قوله تعالى : { فإن طلقها } . يعني الطلقة الثالثة .
قوله تعالى : { فلا تحل له من بعد } . أي من بعد الطلقة الثالثة .
قوله تعالى : { حتى تنكح زوجاً غيره } . أي : غير المطلق فيجامعهما ، والنكاح يتناول الوطء والعقد جميعاً ، نزلت في تميمة ، وقيل عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك القرظي ، كانت ابن عمها رفاعة بن وهب بن عتيك القرظي فطلقها ثلاثاً .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع أنا الشافعي أخبرنا سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنه سمعها تقول : " جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إني كنت عند رفاعة فطلقني فبت طلاقي ، وتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير ، وإنما معه مثل هدبة الثوب ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ قالت نعم قال : لا ، حتى يذوق عسيلتك وتذوقي عسيلته " .
وروي أنها لبثت ما شاء الله ، ثم رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن زوجي قد مسني ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم كذبت بقولك الأول فلن نصدقك في الآخر . فلبثت حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم فأتت أبا بكر رضي الله عنه فقالت : يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أرجع زوجي الأول فإن زوجي الآخر مسني وطلقني ؟ فقال لها أبو بكر : قد شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتيته وقال لك ما قال فلا ترجعي إليه ، فلما قبض أبو بكر رضي الله عنه ، أتت عمر رضي الله عنه وقالت له : مثل ذلك ، فقال لها عمر رضي الله عنه : لا ترجعي إليه ، لئن رجعت له لأرجمنك .
قوله تعالى : { فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا } . يعني فإن طلقها الزوج الثاني بعد ما جامعها فلا جناح عليهما ، يعني على المرأة وعلى الزوج ، الأول أن يتراجعا يعني بنكاح جديد .
قوله تعالى : { إن ظنا } . أي علما وقيل رجوا ، لأن أحداً لا يعلم ما هو كائن إلا الله عز وجل .
قوله تعالى : { أن يقيما حدود الله } . أي يكون بينهما الصلاح وحسن الصحبة ، وقال مجاهد : معناه إن علما أن نكاحهما على غير دلسة ، وأراد بالدلسة التحليل ، وهو مذهب سفيان الثوري والأوزاعي ومالك وأحمد وإسحاق ، قالوا : إذا تزوجت المطلقة ثلاثاً زوجاً آخر ليحللها للزوج الأول : فإن النكاح فاسد ، وذهب جماعة إلى أنه إن لم يشترط في النكاح مع الثاني أنه يفارقها فالنكاح صحيح ويحصل به التحليل ولها صداق مثلها ، غير أنه يكره إذا كان في عزمها ذلك .
أخبرنا أبو الفرج المظفر بن إسماعيل التميمي ، أخبرنا أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي ، أنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ ، أنا الحسن بن الفرج ، أخبرنا عمرو بن خالد الحراني ، أنا عبيد الله بن عبد الكريم هو الجوزي عن أبي واصل عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لعن المحلل والمحلل له " . وقال نافع : أتى رجل ابن عمر فقال له : إن رجلاً طلق امرأته ثلاثاً ، فانطلق أخ له من غيره مؤامرة فتزوجها ليحلها للأول ؟ فقال : لا ، إلا نكاح رغبة ، كنا نعد سفاحاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لعن الله المحلل والمحلل له " .
قوله تعالى : { وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون } . يعني يعلمون ما أمرهم الله تعالى به .
ثم نمضي مع السياق في أحكام الطلاق :
( فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره . فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا . . إن ظنا أن يقيما حدود الله . وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون ) . .
إن الطلقة الثالثة - كما تبين - دليل على فساد أصيل في هذه الحياة لا سبيل إلى إصلاحه من قريب - إن كان الزوج جادا عامدا في الطلاق - وفي هذه الحالة يحسن أن ينصرف كلاهما إلى التماس شريك جديد . فأما إن كانت تلك الطلقات عبثا أو تسرعا أو رعونة ، فالأمر إذن يستوجب وضع حد للعبث بهذا الحق ، الذي قرر ليكون صمام آمن ، وليكون علاجا اضطراريا لعلة مستعصية ، لا ليكون موضعا للعبث والتسرع والسفاهة .
ويجب حينئذ أن تنتهي هذه الحياة التي لا تجد من الزوج احتراما لها ، واحتراسا من المساس بها .
