معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا لِلظَّـٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمۡ سُرَادِقُهَاۚ وَإِن يَسۡتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٖ كَٱلۡمُهۡلِ يَشۡوِي ٱلۡوُجُوهَۚ بِئۡسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتۡ مُرۡتَفَقًا} (29)

قوله تعالى : { وقل الحق من ربكم } أي : ما ذكر من الإيمان والقرآن ، معناه : قل يا محمد لهؤلاء الذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا : أيها الناس قد جاءكم من ربكم الحق وإليه التوفيق والخذلان ، وبيده الهدى والضلال ، ليس إلي من ذلك شيء . ‌{ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } ، هذا على طريق التهديد والوعيد كقوله : { اعملوا ما شئتم } [ فصلت -40 ] . وقيل معنى الآية : وقل الحق من ربكم ، ولست بطارد المؤمنين لهواكم ، فإن شئتم فآمنوا وإن شئتم فاكفروا ، فإن كفرتم فقد أعد لكم ربكم ناراً أحاط بكم سرادقها ، وإن آمنتم فلكم ما وصف الله عز وجل لأهل طاعته . وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في معنى الآية : من شاء الله له الإيمان آمن ، ومن شاء له الكفر ، كفر ، وهو قوله : { وما تشاؤون إلا أن يشاء الله } [ الإنسان – 30 ] . { إنا أعتدنا } : أعددنا ، وهيأنا ، من الإعداد ، وهو العدة ، { للظالمين } للكافرين { ناراً أحاط بهم سرادقها } السرادق : الحجزة التي تطيف بالفساطيط .

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنبأنا محمد بن أحمد بن الحارث ، أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أنبأنا عبد الله بن المبارك ، عن رشدين بن سعد ، حدثني عمرو بن الحارث ، عن دراج بن أبي السمح ، عن أبي الهيثم بن عبد الله ، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " سرادق النار أربعة جدر كثف كل جدار مثل مسيرة أربعين سنة " . قال ابن عباس : هو حائط من نار . وقال الكلبي :هو عنق يخرج من النار فيحيط بالكفار كالحظيرة . وقيل : هو دخان يحيط بالكفار وهو الذي ذكره الله تعالى ‌{ انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب } [ المرسلات – 30 ] . { وإن يستغيثوا } ، من شدة العطش ، { يغاثوا بماء كالمهل } .

أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنبأنا محمد بن أحمد بن الحارث ، أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنبأنا عبد الله بن محمود ، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله بن الخلال ، ثنا عبد الله بن المبارك عن رشدين بن سعد ، ثنا عمرو بن الحارث ، عن دراج بن أبي السمح ، عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بماء كالمهل " قال كعكر الزيت ، فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه فيه " . وقال ابن عباس : هو ماء غليظ مثل دردي الزيت . وقال مجاهد : هو القيح والدم . وسئل ابن مسعود عن : المهل فدعا بذهب وفضة فأوقد عليهما النار حتى ذابا ، ثم قال : هذا أشبه شيء بالمهل . { يشوي الوجوه } ينضج الوجوه من حره . { بئس الشراب وساءت } النار { مرتفقاً } ، قال ابن عباس : منزلاً . وقال مجاهد : مجتمعاً . وقال عطاء : مقراً . وقال القتيبي : مجلساً . وأصل المرتفق : المتكأ .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا لِلظَّـٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمۡ سُرَادِقُهَاۚ وَإِن يَسۡتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٖ كَٱلۡمُهۡلِ يَشۡوِي ٱلۡوُجُوهَۚ بِئۡسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتۡ مُرۡتَفَقًا} (29)

28

( وقل : الحق من ربكم ، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) . .

بهذه العزة ، وبهذه الصراحة ، وبهذه الصرامة ، فالحق لا ينثني ولا ينحني ، إنما يسير في طريقه قيما لا عوج فيه ، قويا لا ضعف فيه ، صريحا لا مداورة فيه . فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر . ومن لم يعجبه الحق فليذهب ، ومن لم يجعل هواه تبعا لما جاء من عند الله فلا مجاملة على حساب العقيدة ؛ ومن لم يحن هامته ويطامن من كبريائه أمام جلال الله فلا حاجة بالعقيدة إليه .

