قوله تعالى : { تبارك } تفاعل من البركة . عن ابن عباس : معناه : جاء بكل بركة ، دليله قول الحسن : مجيء البركة من قبله . وقال الضحاك : تعظم ، { الذي نزل الفرقان } أي : القرآن ، { على عبده } محمد صلى الله عليه وسلم . { ليكون للعالمين نذيراً } أي : للجن والإنس . قيل : النذير هو القرآن . وقيل : محمد صلى الله عليه وسلم .
يقول تعالى حامدا نفسه الكريمة على ما نزله على رسوله الكريم من القرآن العظيم ، كما قال تعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ [ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ]{[21393]} } [ الكهف : 1 - 3 ] وقال هاهنا : { تَبَارَكَ } وهو تفاعَلَ من البركة المستقرة الدائمة الثابتة { الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ } نزل : فَعَّل ، من التكرر ، والتكثر ، كما قال : { وَالْكِتَابِ الَّذِي نزلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزلَ مِنْ قَبْلُ } [ النساء : 136 ] ؛ لأن الكتب المتقدمة كانت تنزل جملة واحدة ، والقرآن نزل{[21394]} مُنَجَّماً مُفَرَّقاً مُفَصَّلا آيات بعد آيات ، وأحكاما بعد أحكام ، وسوراً بعد سُوَر ، وهذا أشد وأبلغ ، وأشد اعتناءً بمن أنزل عليه كما قال في أثناء هذه السورة : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلا . وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا } [ الفرقان : 32 ، 33 ] . ولهذا سماه هاهنا الفرقان ؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل ، والهدى والضلال ، والغي والرشاد ، والحلال والحرام .
وقوله : { عَلَى عَبْدِهِ } : هذه صفة مدح وثناء ؛ لأنه أضافه إلى عبوديته ، كما وصفه بها في أشرف أحواله ، وهي ليلة الإسراء ، فقال : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا } [ الإسراء : 1 ] ، وكما وصفه بذلك في مقام الدعوة إليه : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا } [ الجن : 19 ] ، وكذلك وصفه عند إنزال الكتاب عليه ونزول الملك إليه ، فقال { تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } .
وقوله : { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } أي : إنما خصَّه بهذا الكتاب العظيم المبين المفصل المحكم الذي : { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 42 ] ، الذي جعله فرقانا عظيما - إنما خصه به ليخصه بالرسالة إلى من يستظل بالخضراء ، ويستقل على الغبراء ، كما قال - صلوات الله وسلامه عليه - " بعثت إلى الأحمر والأسود " {[21395]} . وقال : " أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي " ، فذكر منهن : أنه " كان النبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس عامة " ، وقال الله تعالى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ [ لا إِلَهَ إِلا هُوَ ] {[21396]} يُحْيِي وَيُمِيتُ } [ الأعراف : 158 ]
القول في تأويل قوله تعالى : { تَبَارَكَ الّذِي نَزّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىَ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } .
قال أبو جعفر : تبارك : تَفاعَلَ من البركة ، كما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو رَوق ، عن الضحاك ، عن عبد الله بن عباس ، قال : تبارك : تَفَاعَلَ من البركة .
وهو كقول القائل : تقدّس ربنا ، فقوله : تَبارَكَ الّذِي نَزّلَ الفُرْقانَ يقول : تبارك الذي نزّل الفصل بين الحقّ والباطل ، فصلاً بعد فصل وسورة بعد سُورة ، على عبده محمد صلى الله عليه وسلم ، ليكون محمد لجميع الجنّ والإنس الذين بعثه الله إليهم داعيا إليه ، نذيرا : يعني منذِرا يُنذرهم عِقابه ويخوّفهم عذابه ، إن لم يوحدوه ولم يخلصوا له العبادة ويخلعوا كلّ ما دونه من الاَلهة والأوثان .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : تَبارَكَ الّذِي نَزّلَ الفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ ليَكُونَ للْعالَمِينَ نَذِيرا قال : النبيّ النذير . وقرأ : وَإنْ مِنْ أُمّةٍ إلاّ خَلا فِيها نَذِيرٌ وقرأ : وَما أهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إلاّ لَهَا مُنْذِرُونَ قال : رسل . قال : المنذرون : الرسل . قال : وكان نذيرا واحدا بلّغ ما بين المشرق والمغرب ، ذو القرنين ، ثم بلغ السدّين ، وكان نذيرا ، ولم أسمع أحدا يُحِقّ أنه كان نبيّا . وأُوحِيَ إليّ هذَا القُرآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ قال : من بلغه القرآن من الخلق ، فرسول الله نذيره . وقرأ : يا أيّها النّاسُ إنّي رَسُولُ اللّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعا وقال : لم يرسل الله رسولاً إلى الناس عامة إلاّ نوحا ، بدأ به الخلق ، فكان رسولَ أهل الأرض كلهم ، ومحمد صلى الله عليه وسلم خَتَم به .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.