وقد يقول قائل : وما ذنب المرأة تهدد حياتها وأمنها واستقرارها بسبب كلمة تخرج من فم رجل عابث ؟ ولكننا نواجه واقعا في حياة البشر . فكيف يا ترى يكون العلاج ، إن لم نأخذ بهذا العلاج ؟ تراه يكون بأن نرغم مثل هذا الرجل على معاشرة زوجة لا يحترم علاقته بها ولا يوقرها ؟ فنقول له مثلا : إننا لا نعتمد طلاقك هذا ولا نعترف به ولا نقره ! وهذه هي امرأتك على ذمتك فهيا وأمسكها ! . . كلا إن في هذا من المهانة للزوجة وللعلاقة الزوجية ما لا يرضاه الإسلام ، الذي يحترم المرأة ويحترم علاقة الزوجية ويرفعها إلى درجة العبادة لله . . إنما تكون عقوبته أن نحرمه زوجه التي عبث بحرمة علاقاتها معه ؛ وأن نكلفه مهرا وعقدا جديدين أن تركها تبين منه في الطلقتين الأوليين ؛ وأن نحرمها عليه في الطلقة الثالثة تحريما كاملا - إلا أن تنكح زوجا غيره - وقد خسر صداقها وخسر نفقته عليها ؛ ونكلفه بعد ذلك نفقة عدة في جميع الحالات . . والمهم أن ننظر إلى واقع النفس البشرية ؛ وواقع الحياة العملية ؛ لا أن نهوم في رؤى مجنحة ليست لها أقدام تثبت بها على الأرض ، في عالم الحياة !
فإذا سارت الحياة في طريقها فتزوجت بعد الطلقة الثالثة زوجا آخر . ثم طلقها هذا الزوج الآخر . . فلا جناح عليها وعلى زوجها الأول أن يتراجعا . . ولكن بشرط :
( إن ظنا أن يقيما حدود الله ) . .
فليست المسألة هوى يطاع ، وشهوة تستجاب . وليسا متروكين لأنفسهما وشهواتهما ونزواتهما في تجمع أو افتراق . إنما هي حدود الله تقام . وهي إطار الحياة الذي إن أفلتت منه لم تعد الحياة التي يريدها ويرضى عنها الله .
( وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون ) . .
فمن رحمته بالعباد أنه لم يترك حدوده غامضة ولا مجهولة . إنما هو يبينها في هذا القرآن . يبينها لقوم يعلمون فالذين يعلمون حق العلم هم الذين يعلمونها ويقفون عندها ؛ وإلا فهو الجهل الذميم ، وهي الجاهلية العمياء !
وقوله تعالى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } أي : أنه إذا طلق الرجل امرأته طلقة ثالثة بعد ما أرسل عليها الطلاق مرتين ، فإنها تحرم عليه حتى تنكح زوجا غيره ، أي : حتى يطأها زوج آخر في نكاح صحيح ، فلو وطئها واطئ في غير نكاح ، ولو في ملك اليمين لم تحل للأول ؛ لأنه ليس بزوج ، وهكذا لو تزوجت ، ولكن لم يدخل بها الزوج لم تحل للأول ، واشتهر بين كثير من الفقهاء عن سعيد بن المسيب ، رحمه الله ، أنه يقول : يحصل المقصود من تحليلها للأول بمجرد العقد على الثاني . وفي صحته عنه نظر ، على أن الشيخ أبا عمر بن عبد البر قد حكاه عنه في الاستذكار ، فالله أعلم .
وقد قال أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله : حدثنا ابن بشار ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن علقمة بن مرثد ، عن سالم بن رزين ، عن سالم بن عبد الله عن سعيد بن المسيب ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل يتزوج المرأة فيطلقها قبل أن يدخل بها البتة ، فيتزوجها زوج آخر فيطلقها ، قبل أن يدخل بها : أترجع إلى الأول ؟ قال : " لا حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها " .
هكذا وقع في رواية ابن جرير ، وقد رواه الإمام أحمد فقال :
حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن علقمة بن مرثد ، سمعت سالم بن رزين يحدث عن سالم بن عبد الله ، يعني : ابن عمر ، عن سعيد بن المسيب ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : في الرجل تكون له المرأة فيطلقها ، ثم يتزوجها رجل فيطلقها قبل أن يدخل بها ، فترجع إلى زوجها الأول ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " حتى يذوق العسيلة " .
