الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا لِلظَّـٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمۡ سُرَادِقُهَاۚ وَإِن يَسۡتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٖ كَٱلۡمُهۡلِ يَشۡوِي ٱلۡوُجُوهَۚ بِئۡسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتۡ مُرۡتَفَقًا} (29)

قوله : { وقل الحق من ربكم } [ 29 ] إلى قوله : { مرتفقا } [ 30 ] .

المعنى : أن الله جل ذكره أمر نبيه عليه السلام أن يقول لمن تقدم ذكره في قوله { ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه } [ 28 ] الحق من ربكم أي الهدى والتوفيق والخذلان من عند الله يهدي من يشاء فيوفقه فيؤمن ، ويضل من يشاء فيخذله فيكفر ، وليس إلي من ذلك شيء ، ولست بطارد لهواكم من وفقه الله [ عز وجل ] {[42644]} فآمن ، فإن شئتم فاكفروا وإن شئتم فآمنوا . فإن كفرتم فقد أعد لكم [ ربكم {[42645]} ] نارا أحاط [ بهم ] {[42646]} سرادقها {[42647]} .

وقوله { فليومن } و { فليكفر } لفظه الأمر ومعناه التهدد والوعيد . ومثله { تمتعوا في داركم {[42648]} } وقوله : { وليتمتعوا {[42649]} } وشبهه كثير {[42650]} .

والأمر من الله [ عز وجل {[42651]} ] على أقسام : فمنه ما معناه الإيجاب والإلزام نحو { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا {[42652]} } الآية ، وشبهه . فهذا لا بد من فعله ويأثم من تركه ، ويكفر إن عاند في تركه .

ومنه ما معناه التأديب والإرشاد نحو قوله : { وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم {[42653]} وقوله : { وأشهدوا إذا تبايعتم {[42654]} } {[42655]} وفيه اختلاف . فهذا لا يخرج المأمور بتركه إلى إثم . وإن تأدب به وعمله فقد أحسن ، إذ قد اتبع ما ندبه الله [ عز وجل ] {[42656]} إليه .

ومنه ما معناه الاباحة [ والاطلاق نحو قوله : { وإذا حللتم فاصطادوا {[42657]} } {[42658]} وقوله : ] {[42659]} { فانتشروا في الأرض {[42660]} } { فإذا تطهرن فاتوهن من حيث أمركم الله {[42661]} } فهذا إن شاء [ فعله ، وإن شاء ] {[42662]} لم يفعله ، ولا يشكر على فعله ، ولا يندم على تركه .

ومنها معناه الحتم والتكوين والإحداث نحو قوله : { كونوا قردة خاسئين } {[42663]} وقوله : { كن فيكون {[42664]} } فهذا تكوين وإحداث . ويوجد {[42665]} المأمور مع الأمر ولا يتقدم ولا يتأخر {[42666]} .

وكل أوامر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] على هذه الأقسام تأتي إلا التكوين والإحداث فليس يكون إلا لله {[42667]} عز وجل ، غير أنه قد يكون ذلك على أيدي أنبيائه دلالة على صدقهم . كقول نبيا صلى الله عليه وسلم لشجرة دعاها : " أقبلي " فأقبلت تجري عروقها وأغصانها حتى وقفت بين يديه ، ثم قال : لها : " ارجعي " فرجعت إلى مكانها ، وشبهه كثير . وهذه الأوامر إنما يميز الواجب منها [ من غيره ] {[42668]} بالبراهين {[42669]} والدلائل {[42670]} والتوفيق لا غير .

وقوله : { أحاط بهم سرادقها } [ 29 ] .

قال : ابن زيد : هو حائط من نار يحيط بهم كسرادق الفسطاط ، وقاله ابن عباس {[42671]} . وقال : معمر : هو دخان يحيط بالكفار يوم القيامة وهو الذي قال : الله : [ عز وجل ] {[42672]} { انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب {[42673]} } {[42674]} .