إن العقيدة ليست ملكا لأحد حتى يجامل فيها . إنما هي ملك لله ، والله غني عن العالمين . والعقيدة لا تعتز ولا تنتصر بمن لا يريدونها لذاتها خالصة ، ولا يأخذونها كما هي بلا تحوير . والذي يترفع عن المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه لا يرجى منه خير للإسلام ولا المسلمين .

ثم يعرض ما أعد للكافرين ، وما أعد للمؤمنين في مشهد من مشاهد القيامة :

( إنا أعتدنا للظالمين نارا أحاط بهم سرادقها ؛ وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه . بئس الشراب وساءت مرتفقا . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا . أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار ، يحلون فيها من أساور من ذهب ؛ ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق ، متكئين فيها على الأرائك . نعم الثواب وحسنت مرتفقا ) .

( إنا أعتدنا للظالمين نارا ) . . أعددناها وأحضرناها . . فهي لا تحتاج إلى جهد لإيقادها ، ولا تستغرق زمنا لإعدادها ! ومع أن خلق أي شيء لا يقتضي إلا كلمة الإرادة : كن . فيكون . إلا أن التعبير هنا بلفظ( اعتدنا )يلقي ظل السرعة والتهيؤ والاستعداد ، والأخذ المباشر إلى النار المعدة المهيأة للاستقبال !

وهي نار ذات سرادق يحيط بالظالمين ، فلا سبيل إلى الهرب ، ولا أمل في النجاة والإفلات . ولا مطمع في منفذ تهب منه نسمة ، أو يكون فيه استرواح !

فإن استغاثوا من الحريق والظمأ أغيثوا . . أغيثوا بماء كدردي الزيت المغلي في قول ، وكالصديد الساخن في قول ! يشوي الوجوه بالقرب منها فكيف بالحلوق والبطون التي تتجرعه ( بئس الشراب ) الذي يغاث به الملهوفون من الحريق ! ويا لسوء النار وسرادقها مكانا للارتفاق والاتكاء . وفي ذكر الارتفاق في سرادق النار تهكم مرير . فما هم هنالك للارتفاق ، إنما هم للاشتواء !

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡۚ إِنَّآ أَعۡتَدۡنَا لِلظَّـٰلِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمۡ سُرَادِقُهَاۚ وَإِن يَسۡتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٖ كَٱلۡمُهۡلِ يَشۡوِي ٱلۡوُجُوهَۚ بِئۡسَ ٱلشَّرَابُ وَسَآءَتۡ مُرۡتَفَقًا} (29)

{ وقل الحق من ربكم } الحق ما يكون من جهة الله لا ما يقتضيه الهوى ، ويجوز أن يكون الحق خبر مبتدأ محذوف و{ من ربكم } حالا . { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } لا أبالي بإيمان من آمن ولا كفر من كفر ، وهو لا يقتضي استقلال العبد بفعله فإنه وان كان بمشيئته فمشيئته ليست بمشيئته . { إنا اعتدنا } هيأنا . { للظالمين نارا أحاط بهم سُرادقُها } فسطاطها ، شبه به ما يحيط بهم من النار . وقيل السرادق الحجرة التي تكون حول الفسطاط . وقيل سرادقها دخانها وقيل حائط من نار { وإن يستغيثوا } من العطش . { يُغاثوا بما كالمهل } كالجسد المذاب . وقيل كدرديّ الزيت وهو على طريقة قوله : فاعتبوا بالصيلم . { يشوي الوجوه } إذا قدم ليشرب من فرط حرارته ، وهو صفة ثانية لماء أو حال من المهل أو الضمير في الكاف . { بئس الشراب } المهل . { وساءت } النار . { مرتفقاً } متكأ وأصل الارتفاق نصب المرفق تحت الخد ، وهو لمقابلة قوله وحسنت مرتفقا وألا فلا ارتفاق لأهل النار .