وهكذا رواه النسائي ، عن عمرو بن علي الفلاس ، وابن ماجة عن محمد بن بشار بندار كلاهما عن محمد بن جعفر غندر ، عن شعبة ، به كذلك . فهذا من رواية سعيد بن المسيب عن ابن عمر مرفوعًا ، على خلاف ما يحكى عنه ، فبعيد أن يخالف ما رواه بغير مستند ، والله أعلم .
وقد روى أحمد أيضا ، والنسائي ، وابن جرير هذا الحديث من طريق سفيان الثوري ، عن علقمة بن مرثد ، عن رزين بن سليمان الأحمري ، عن ابن عمر قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا فيتزوجها آخر ، فيغلق الباب ويرخي الستر ثم يطلقها ، قبل أن يدخل بها : هل تحل للأول ؟ قال : " لا حتى يذوق العسيلة " .
وهذا لفظ أحمد ، وفي رواية لأحمد : سليمان بن رزين .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا محمد بن دينار ، حدثنا يحيى بن يزيد الهنائي ، عن أنس بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن رجل كانت تحته امرأة فطلقها ثلاثا فتزوجت بعده رجلا فطلقها قبل أن يدخل بها : أتحل لزوجها الأول ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا حتى يكون الآخر قد ذاق من عسيلتها وذاقت من عسيلته " .
ورواه ابن جرير ، عن محمد بن إبراهيم الأنماطي ، عن هشام بن عبد الملك ، حدثنا محمد بن دينار ، فذكره .
قلت : ومحمد بن دينار بن صندل أبو بكر الأزدي ثم الطاحي البصري ، ويقال له : ابن أبي الفرات : اختلفوا فيه ، فمنهم من ضعفه ، ومنهم من قواه وقبله وحسن له . وقال أبو داود : أنه تغير قبل موته ، فالله أعلم .
حديث آخر : قال ابن جرير : حدثنا عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني ، حدثنا أبي ، حدثنا شيبان ، حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن أبي الحارث الغفاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرأة يطلقها زوجها ثلاثا فتتزوج زوجا غيره ، فيطلقها قبل أن يدخل بها ، فيريد الأول أن يراجعها ، قال : " لا حتى يذوق الآخر عسيلتها " .
ثم رواه من وجه آخر عن شيبان ، وهو ابن عبد الرحمن ، به . وأبو الحارث غير معروف .
حدثنا ابن مثنى ، حدثنا يحيى ، عن عبيد الله ، حدثنا القاسم ، عن عائشة : أن رجلا طلق امرأته ثلاثا ، فتزوجت زوجا فطلقها قبل أن يمسها ، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتحل للأول ؟ فقال : " لا حتى يذوق من عسيلتها كما ذاق الأول " .
أخرجه البخاري ، ومسلم ، والنسائي ، من طرق ، عن عبيد الله بن عمر العمري ، عن القاسم بن عبد الرحمن بن أبي بكر ، عن عمته عائشة ، به .
حدثنا عبيد الله بن إسماعيل الهباري ، وسفيان بن وكيع ، وأبو هشام الرفاعي قالوا : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ، فتزوجت رجلا غيره ، فدخل بها ثم طلقها قبل أن يواقعها : أتحل لزوجها الأول ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تحل لزوجها الأول حتى يذوق الآخر عسيلتها وتذوق عسيلته " .
وكذا رواه أبو داود عن مسدد ، والنسائي عن أبي كريب ، كلاهما عن أبي معاوية ، وهو محمد بن حازم الضرير ، به .
طريق أخرى : قال مسلم في صحيحه :
حدثنا محمد بن العلاء الهمداني ، حدثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن المرأة يتزوجها الرجل فيطلقها ، فتتزوج رجلا فيطلقها قبل أن يدخل بها : أتحل لزوجها الأول ؟ قال : " لا حتى يذوق عسيلتها " .
قال مسلم : وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا ابن فضيل : وحدثنا أبو كريب ، حدثنا أبو معاوية جميعا ، عن هشام بهذا الإسناد .
