معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحۡتِۚ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُمۡ أَوۡ أَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡۖ وَإِن تُعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيۡـٔٗاۖ وَإِنۡ حَكَمۡتَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (42)

قوله تعالى : { سماعون للكذب أكالون للسحت } ، قرأ ابن كثير ، و أبو جعفر ، وأهل البصرة ، والكسائي { السحت } بضم الحاء ، والآخرون بسكونها ، وهو الحرام ، وأصله الهلاك والشدة ، قال الله تعالى : { فيسحتكم بعذاب } [ طه : 61 ] ، نزلت في حكام اليهود كعب بن الأشرف وأمثاله ، كانوا يرتشون ويقضون لمن رشاهم . قال الحسن : كان الحاكم منهم إذا أتاه أحد برشوة جعلها في كمه ، فيريها إياه ويتكلم بحاجته ، فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه ، فيسمع الكذب ، ويأكل الرشوة . وعنه أيضاً قال : إنما ذلك في الحكم إذا رشوته ليحق لك باطلاً ، أو يبطل عنك حقك . فأما أن يعطي الرجل الوالي يخاف ظلمه ليدرأ به عن نفسه فلا بأس ، فالسحت هو الرشوة في الحكم على قول الحسن ، ومقاتل ، وقتادة ، والضحاك ، وقال ابن مسعود : هو الرشوة في كل شيء ، قال ابن مسعود : من شفع شفاعة ليرد بها حقا ، ً أو يدفع بها ظلماً ، فأهدي له فقبل فهو سحت ، فقيل له : يا أبا عبد الرحمن ما كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم ، فقال : الأخذ على الحكم كفر ، قال الله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } [ المائدة :44 ] .

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الرحمن بن أبي شريح ، أنا أبو القاسم البغوي ، ثنا علي بن الجعد ، أنا ابن أبي ذئب ، عن الحارث بن عبد الرحمن ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لعن الله الراشي والمرتشي ) .

قال الأخفش : السحت : كل كسب لا يحل .

قوله تعالى : { فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا } ، خير الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في الحكم بينهم إن شاء حكم ، وإن شاء ترك . واختلفوا في حكم الآية اليوم ، هل للحاكم الخيار في الحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا ؟ فقال أكثر أهل العلم : هو حكم ثابت ، وليس في سورة المائدة منسوخ ، وحكام المسلمين بالخيار في الحكم بين أهل الكتاب ، إن شاؤوا حكموا وإن شاؤوا لم يحكموا ، وإن حكموا حكموا بحكم الإسلام ، وهو قول النخعي ، والشعبي ، وعطاء ، وقتادة . وقال قوم : يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بينهم ، والآية منسوخة ، نسخها قوله تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } [ المائدة : 49 ] ، وهو قول مجاهد ، وعكرمة ، وروي ذلك عن ابن عباس ، وقال : لم ينسخ من المائدة إلا آيتان ، قوله تعالى : { لا تحلوا شعائر الله } نسخها قوله تعالى : { اقتلوا المشركين } وقوله : { فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } نسخها قوله تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } فأما إذا تحاكم إلينا مسلم وذمي فيجب علينا الحكم بينهما ، لا يختلف القول فيه ، لأنه لا يجوز للمسلم الانقياد لحكم أهل الذمة .

قوله تعالى : { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } ، أي : بالعدل .

قوله تعالى : { إن الله يحب المقسطين } أي العادلين ، روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( المقسطون عند الله على منابر من نور ) .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحۡتِۚ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُمۡ أَوۡ أَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡۖ وَإِن تُعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيۡـٔٗاۖ وَإِنۡ حَكَمۡتَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (42)

41

{ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } أي : الباطل { أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } أي : الحرام ، وهو الرشوة كما قاله ابن مسعود وغير واحد{[9861]} أي : ومن كانت هذه صفته كيف يطهر الله قلبه ؟ وأنى يستجيب له .

ثم قال لنبيه : { فَإِنْ جَاءُوكَ } أي : يتحاكمون إليك { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا } أي : فلا عليك ألا تحكم بينهم ؛ لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق ، بل ما وافق{[9862]} هواهم .

قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعِكْرِمَة ، والحسن ، وقتادة ، والسُّدِّي ، وزيد بن أسلم ، وعطاء الخراساني : هي منسوخة بقوله : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ } [ المائدة : 49 ] ، { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ } أي : بالحق والعدل وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق{[9863]} العدل { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }

/خ44


[9861]:في ر: "ذلك".
[9862]:في أ: "ما يوافق".
[9863]:في ر: "الطريق".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحۡتِۚ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُمۡ أَوۡ أَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡۖ وَإِن تُعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيۡـٔٗاۖ وَإِنۡ حَكَمۡتَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (42)

{ سماعون للكذب } كرره للتأكيد . { أكالون للسحت } أي الحرام كالرشا من سحته إذا استأصله لأنه مسحوت البركة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب في المواضع الثلاثة بضمتين وهما لغتان كالعنق والعنق ، وقرئ بفتح السين على لفظ المصدر . { فإن جاءوك فاحكم بينهم أو اعرض عنهم } تخيير لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تحاكموا إليه بين الحكم والإعراض ولهذا قيل : لو تحاكم كتابيان إلى القاضي لم يجب عليه الحكم ، وهو قول للشافعي والأصح وجوبه إذا كان المترافعان أو أحدهما ذميا لأنا التزمنا الذب عنهم ودفع الظلم منهم ، والآية ليست في أهل الذمة ، وعند أبي حنيفة يجب مطلقا . { وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا } بأن يعادوك لإعراضك عنهم فإن الله سبحانه وتعالى يعصمك من الناس . { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } أي بالعدل الذي أمر الله به . { إن الله يحب المقسطين } فيحفظهم ويعظم شأنهم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحۡتِۚ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُمۡ أَوۡ أَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡۖ وَإِن تُعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيۡـٔٗاۖ وَإِنۡ حَكَمۡتَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (42)

أمن الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم من ضررهم إذا أعرض عنهم وحقر في ذلك شأنهم ، والمعنى أنك منصور ظاهر الأمر على كل حال ، وهذا نحو من قوله تعالى للمؤمنين { لن يضروكم }{[4554]} ثم قال تعالى : { وإن حكمت } أي اخترت أن تحكم بينهم في نازلة ما { فاحكم بينهم بالقسط } أي بالعدل ، يقال أقسط الرجل إذا عدل وحكم بالحق وقسط إذا جار ، ومنه قوله : { وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً } [ الجن : 15 ] ومحبة الله للمقسطين ما يظهر عليهم من نعمه .


[4554]:- من قوله تعالى في الآية (111) من سورة (آل عمران): {لن يضروكم إلا أذى، وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون}.