قوله تعالى : { قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول } . مذللة بالعمل يقال : رجل ذلول بين الذل ، ودابة ذلول بينة الذل . قوله تعالى : { تثير الأرض } . تقلبها للزراعة .
قوله تعالى : { ولا تسقي الحرث } . أي ليست بسانية .
قوله تعالى : { مسلمة } . بريئة من العيوب .
قوله تعالى : { لا شية فيها } . لا لون لها سوى لون جميع جلدها قال عطاء : لا عيب فيها ، وقال مجاهد : لا بياض فيها ولا سواد .
قوله تعالى : { قالوا الآن جئت بالحق } . أي بالبيان التام الشافي الذي لا إشكال فيه ، وطلبوها فلم يجدوا بكمال وصفها إلا مع الفتى ، فاشتروها بملء مسكها ذهباً .
قوله تعالى : { فذبحوها وما كادوا يفعلون } . من غلاء ثمنها وقال محمد بن كعب : وما كادوا يجدونها باجتماع أوصافها ، وقيل وما كادوا يفعلون من شدة اضطرابهم واختلافهم فيها .
ولم يكن بد كذلك أن يزيد الأمر عليهم مشقة وتعقيدا ، وأن تزيد دائرة الاختيار المتاحة لهم حصرا وضيقا ، بإضافة أوصاف جديدة للبقرة المطلوبة ، كانوا في سعة منها وفي غنى عنها :
( قال : إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث ، مسلمة لا شية فيها ) .
وهكذا لم تعد بقرة متوسطة العمر . صفراء فاقع لونها فارهة فحسب . بل لم يعد بد أن تكون - مع هذا - بقرة غير مذللة ولا مدربة على حرث الأرض أو سقي الزرع ؛ وأن تكون كذلك خالصة اللون لا تشوبها علامة .
هنا فقط . . وبعد أن تعقد الأمر ، وتضاعفت الشروط ، وضاق مجال الاختيار :
( قالوا : الآن جئت بالحق ) . .
الآن ! كأنما كان كل ما مضى ليس حقا . أو كأنهم لم يستيقنوا أن ما جاءهم به هو الحق إلا اللحظة ! ( فذبحوها وما كادوا يفعلون ) ! !
{ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ } أي : إنها ليست مذللة بالحراثة ولا معدة للسقي في السانية ، بل هي مكرمة حسنة صبيحة { مُسَلَّمَةٌ } صحيحة لا عيب فيها { لا شِيَةَ فِيهَا } أي : ليس فيها لون غير لونها .
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة { مُسَلَّمَةٌ } يقول : لا عيب فيها ، وكذا قال أبو العالية والربيع ، وقال مجاهد { مُسَلَّمَةٌ } من الشية .
وقال عطاء الخراساني : { مُسَلَّمَةٌ } القوائم والخلق { لا شِيَةَ فِيهَا } قال مجاهد : لا بياض ولا سواد . وقال أبو العالية والربيع ، والحسن وقتادة : ليس فيها بياض . وقال عطاء الخراساني : { لا شِيَةَ فِيهَا } قال : لونها واحد بهيم . وروي عن عطية العوفي ، ووهب بن منبه ، وإسماعيل بن أبي خالد ، نحو ذلك . وقال السدي : { لا شِيَةَ فِيهَا } من بياض ولا سواد ولا حمرة ، وكل هذه الأقوال متقاربة [ في المعنى ، وقد زعم بعضهم أن المعنى في ذلك قوله تعالى : { إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ } ليست بمذللة بالعمل ثم استأنف فقال : { تُثِيرُ الأرْضَ } أي : يعمل عليها بالحراثة لكنها لا تسقي الحرث ، وهذا ضعيف ؛ لأنه فسر الذلول التي لم تذلل بالعمل بأنها لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث كذا قرره القرطبي وغيره ]{[1990]}
{ قَالُوا الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ } قال قتادة : الآن بَيَّنْتَ لنا ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : وقبل ذلك - والله{[1991]} - قد جاءهم الحق .
{ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ } قال الضحاك ، عن ابن عباس : كادوا ألا يفعلوا ، ولم يكن ذلك الذي أرادوا ، لأنهم أرادوا ألا يذبحوها .
يعني أنَّهم مع هذا البيان{[1992]} وهذه الأسئلة ، والأجوبة ، والإيضاح ما ذبحوها إلا بعد الجهد ، وفي هذا ذم لهم ، وذلك أنه لم يكن غرضهم إلا التعنت ، فلهذا ما كادوا يذبحونها .
