأسرار الإلهية وقال : إن العاشق الصادق لا يبالي تهتك الأسرار عند الأغيان ولا يخاف لومة لائم ولا يكون في قيد إيمان الخلق وإنكارهم فإن لذة العشق بذلك أتم ألا ترى قول القائل :

ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر*** ولا تسقني سراً إذا أمكن الجهر

وبح باسم من أهوى ودعني من الكنى*** فلا خير في اللذات من دونها ستر

ولايخفي أن هذا خلاف المنصور عند الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم فإنهم حافظوا على كتم الأسرار عن الأغيار وأوصوا بذلك ، ويكفي حجة في هذا المطلب ما نسب إلى زين العابدين رضي الله تعالى عنه وهو :

إني لأكتم من علمي جواهره*** كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا

وقد تقدم في هذا أبو حسن*** إلى الحسين ووصى قبله الحسنا

فرب جوهر علم لو أبوح به*** لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا

ولاستحل رجال مسلمون دمى*** يرون أقبح ما يأتونه حسناً

نعم المغلوب وكذا المأمور معذور وعند الضرورة يباح المحظور ، وما أحسن قول الشهاب القتيل :

وارحمتا للعاشقين تكلفوا*** ستر المحبة والهوى فضاح

بالسر إن باحوا تباح دماؤهم*** وكذا دماء البائحين تباح

وإذا هم كتموا يحدث عنهم*** عند الوشاة المدمع السحاح

وما ذكر أولاً يكون مستمسكاً في الذب عن الشيخ الأكبر قدس سره وأضرابه فإنهم لم يبالوا في كشف الحقائق التي يدعونها بكونه سبباً لضلال كثير من الناس وداعياً للإنكار عليهم ، وقد استدل بعض الآية في الرد عليهم بناء على أن المعنى الحق ما يكون من جهته تعالى وما جاؤا به ليس من جهته سبحانه لأنه لا تشهد له آية ولا يصدقه حديث ولا يؤيده أثر . وأجيب بأن ذلك ليس إلا من الآيات والأحاديث إلا أنه لا يستنبط منها إلا بقوة قاسية وأنوار إلهية فلا يلزم من عدم فهم المنكرين لها من ذلك لحرمانهم تلك القوة واحتجابهم عن هاتيك الأنوار عدم حقيتها فكم من حق لم تصل إليه أفهامهم . واعترض بأن لو كان الأمر كذلك لظهر مثل تلك الحقائق في الصدر الأول فإن أرباب القوى القدسية والأنوار الإلهية فيه كثيرون والحرص على إظهار الحق أكثر . وأجيب بأنه يحتمل أن يكون هناك مانع أو عدم مقتض لإظهار ما أظهر من الحقائق ، وفهي نوع دغدغة ولعله سيأتيك إن شاء الله تعالى ما عسى أن ينفعك هنا ، وبالجملة أمر الشيخ الأكبر وإضرابه قدس الله تعالى أسرارهم فيما قالوا ودونوا عندي مشكل لاسيما أمر الشيخ فإنه أتى بالداهية الدهياء مع جلالة قدره التي لا تنكر ، ولذا ترى كثيراً من الناس ينكروه عليه ويكرون ، وما ألطف ما قاله فرق جنين العصابة الفاروقية والراقي في مراقي التنزلات الموصلية في قصيدته التي عقد اكسيرها في مدح الكبريت الأحمر فغدا شمساً في آفاق مدائح الشيخ الأكبر وهو قوله :

ينكر المرء منه أمراً فينها*** ه نهاه فينكر الإنكارا

تنثني عنه ثم تثنى عليه*** ألسن تشبه الصحاة سكارى


[592]:- في نسخة حنيفة اهـ منه.