وقد رواه البخاري من طريق أبي معاوية محمد بن حازم ، عن هشام به . وتفرد به مسلم من الوجهين الآخرين . وهكذا رواه ابن جرير من طريق عبد الله بن المبارك ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة مرفوعا بنحوه أو مثله . وهذا إسناد جيد . وكذا رواه ابن جرير أيضا ، من طريق علي بن زيد بن جدعان ، عن امرأة أبيه أمينة أم محمد عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله وهذا السياق مختصر من الحديث الذي رواه البخاري : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا يحيى ، عن هشام ، حدثني أبي ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم . وحدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا عبدة ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : أن رفاعة القرظي تزوج امرأة ثم طلقها ، فتزوجت آخر فأتت النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكرت له أنه لا يأتيها ، وأنه ليس معه إلا مثل هدبة الثوب فقال : " لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " .
طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الأعلى ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : دخلت امرأة رفاعة القرظي - وأنا وأبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم - فقالت : إن رفاعة طلقني البتة ، وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني ، وإنما عنده مثل الهدبة ، وأخذت هدبة من جلبابها ، وخالد بن سعيد بن العاص بالباب لم يؤذن له ، فقال : يا أبا بكر ، ألا تنهي هذه عما تجهر به بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم على التبسم ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كأنك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة ، لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " .
وهكذا رواه البخاري من حديث عبد الله بن المبارك ، ومسلم من حديث عبد الرزاق ، والنسائي من حديث يزيد بن زريع ، ثلاثتهم عن معمر به . وفي حديث عبد الرزاق عند مسلم : أن رفاعة طلقها آخر ثلاث تطليقات . وقد رواه الجماعة إلا أبا داود من طريق سفيان بن عيينة ، والبخاري من طريق عقيل ، ومسلم من طريق يونس بن يزيد [ وعنده ثلاث تطليقات ، والنسائي من طريق أيوب بن موسى ، ورواه صالح بن أبي الأخضر ] كلهم عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، به .
وقال مالك عن المسور بن رفاعة القرظي عن الزبير بن عبد الرحمن بن الزبير : أن رفاعة بن سموال طلق امرأته تميمة بنت وهب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا ، فنكحت عبد الرحمن بن الزبير ، فاعترض عنها فلم يستطع أن يمسها ، ففارقها ، فأراد رفاعة أن ينكحها ، وهو زوجها الأول الذي كان طلقها ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنهاه عن تزويجها ، وقال : " لا تحل لك حتى تذوق العسيلة " كذا رواه أصحاب الموطأ عن مالك وفيه انقطاع . وقد رواه إبراهيم بن طَهْمَان ، وعبد الله بن وهب ، عن مالك ، عن رفاعة ، عن الزبير بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، فوصله .
والمقصود من الزوج الثاني أن يكون راغبا في المرأة ، قاصدا لدوام عشرتها ، كما هو المشروع من التزويج ، واشترط الإمام مالك مع ذلك أن يطأها الثاني وطئا مباحًا ، فلو وطئها وهي محرمة أو صائمة أو معتكفة أو حائض أو نفساء أو والزوج صائم أو محرم أو معتكف ، لم تحل للأول بهذا الوطء . وكذا لو كان الزوج الثاني ذميًا لم تحل للمسلم بنكاحه ؛ لأن أنكحة الكفار باطلة عنده . واشترط الحسن البصري فيما حكاه عنه الشيخ أبو عمر بن عبد البر أن ينزل الزوج الثاني ، وكأنه تمسك بما فهمه من قوله عليه السلام : " حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " ، ويلزم على هذا أن تنزل المرأة أيضا . وليس المراد بالعسيلة المني لما رواه الإمام أحمد والنسائي ، عن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ألا إن العسيلة الجماع " فأما إذا كان الثاني إنما قصده أن يحلها للأول ، فهذا هو المحلل الذي وردت الأحاديث بذمه ولعنه ، ومتى صرح بمقصوده في العقد بطل النكاح عند جمهور الأئمة .
الحديث الأول : عن ابن مسعود . قال الإمام أحمد :
حدثنا الفضل بن دُكَيْن ، حدثنا سفيان ، عن أبي قيس ، عن الهذيل ، عن عبد الله قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة ، والمحلل والمحلل له ، وآكل الربا وموكله .
ثم رواه أحمد ، والترمذي ، والنسائي من غير وجه ، عن سفيان ، وهو الثوري ، عن أبي قيس واسمه عبد الرحمن بن ثروان الأودي ، عن هزيل بن شرحبيل الأودي ، عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم به . ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح . قال : والعمل على هذا عند أهل العلم من الصحابة ، منهم : عمر ، وعثمان ، وابن عمر . وهو قول الفقهاء من التابعين ، ويروى ذلك عن علي ، وابن مسعود ، وابن عباس .