وقال محمد بن كعب ، ومحمد بن قيس : { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ } لكثرة ثمنها .
وفي هذا نظر ؛ لأن كثرة ثمنها لم يثبت إلا من نقل بني إسرائيل ، كما تقدم من حكاية أبي العالية والسدي ، ورواه العوفي عن ابن عباس . وقال عبيدة ، ومجاهد ، ووهب بن منبه ، وأبو العالية ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : إنهم اشتروها بمال كثير{[1993]} وفيه اختلاف ، ثم قد قيل في ثمنها غير ذلك . وقال عبد الرزاق : أنبأنا ابن عيينة ، أخبرني محمد بن سوقة ، عن عكرمة ، قال : ما كان ثمنها إلا ثلاثة دنانير{[1994]} هذا إسناد جيد عن عكرمة ، والظاهر أنه نقله عن أهل الكتاب أيضًا .
وقال ابن جرير : وقال آخرون : لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة ، إن اطلع الله على قاتل القتيل الذي اختصموا فيه .
ولم يسنده عن أحد ، ثم اختار أن الصواب في ذلك أنهم لم يكادوا يفعلوا ذلك لغلاء ثمنها ، وللفضيحة . وفي هذا نظر ، بل الصواب - والله أعلم - ما تقدم من رواية الضحاك ، عن ابن عباس ، على ما وجهناه . وبالله التوفيق .
مسألة : استدل بهذه الآية في حصر صفات هذه البقرة حتى تعينت أو تم تقييدها بعد الإطلاق على صحة السلم في الحيوان كما هو مذهب مالك والأوزاعي والليث والشافعي وأحمد وجمهور العلماء سلفًا وخلفًا بدليل ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تنعت المرأةُ المرأةَ لزوجها كأنه ينظر إليها " {[1995]} . وكما وصف النبي صلى الله عليه وسلم إبل الدية في قتل الخطأ وشبه العمد بالصفات المذكورة بالحديث ، وقال أبو حنيفة والثوري والكوفيون : لا يصح السلم في الحيوان لأنه لا تنضبط أحواله ، وحكي مثله عن ابن مسعود وحذيفة بن اليمان وعبد الرحمن بن سمرة وغيرهم .
{ قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث } أي لم تذلل لكراب الأرض وسقي الحرث ، و{ لا ذلول } صفة لبقرة بمعنى غير ذلول ، ولا الثانية مزيدة لتأكيد الأولى والفعلان صفتا ذلول كأنه قيل : لا ذلول مثيرة وساقية ، وقرئ لا ذلول بالفتح أي حيث هي ، كقولك مررت برجل لا بخيل ولا جبان ، أي حيث هو ، وتسقي من أسقى .
{ مسلمة } سلمها الله تعالى من العيوب ، أو أهلها من العمل ، أو أخلص لونها ، من سلم له كذا إذا خلص له { لا شية فيها } لا لون فيها يخالف لون جلدها ، وهي في الأصل مصدر ، وشاه وشيا وشية إذا خلط بلونه لونا آخر .
{ قالوا الآن جئت بالحق } أي بحقيقة وصف البقرة وحققتها لنا ، وقرئ { الآن } بالمد على الاستفهام ، ولان بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على السلام . { فذبحوها } فيه اختصار ، والتقدير : فحصلوا البقرة المنعوتة فذبحوها .
{ وما كادوا يفعلون } لتطويلهم وكثرة مراجعاتهم ، أو لخوف الفضيحة في ظهور القاتل ، أو لغلاء ثمنها . إذ روي : أن شيخا صالحا منهم كان له عجلة ، فأتى بها الغيضة وقال : اللهم إني استودعتكها لابني حتى يكبر ، فشبت وكانت وحيدة بتلك الصفات ، فساوموها من اليتيم وأمه حتى اشتروها بملء مسكها ذهبا ، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير . وكاد من أفعال المقاربة وضع لدنو الخبر حصولا ، فإذا دخل عليه النفي قيل معناه الإثبات مطلقا . وقيل ماضيا ، والصحيح أنه كسائر الأفعال ولا ينافي قوله : { وما كادوا يفعلون } قوله { فذبحوها } لاختلاف وقتيهما ، إذ المعنى أنهم ما قاربوا أن يفعلوا حتى انتهت سؤالاتهم ، وانقطعت تعللاتهم ، ففعلوا كالمضطر الملجأ إلى الفعل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.