قوله تعالى : { لكفرنا عنهم سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل } ، يعني : أقاموا أحكامهما وحدودهما ، وعملوا بما فيهما .
قوله تعالى : { وما أنزل إليهم من ربهم } ، يعني : القرآن ، وقيل : كتب أنبياء بني إسرائيل .
قوله تعالى : { لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم } ، قيل : من فوقهم هو المطر ، ومن تحت أرجلهم نبات الأرض . قال ابن عباس رضي الله عنهما : لأنزلت عليهم القطر ، وأخرجت لهم من نبات الأرض . قال الفراء : أراد به التوسعة في الرزق ، كما يقال : فلان في الخير من قرنه إلى قدمه ، نظيره قوله تعالى : { ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض } [ الأعراف :96 ] .
قوله تعالى : { منهم أمة مقتصدة } ، يعني : مؤمني أهل الكتاب ، عبد الله بن سلام وأصحابه ، ( مقتصدة ) أي عادلة غير غالية ، ولا مقصرة جافية ، ومعنى الاقتصاد في اللغة : الاعتدال في العمل من غير غلو ولا تقصير .
قوله تعالى : { وكثير منهم } ، كعب بن الأشرف وأصحابه .
قوله تعالى : { ساء ما يعملون } ، بئس ما يعملون ، بئس شيئاً عملهم ، قال ابن عباس رضي الله عنهما :عملوا بالقبيح مع التكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم .
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ } قال ابن عباس ، وغيره : يعني القرآن . { لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } أي : لأنهم عملوا بما في الكتب التي بأيديهم عن الأنبياء ، على ما هي عليه ، من غير تحريف ولا تغيير ولا تبديل ، لقادهم ذلك إلى اتباع الحق والعمل بمقتضى ما بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم ؛ فإن كتبهم ناطقة بتصديقه والأمر باتباعه حتمًا لا محالة .
وقوله : { لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } يعني بذلك{[10050]} كثرة الرزق النازل عليهم من السماء والنابت لهم من الأرض .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : { لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ } يعني : لأرسل [ السماء ]{[10051]} عليهم مدرارًا ، { وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } يعني : يخرج من الأرض بركاتها .
وكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، والسُّدِّي ، كما قال [ تعالى ]{[10052]} { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ [ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ] } [ الأعراف : 96 ] ، {[10053]} وقال : { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ] } [ الروم : 41 ] . {[10054]}
وقال بعضهم : معناه { لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } يعني : من غير كَد ولا تعب ولا شقاء ولا عناء .
وقال ابن جرير : قال بعضهم : معناه : لكانوا في{[10055]} الخير ، كما يقول القائل : " هو في الخير من قرَنه{[10056]} إلى قدمه " . ثم رد هذا القول لمخالفة أقوال السلف{[10057]}
وقد ذكر ابن أبي حاتم ، عند قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ } حديث{[10058]} علقمة ، عن صفوان بن عمرو ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يوشك أن يرفع العلم " . فقال زياد بن لبيد : يا رسول الله ، وكيف يرفع العلم وقد قرأنا القرآن وعلمناه أبناءنا ؟ ! قال{[10059]} ثكلتك أمك يا ابن لبيد ! إن كنت لأراك{[10060]} من أفقه أهل المدينة ، أوليست{[10061]} التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى ، فما أغنى عنهم حين تركوا أمر الله " ثم قرأ { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ }
هكذا أورده{[10062]} ابن أبي حاتم حديثًا{[10063]} معلقًا{[10064]} من أول إسناده ، مرسلا في آخره . وقد رواه الإمام أحمد بن حنبل متصلا موصولا فقال :
حدثنا وَكِيع ، حدثنا الأعمش ، عن سالم بن أبي الجَعْد ، عن زياد بن لَبِيد قال : ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا فقال : " وذاك عند{[10065]} ذهاب العلم " . قال : قلنا : يا رسول الله ، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونُقْرئه أبناءنا ، ويُقْرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة ؟ قال : " ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد ، إن كنتُ لأراك من أفقه رجل بالمدينة ، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء "
وكذا رواه ابن ماجه ، عن أبى بكر بن أبي شيبة ، عن وكيع بإسناده نحوه{[10066]} وهذا إسناد صحيح .
وقوله : { مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ } كقوله تعالى : { وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [ الأعراف : 159 ] ، وكقوله عن أتباع عيسى : { فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ [ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ]{[10067]} } [ الحديد : 27 ] . فجعل أعلى مقاماتهم الاقتصاد ، وهو{[10068]} أوسط مقامات هذه الأمة ، وفوق ذلك رتبة السابقين{[10069]} كما في قوله تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } الآية [ فاطر : 32 ، 33 ] . والصحيح أن الأقسام الثلاثة من هذه الأمة يدخلون الجنة .
وقد قال أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا أحمد بن يونس الضَّبِّي ، حدثنا عاصم بن علي ، حدثنا أبو مَعْشَر ، عن يعقوب بن يزيد بن طلحة ، عن زيد بن أسلم ، عن أنس بن مالك قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " تفرقت أمة موسى على إحدى{[10070]} وسبعين ملة ، سبعون منها في النار وواحدة في الجنة ، وتفرقت أمة عيسى على ثنتين وسبعين ملة ، واحدة منها في الجنة وإحدى وسبعون منها في النار ، وتعلو أمتي على الفرقتين جميعًا . واحدة في الجنة ، وثنتان وسبعون في النار " . قالوا : من هم يا رسول الله ؟ قال : " الجماعات الجماعات " .
قال يعقوب بن يزيد{[10071]} كان علي بن أبي طالب إذا حدث بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تلا فيه قرآنا : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ } إلى قوله تعالى : { مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ } وتلا أيضًا : { وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [ الأعراف : 181 ] يعني : أمة محمد صلى الله عليه وسلم . {[10072]}
وهذا حديث غريب جدًا من هذا الوجه وبهذا السياق . وحديثُ افتراق الأمم إلى بضع وسبعين مَرْوي من طرق عديدة ، وقد ذكرناه في موضع آخر . ولله الحمد والمنة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.