طريق أخرى : عن ابن مسعود . قال الإمام أحمد : حدثنا زكريا بن عدي ، حدثنا عبيد الله ، عن عبد الكريم ، عن أبي الواصل ، عن ابن مسعود ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الله المحلل والمحلل له " .
طريق أخرى : روى الإمام أحمد ، والنسائي ، من حديث الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن الحارث الأعور ، عن عبد الله بن مسعود قال : آكل الربا وموكله ، وشاهداه وكاتبه إذا علموا به ، والواصلة ، والمستوصلة ، ولاوي الصدقة ، والمتعدي فيها ، والمرتد على عقبيه إعراضا بعد هجرته ، والمحلل والمحلل له ، ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة .
الحديث الثاني : عن علي رضي الله عنه . قال الإمام أحمد :
حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا سفيان ، عن جابر [ وهو ابن يزيد الجعفي ] عن الشعبي ، عن الحارث ، عن علي قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله ، وشاهديه وكاتبه ، والواشمة والمستوشمة للحُسْن ، ومانع الصدقة ، والمحلل ، والمحلل له ، وكان ينهى عن النوح .
وكذا رواه عن غندر ، عن شعبة ، عن جابر ، وهو ابن يزيد الجعفي ، عن الشعبي عن الحارث ، عن علي ، به .
وكذا رواه من حديث إسماعيل بن أبي خالد ، وحصين بن عبد الرحمن ، ومجالد بن سعيد ، وابن عون ، عن عامر الشعبي ، به .
وقد رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجة من حديث الشعبي ، به . ثم قال أحمد :
حدثنا محمد بن عبد الله ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب الربا ، وآكله ، وكاتبه ، وشاهده ، والمحلل ، والمحلل له .
الحديث الثالث : عن جابر : قال الترمذي :
حدثنا أبو سعيد الأشج ، أخبرنا أشعث بن عبد الرحمن بن زبيد اليامي ، حدثنا مجالد ، عن الشعبي ، عن جابر بن عبد الله وعن الحارث ، عن علي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن المحلل والمحلل له ثم قال : وليس إسناده بالقائم ، ومجالد ضعفه غير واحد من أهل العلم ، منهم أحمد بن حنبل . قال : ورواه ابن نمير ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن جابر بن عبد الله ، عن علي . قال : وهذا وهم من ابن نمير ، والحديث الأول أصح .
الحديث الرابع : عن عقبة بن عامر : قال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة :
حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري ، حدثنا أبي ، سمعت الليث بن سعد يقول : قال أبو مصعب مشرح هو : ابن عاهان ، قال عقبة بن عامر : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أخبركم بالتيس المستعار ؟ " قالوا : بلى يا رسول الله . قال : " هو المحلِّل ، لعن الله المحلل والمحلل له " .
تفرد به ابن ماجة . وكذا رواه إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني ، عن عثمان بن صالح ، عن الليث ، به ، ثم قال : كانوا ينكرون على عثمان في هذا الحديث إنكارًا شديدًا .
قلت : عثمان هذا أحد الثقات ، روى عنه البخاري في صحيحه . ثم قد تابعه غيره ، فرواه جعفر الفريابي عن العباس المعروف بابن فريق عن أبي صالح عبد الله بن صالح ، عن الليث به ، فبرئ من عهدته والله أعلم .
الحديث الخامس : عن ابن عباس . قال ابن ماجة :
حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا أبو عامر ، عن زمعة بن صالح ، عن سلمة بن وهرام ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له .
طريق أخرى : قال الإمام الحافظ خطيب دمشق أبو إسحاق إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني السعدي : حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المحلل قال : " لا إلا نكاح رغبة ، لا نكاح دُلْسَة ولا استهزاء بكتاب الله ، ثم يذوق عسيلتها " .
ويتقوى هذان الإسنادان بما رواه أبو بكر بن أبي شيبة ، عن حميد بن عبد الرحمن ، عن موسى بن أبي الفرات ، عن عمرو بن دينار ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو من هذا فيتقوى كل من هذا المرسل والذي قبله بالآخر ، والله أعلم .
