السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا لِلظَّـٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمۡ سُرَادِقُهَاۚ وَإِن يَسۡتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٖ كَٱلۡمُهۡلِ يَشۡوِي ٱلۡوُجُوهَۚ بِئۡسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتۡ مُرۡتَفَقًا} (29)

{ وقل الحق } أي : وقل لهؤلاء ولغيرهم هذا الذي جئتكم به في أمر أهل الكهف وغيرهم من هذا الوجه العربي المعرى عن العوج الظاهر الإعجاز الباهر الحجج الحق كائناً { من ربكم } المحسن إليكم في أمر أهل الكهف وغيرهم من صبر نفسي مع المؤمنين والإعراض عمن سواهم وغير ذلك لا ما قلتموه في أمرهم ، ويجوز أن يكون الحق مبتدأ وخبره الجار بعده { فمن شاء } ، أي : منكم ومن غيركم { فليؤمن } بهذا الذي قصصناه فيهم وفي غيرهم فهو مقبول مرغوب فيه وإن كان فقيراً رث الهيئة ولم ينفع إلا نفسه { ومن شاء } منكم ومن غيركم { فليكفر } فهو أهل لأن يعرض عنه ولا يلتفت إليه وإن كان أغنى الناس وأحسنهم هيئة وإن تعاظمت هيئته وهذا لا يقتضي استقلال العبد بفعله كما تقول المعتزلة ، فعن ابن عباس في معنى الآية من شاء الله له الإيمان آمن ومن شاء له الكفر كفر ونقل عن عليّ رضي الله عنه أنه قال : هذه الصيغة تهديد ووعيد ، أي : فهي كقوله تعالى : { اعملوا ما شئتم } [ فصلت ، 40 ] فإن الله تعالى لا ينتفع بإيمان المؤمنين ولا يستضرّ بكفر الكافرين بل نفع الإيمان يعود على المؤمن وضرر الكفر بعود على الكافر كما قال تعالى : { إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها } [ الإسراء ، 7 ] .

ولما هدد السامعين بما حاصله ليختار كل امرئ لنفسه ما يجده غداً عند الله أتبعه بذلك الوعيد والأفعال الباطلة ، وبذكر الوعد على الإيمان والأعمال الصالحة ، أمّا الوعيد فقوله تعالى : { إنا أعتدنا } ، أي : هيأنا بما لنا من العظمة والقدرة { للظالمين } ، أي : لمن أنف عن قبول الحق لأجل أنّ الذين قبلوه فقراء ومساكين وكذا كل من لم يؤمن { ناراً } وهي الجحيم ثم وصف الله تعالى تلك النار بصفتين ؛ الأولى قوله تعالى : { أحاط بهم } كلهم { سرادقها } ، أي : فسطاطها شبه به ما يحيط بهم من النار وقيل هو الحجرة التي تكون حول الفسطاط وقيل حائط من نار والمراد أنه لا مخلص لهم منها ولا فرجة يتفرّجون بالنظر إلى ما وراءها من غير النار بل هي محيطة من كل الجوانب ، وقيل هو دخان يغشاهم قبل دخولهم النار يحيط بهم كالسرداق حول الفسطاط . الصفة الثانية قوله تعالى : { وإن يستغيثوا } ، أي : يطلبوا الغوث { يغاثوا بماء } ووصف هذا الماء بصفتين ؛ الأولى قوله تعالى : { كالمهل } وهو كما في حديث مرفوع دردي الزيت ، وعن ابن مسعود أنه دخل بيت المال وأخرج نقاعة كانت فيه وأوقد عليها النار حتى تلألأت ثم قال : هذا هو المهل . وقال أبو عبيدة والأخفش : كل شيء أذبته من نحاس أو ذهب أو فضة فهو المهل . وقيل إنه الصديد والقيح وقيل إنه ضرب من القطران ثم يحتمل أن تكون هذه الاستغاثة لأنهم طلبوا ماء للشرب فيعطون هذا المهل قال تعالى : { تصلى ناراً حامية 4 تسقى من عين آنية } [ الغاشية : 4 ، 5 ] ويحتمل أن يستغيثوا من حرّ جهنم فيطلبوا ما يصبونه على أنفسهم للتبريد فيعطون هذا الماء قال تعالى حكاية عنهم : { أفيضوا علينا من الماء } [ الأعراف ، 50 ] . وقال تعالى في آية أخرى : { سرابيلهم من قطران وتغشى وجوههم النار } [ إبراهيم ، 50 ] . فإذا استغاثوا من حرّ جهنم صب عليهم القطران الذي يعمّ كل أبدانهم كالقميص . والصفة الثانية للماء : قوله تعالى : { يشوي الوجوه } ، أي : إذا قرب إلى الفم ليشرب فكيف بالفم والجوف ثم وصل تعالى بذلك ذمّه فقال تعالى : { بئس الشراب } ، أي : ذلك الماء الذي هو كالمهل لأنّ المقصود من شرب الشراب تسكين الحرارة وهذا يبلغ في إحراق الإنسان مبلغاً عظيماً ثم عطف عليه ذمّ النار المعدّة لهم بقوله تعالى : { وساءت } ، أي : النار وقوله تعالى : { مرتفقاً } تمييز منقول من الفاعل ، أي : قبح مرتفقها وهو مقابل لقوله تعالى الآتي في الجنة : { وحسنت مرتفقاً } وإلا فأي ارتفاق في النار .