وقيل هو البحر المحيط الذي في الدنيا ، أي : أحاط بهم سرادق الدنيا أي : بحرها المحيط .

وقد روي عن النبي عليه السلام أنه قال : " البحر هو جنهم وتلا هذه الآية . وقال : لا أدخله أبدا وما دمت حيا ، ولا تصيبني {[42675]} منه قطرة {[42676]} فيكون معناها أحاط بهم أي عمهم .

وروى [ عنه ] {[42677]} أبو سعيد الخدري أنه قال : " سرادق النار أربع جدر ، كتف كل واحد منها مسيرة أربعين سنة " {[42678]} .

ثم قال : { وإن يستغيثو } [ 29 ] .

أي إن يستغيثوا من العطش يغاثوا بماء كالمهل أي " كعكر الزيت . فإذا قربه من فمه {[42679]} سقطت فروة وجهه فيه " كذا رواه الخدري عن النبي عليه السلام {[42680]} .

وعن ابن مسعود : أن المهل هو كفضة وذهب أذيبا واختلطا {[42681]} . وقال : مجاهد : " كالمهل " كالقيح والدم الأسود إذا اختلطا {[42682]} . وقال : ابن عباس : المهل ماء غليظ مثل دردي {[42683]} الزيت {[42684]} .

وقال : الضحاك : المهل ماء جهنم {[42685]} أسود ، وهي سوداء ، وشجرها أسود وأهلها سود {[42686]} . وقال : ابن جبير : المهل الذي قد انتهى حره {[42687]} . وقيل : المهل عكر القطران {[42688]} .

وعن النبي عليه السلام أنه قال : " المهل صديد أهل جهنم إذا دني {[42689]} منه شوى {[42690]} وجهه ووقعت فروة رأسه ولحم وجهه من حره " {[42691]} .

والمهل عند أهل اللغة : كل شيء أذبته من رصاص أو نحاس ونحوه {[42692]} .

ثم قال : { يشوي الوجوه } [ 29 ] .

وقال : ابن جبير : إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم فيأكلون منها فاختلست جلودهم ووجوههم . فلو أن مارا بهم يعرفهم {[42693]} لعرف جلود وجوههم . فيتضاعف عليهم العطش فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل . فإذا أدنوه من أفواههم انشوى {[42694]} من حره لحوم/وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود {[42695]} .

وقوله : { بئس الشراب } [ 29 ] .

أي بئس الشراب هذا الذي يغاث به هؤلاء القوم {[42696]} .

وقوله : { و {[42697]} ساءت مرتفقا } [ 29 ] .

أي ساءت هذه النار {[42698]} التي أعدت لهؤلاء الظالمين : { مرتفقا } أي متكئا {[42699]} .

والمرتفق في كلام العرب المتكا . يقال : ارتفقت أي : اتكأت . . . وقال : مجاهد {[42700]} " مرتفقا " مجتمعا {[42701]} " وهو مفتعل من الرفق .