الحديث السادس : عن أبي هريرة . قال الإمام أحمد :
حدثنا أبو عامر ، حدثنا عبد الله ، هو ابن جعفر ، عن عثمان بن محمد ، المقبري ، عن أبي هريرة قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له .
وهكذا رواه أبو بكر بن أبي شيبة ، والجوزجاني ، والبيهقي ، من طريق عبد الله بن جعفر القرشي . وقد وثقه أحمد بن حنبل ، وعلي بن المديني ، ويحيى بن معين وغيرهم . وأخرج له مسلم في صحيحه ، عن عثمان بن محمد الأخنسي - وثقه ابن معين - عن سعيد المقبري ، وهو متفق عليه .
الحديث السابع : عن ابن عمر . قال الحاكم في مستدركه :
حدثنا أبو العباس الأصم ، حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني حدثنا سعيد بن أبي مريم ، حدثنا أبو غسان محمد بن مطرف المدني ، عن عمر بن نافع ، عن أبيه أنه قال : جاء رجل إلى ابن عمر ، فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثا ، فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ، ليحلها لأخيه : هل تحل للأول ؟ فقال : لا إلا نكاح رغبة ، كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه .
وقد رواه الثوري ، عن عبد الله بن نافع ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، به . وهذه الصيغة مشعرة بالرفع . وهكذا روى أبو بكر بن أبي شيبة ، والجوزجاني ، وحرب الكرماني ، وأبو بكر الأثرم ، من حديث الأعمش ، عن المسيب بن رافع ، عن قبيصة بن جابر ، عن عمر أنه قال : لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما .
وروى البيهقي من حديث ابن لهيعة ، عن بكير بن الأشج ، عن سليمان بن يسار : أن عثمان بن عفان رفع إليه رجل تزوج امرأة ليحلها لزوجها ، ففرق بينهما . وكذا روي عن علي ، وابن عباس ،
وغير واحد من الصحابة ، رضي الله عنهم .
وقوله : { فَإِنْ طَلَّقَهَا } أي : الزوج الثاني بعد الدخول بها { فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا } أي : المرأة والزوج الأول { إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ } أي : يتعاشرا بالمعروف [ وقال مجاهد : إن ظنا أن نكاحهما على غير دلسة ] { وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } أي : شرائعه وأحكامه { يُبَيِّنُهَا } أي : يوضحها { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }
وقد اختلف الأئمة ، رحمهم الله ، فيما إذا طلق الرجل امرأته طلقة أو طلقتين ، وتركها حتى انقضت عدتها ، ثم تزوجت بآخر فدخل بها ، ثم طلقها فانقضت عدتها ، ثم تزوجها الأول : هل تعود إليه بما بقي من الثلاث ، كما هو مذهب مالك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وهو قول طائفة من الصحابة ، رضي الله عنهم ؟ أو يكون الزوج الثاني قد هدم ما قبله من الطلاق ، فإذا عادت إلى الأول تعود بمجموع الثلاث ، كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله ؟ وحجتهم أن الزوج الثاني إذا هدم الثلاث فلأن يهدم ما دونها بطريق الأولى والأحرى ، والله أعلم .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل فيما دلّ عليه هذا القول من الله تعالى ذكره؛ فقال بعضهم: دلّ على أنه إن طلق الرجل امرأته التطليقة الثالثة بعد التطليقتين اللتين قال الله تعالى ذكره فيهما: الطّلاقُ مَرّتانِ فإن امرأته تلك لا تحلّ له بعد التطليقة الثالثة حتى تنكح زوجا غيره، يعني به غير المطلق. وقال آخرون: بل دلّ هذا القول على ما يلزم مسرح امرأته بإحسان بعد التطليقتين اللتين قال الله تعالى ذكره فيهما:"الطّلاقُ مَرّتانِ". قالوا: وإنما بين الله تعالى ذكره بهذا القول عن حكم قوله: "أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ "وأعْلَمَ أنه إن سرح الرجل امرأته بعد التطليقتين فلا تحلّ له المسرّحة كذلك إلا بعد زوج... عن مجاهد: "فإنْ طَلّقَها فَلا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حّتى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَهُ "قال: عاد إلى قوله: "فإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أو تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ". والذي قاله مجاهد في ذلك عندنا أولى بالصواب للذي ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخبر الذي رويناه عنه أنه قال: أو سئل فقيل: هذا قول الله تعالى ذكره: الطّلاقُ مرّتانِ فأين الثالثة؟ قال: «فإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ». فأخبر صلى الله عليه وسلم، أن الثالثة إنما هي قوله: "أوْ تَسْرِيحٌ بإحْسانٍ". فإذ كان التسريح بالإحسان هو الثالثة، فمعلوم أن قوله: "فإنْ طَلّقَها فَلا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حّتى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَهُ" من الدلالة على التطليقة الثالثة بمعزل، وأنه إنما هو بيان عن الذي يحلّ للمسرح بالإحسان إن سرّح زوجته بعد التطليقتين، والذي يحرم عليه منها، والحال التي يجوز له نكاحها فيها، وإعلام عباده أن بعد التسريح على ما وصفت لا رجعة للرجل على امرأته.
