السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلۡفُرۡقَانَ عَلَىٰ عَبۡدِهِۦ لِيَكُونَ لِلۡعَٰلَمِينَ نَذِيرًا} (1)

مقدمة السورة:

مكية إلا قوله تعالى : { والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر } إلى { رحيماً } فمدني ، وآياتها سبع وسبعون آية ، وثمانمائة واثنان وسبعون كلمة ، وعدد حروفها ثلاثة آلاف وسبعمائة وثمانون حرفاً .

{ بسم الله } الذي له الحجة البالغة { الرحمان } الذي عم الخلق بنعمه { الرحيم } الذي وسعت رحمته كل شيء .

{ تبارك } قال الزجاج : تفاعل من البركة وهي كثرة الخير وزيادته ، ومنه تبارك الله ، وفيه معنيان : تزايد خيره وتكاثر ، أو تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله ، وعن ابن عباس كأن معناه جاءنا بكل بركة وخير ، وقال الضحاك : تبارك تعاظم ، ولا يستعمل إلا لله تعالى ولا يتصرف فيه ، ثم وصف ذاته الشريفة بما يدل على ذلك بقوله تعالى : { الذي نزل الفرقان } أي : القرآن ، والفرقان مصدر فرق بين الشيئين إذا فصل بينهما ، وسمي به القرآن لفصله بين الحق والباطل ولأنه لم ينزل جملة واحدة ، ولكن مفروقاً مفصولاً بين بعضه وبعض في الإنزال ؛ ألا ترى قوله تعالى : { وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث } )الإسراء ، 106 ) { على عبده } أي : محمد صلى الله عليه وسلم وأضافه إلى نفسه إضافة تشريف ، وفي عود ضمير { ليكون } ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه يعود على الذي نزل أي : ليكون الذي نزل الفرقان نذيراً .

الثاني : أنه يعود على الفرقان أي : ليكون الفرقان نذيراً ، وأضاف الإنذار إليه كما أضاف الهداية إليه في قوله تعالى : { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } ( الإسراء ، 9 ) ؛ قال ابن عادل : وهو بعيد ؛ لأن المنذر والنذير في صفات الفاعل المخوف ووصف القرآن به مجاز وحمل الكلام على الحقيقة أولى .

الثالث : أنه يعود على عبده أي : ليكون عبده محمد صلى الله عليه وسلم { للعالمين نذيراً } أي : وبشيراً ، وهذا أحسن الوجوه معنىً وصناعة لقربه مما يعود عليه والضمير يعود على أقرب مذكور ، وللعالمين متعلق بنذيراً ، وإنما قدّم لأجل الفواصل ، ونذيراً بمعنى منذر أي : مخوف ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى الإنذار كالنكير بمعنى الإنكار ومنه قوله تعالى : { فكيف كان عذابي ونذر } ( القمر ، 16 ) .

تنبيه : المراد بالعالمين قال البقاعي : أي : المكلفين كلهم من الجن والإنس والملائكة اه . ولكن في إرساله للملائكة خلاف بين العلماء ، فقد نقل الجلال المحلي في شرحه على «جمع الجوامع » الإجماع على أنه لم يرسل إليهم ، وغيره صرح بأنه أرسل إليهم ، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ .

فإن قيل : قوله تعالى : تبارك يدل على كثرة الخير والبركة ، فالمذكور عقبه لا بد وأن يكون مبيناً لكثرة الخير والمنافع ، والإنذار يوجب الغم والخوف فكيف يليق ذكره بهذا الموضع ؟ أجيب : بأن الإنذار يجري مجرى تأديب الوالد كما أنه كلما كانت المبالغة في تأديب الوالد أكثر كان رجوع الخلق إلى الله تعالى أكثر ، وكانت السعادة الأخروية أتم وأكثر ، وهذا كالتنبيه على أنه لا التفات إلى المنافع العاجلة ؛ لأنه تعالى لما وصف نفسه يعطي الخيرات الكثيرة لم يذكر إلا منافع الدين ، ولم يذكر منافع الدنيا البتة .