[42644]:ساقط من ق.
[42645]:ساقط من ط.
[42646]:ساقط من ق.
[42647]:وهو قول ابن جرير، انظر جامع البيان 15/237.
[42648]:هود : 65.
[42649]:العنكبوت: 66.
[42650]:وهو قول الزجاج، انظر معاني الزجاج 3/281 والجامع 10/255.
[42651]:ساقط من ق.
[42652]:المائدة: 6.
[42653]:النور: 32.
[42654]:ق: تبايعكم.
[42655]:البقرة: 282.
[42656]:ساقط من ق.
[42657]:المائدة: 2.
[42658]:ط: "فقوله".
[42659]:ساقط من ق.
[42660]:الجمعة: 10.
[42661]:البقرة : 222.
[42662]:ساقط من ق.
[42663]:البقرة: 65.
[42664]:جاءت في أكثر من آية أولها: البقرة 117 وآخرها يس 82.
[42665]:ق: "ويوجر".
[42666]:عدد ابن فارس من أقسام الأمر المسألة والوعيد، والتسليم، والتكوين، والندب، والتعجيز، والتعجب والتمني، والواجب والتلهيف والتحسير، والخبر، انظر الصاحبي من 1299 إلى 302.
[42667]:ط: "الله".
[42668]:ساقط من ق.
[42669]:ط: بالقرائن.
[42670]:ق: "الدلاليل".
[42671]:انظر قولهما في جامع البيان 15/238، والجامع 10/256 والدر 5/384.
[42672]:ساقط من ق.
[42673]:المرسلات: 30.
[42674]:ومعمر إنما يحكي هذا القول عن قتادة، انظر غريب القرآن 267 جامع البيان 15/239، و29/239، والجامع 10/256.
[42675]:ساقط من ق.
[42676]:الحديث أخرجه أحمد في المسند 4/223 عن صفوان بن يعلى عن أبيه. وفيه أن قوله: قال لا أدخله ... الحديث من كلام يعلى. وأخرجه الحاكم في المستدرك 4/596، وصححه، والبيهقي في البعث رقم 407، والهيثمي في المجمع 10/386، وانظره في جامع البيان 15/239، والجامع 10/256، والدر 5/384.
[42677]:ساقط من ق.
[42678]:الحديث أخرجه الترمذي في سننه رقم 2710، قال "حديث حسن صحيح غريب، وأحمد في المسند 3/29، وانظره في جامع البيان 15/239، والجامع 10/256، والدر 5/384.
[42679]:ط: فيه.
[42680]:والحديث أخرجه الترمذي في سننه رقم 2707 و 2710، وفيه "هذا حديث إنما نعرفه من حديث رشدين بن سعد وقد تكلم فيه من قبل حفظه" والحاكم في المستدرك 2/368 وصححه. وأحمد في المسند3/70 و 71، وانظره في جامع البيان 15/239، والجامع 10/256، والدر 5/385.
[42681]:انظر قوله في جامع البيان 15/239، والجامع 10/256 والدر 5/385.
[42682]:انظر قوله في تفسير مجاهد 447، وجامع البيان 15/240، والجامع 10/256 والدر 5/385.
[42683]:ط: "كدود".
[42684]:ط: "والزيت". وانظر قوله في غريب القرآن 267، وجامع البيان 15/240 ومعاني الزجاج 3/282 والجامع 10/256، والدر 5/385، ونسبه أيضا لابن مسعود وأبي مالك.
[42685]:ط: "حميم".
[42686]:انظر قوله في جامع البيان 15/240، والجامع 10/256، والدر 5/385.
[42687]:انظر قوله في جامع البيان 15/240، والجامع 10/256.
[42688]:حكي نحوه عن ابن جبير قال: المهل ضرب من القطران. انظر الجامع 10/256.
[42689]:ط: "أدنى".
[42690]:ق: "سوى".
[42691]:الحديث أخرجه الترمذي في السنن رقم 2709 عن أبي أمامة وقال "حديث غريب"، وأحمد في المسند 5/265، وانظر جامع البيان 15/241، والجامع 10/256.
[42692]:وهو قول أبي عبيدة، انظر مجاز القرآن 1/400، وغريب القرآن 267، والجامع 10/256.
[42693]:ط: "فعرقهم".
[42694]:ق: اشتوى.
[42695]:انظر قوله في جامع البيان 15/241.
[42696]:وهو تفسير ابن جرير، انظر جامع البيان 15/241.
[42697]:الواو ساقط من ط.
[42698]:ط: الدار.
[42699]:وهو قول ابن جرير، انظر جامع البيان 15/141.
[42700]:ساقط من ط.
[42701]:انظر قوله في تفسير مجاهد 447، وجامع البيان 15/241 والجامع 10/257، والدر 5/386.