فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{سَمَّـٰعُونَ لِلۡكَذِبِ أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحۡتِۚ فَإِن جَآءُوكَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُمۡ أَوۡ أَعۡرِضۡ عَنۡهُمۡۖ وَإِن تُعۡرِضۡ عَنۡهُمۡ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيۡـٔٗاۖ وَإِنۡ حَكَمۡتَ فَٱحۡكُم بَيۡنَهُم بِٱلۡقِسۡطِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلۡمُقۡسِطِينَ} (42)

وقوله : { سماعون لِلْكَذِبِ } خبر مبتدأ محذوف : أي هم سماعون للكذب ، فهو راجع إلى الفريقين ، أو إلى المسارعين ، واللام في قوله : { لِلْكَذِبِ } للتقوية أو لتضمين السماع معنى القبول ؛ وقيل إن قوله : { سماعون } مبتدأ خبره { مّنَ الذين هَادُواْ } أي : ومن الذين هادوا قوم { سماعون لِلْكَذِبِ } أي : قابلون لكذب رؤسائهم المحرّفين للتوراة . قوله : { سماعون لِقَوْمٍ آخَرِينَ } خبر ثان ، واللام فيه كاللام في { للكذب } ؛ وقيل اللام للتعليل في الموضعين ، أي : سماعون لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لأجل الكذب عليه ، وسماعون لأجل قوم آخرين ، وجهوهم عيوناً لهم لأجل أن يبلغوهم ، ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم . قوله : { لَمْ يَأْتُوكَ } صفة لقوم : أي لم يحضروا مجلسك وهم طائفة من اليهود ، كانوا لا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبرا وتمرّداً ؛ وقيل هم جماعة من المنافقين ، كانوا يتجنبون مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الفراء : ويجوز سماعين كما قال { مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُواْ } .

قوله : { يُحَرّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مواضعه } من جملة صفات القوم المذكورين : أي يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها ، ويتأوّلونه على غير تأويله . والمحرّفون هم اليهود ؛ وقيل : إن هذه الجملة خبر مبتدأ محذوف ؛ وقيل في محل نصب على الحال من { لَمْ يَأْتُوكَ } وقيل : مستأنفة لا محل لها من الإعراب ، لقصد تعداد معايبهم ومثالبهم . ومعنى : { مِن بَعْدِ مواضعه } من بعد كونه موضوعاً في مواضعه ، أو من بعد وضعه في مواضعه التي وضعه الله فيها ، من حيث لفظه ، أو من حيث معناه .

قوله : { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ } جملة حالية ، من ضمير يحرفون ، أو مستأنفة ، أو صفة لقوم ، أو خبر مبتدأ محذوف ، والإشارة بقولهم { هذا } إلى الكلام المحرّف : أي إن أوتيتم من جهة محمد هذا الكلام الذي حرّفناه ، فخذوه واعملوا به ، وإن لم تؤتوه بل جاءكم بغيره ، فاحذروا من قبوله والعمل به . قوله : { وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ } أي : ضلالته { فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً } أي : فلا تستطيع دفع ذلك عنه ولا تقدر على نفعه وهدايته ، وهذه الجملة مستأنفة مقررة لما قبلها ، وظاهرها العموم ويدخل فيها هؤلاء الذين سياق الكلام معهم دخولاً أوّليا ، والإشارة بقوله : { أولئك } إلى من تقدم ذكرهم ، من الذين قالوا آمنا بأفواههم ومن الذين هادوا ، وهو مبتدأ وخبره الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم : أي لم يرد تطهيرها من أرجاس الكفر والنفاق ، كما طهّر قلوب المؤمنين { لَهُمْ فِي الدنيا خِزْي } بظهور نفاق المنافقين ، وبضرب الجزية على الكافرين ، وظهور تحريفهم وكتمهم لما أنزل الله في التوراة .

قوله : { سماعون لِلْكَذِبِ } كرّره تأكيداً لقبحه ، وليكون كالمقدّمة لما بعده ، وهو : { أكالون للسحت } وهما من جملة أخبار ذلك المبتدأ المقدّر سابقاً . والسحت ، بضم السين وسكون الحاء : المال الحرام ، وأصله الهلاك والشدّة ، من سحته : إذا هلكه ، ومنه { فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } ومنه قول الفرزدق :

وعضّ زمان يابن مروان لم يدع *** من المال إلا مسحت أو مُحلَّق

ويقال للحالق اسحت : أي استأصل ؛ وسمي الحرام سحتا لأنه يسحت الطاعات : أي يذهبها ويستأصلها ، وقال الفراء : أصله كلب الجوع ؛ وقيل هو الرشوة ، والأوّل أولى ، والرشوة تدخل في الحرام دخولاً أوّلياً . وقد فسره جماعة بنوع من أنواع الحرام خاص كالهدية لمن يقضى له حاجة ، وحلوان الكاهن ، والتعميم أولى بالصواب . قوله : { فَإِن جَاءوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } فيه تخيير لرسول الله صلى الله عليه وسلم بين الحكم بينهم والإعراض عنهم .

وقد استدلّ به على أن حكام المسلمين مخيرون بين الأمرين . وقد أجمع العلماء على أنه يجب على حكام المسلمين أن يحكموا بين المسلم والذمي إذا ترافعا إليهم . واختلفوا في أهل الذمة إذا ترافعوا فيما بينهم ؛ فذهب قوم إلى التخيير ، وذهب آخرون إلى الوجوب ، وقالوا : إن هذه الآية منسوخة بقوله : { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله } وبه قال ابن عباس ، ومجاهد وعكرمة ، والزهري وعمر بن عبد العزيز والسديّ : وهو الصحيح من قول الشافعي ، وحكاه القرطبي عن أكثر العلماء .

قوله : { وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً } أي إن اخترت الإعراض عن الحكم بينهم ، فلا سبيل لهم عليك ، لأن الله حافظك وناصرك عليهم ، وإن اخترت الحكم بينهم { فاحكم بَيْنَهُم بالقسط } أي بالعدل الذي أمرك الله به وأنزله عليك .

/خ44