فإن قال قائل: فأيّ النكاحين عنى الله بقوله: "فَلا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حّتى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَهُ"؛ النكاح الذي هو جماع أم النكاح الذي هو عقد تزويج؟ قيل: كلاهما، وذلك أن المرأة إذا نكحت رجلاً نكاح تزويج لم يطأها في ذلك النكاح ناكحها ولم يجامعها حتى يطلقها لم تحلّ للأول، وكذلك إن وطئها واطئ بغير نكاح لم تحلّ للأول بإجماع الأمة جميعا. فإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن تأويل قوله: "فَلا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حّتى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَهُ" نكاحا صحيحا، ثم يجامعها فيه، ثم يطلقها.
فإن قال: فإن ذكر الجماع غير موجود في كتاب الله تعالى ذكره، فما الدلالة على أن معناه ما قلت؟ قيل: الدلالة على ذلك إجماع الأمة جميعا على أن ذلك معناه. وبعد، فإن الله تعالى ذكره قال: "فإنْ طَلّقَها فَلا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حّتى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَهُ"؛ فلو نكحت زوجا غيره بعقب الطلاق قبل انقضاء عدتها، كان لا شك أنها ناكحة نكاحا بغير المعنى الذي أباح الله تعالى ذكره لها ذلك به، وإن لم يكن ذكر العدة مقرونا بقوله: "فَلا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حّتى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَهُ" لدلالته على أن ذلك كذلك بقوله: "وَالمُطَلّقاتُ يَتَرَبّصْنَ بأنْفُسِهِنّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ" وكذلك قوله: "فَإنْ طَلّقَها فَلا تَحِلّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حّتى تَنْكِحَ زَوْجا غَيْرَهُ" وإن لم يكن مقرونا به ذكر الجماع والمباشرة والإفضاء فقد دلّ على أن ذلك كذلك بوحيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيانه ذلك على لسانه لعباده.
حدثني عبيد الله بن إسماعيل الهباري، وسفيان بن وكيع، وأبو هشام الرفاعي، قالوا: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته فتزوّجت رجلاً غيره فدخل بها ثم طلقها قبل أن يواقعها، أتحلّ لزوجها الأول؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تَحِلّ لِزَوْجِها الأوّلِ حتى يَذُوقَ الاَخَرُ عُسَيْلَتها وتَذُوقَ عُسْيَلَتَهُ»...
"فإنْ طَلّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أنْ يَتَرَاجَعا إنْ ظَنّا أنْ يُقيِما حُدُودَ اللّهِ": فإن طلق المرأة التي بانت من زوجها بآخر التطليقات الثلاث بعد ما نكحها مطلقها الثاني، زوجها الذي نكحها بعد بينونتها من الأوّل "فَلا جُناحَ عَلَيْهِما": فلا حرج على المرأة التي طلقها هذا الثاني من بعد بينونتها من الأوّل، وبعد نكاحه إياها، وعلى الزوج الأول الذي كانت حرمت عليه ببينونتها منه بآخر التطليقات أن يتراجعا بنكاح جديد. "إنْ ظَنّا أنْ يُقيِما حُدُودَ اللّهِ": إن رجوا مطمعا أن يقيما حدود الله. وإقامتهما حدود الله: العمل بها، وحدود الله: ما أمرهما به، وأوجب بكل واحد منهما على صاحبه، وألزم كل واحد منهما بسبب النكاح الذي يكون بينهما. وقد بينا معنى الحدود ومعنى إقامة ذلك بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
وكان مجاهد يقول: إن ظنا أن نكاحهما على غير دُلْسَة.
وقد وجه بعض أهل التأويل قوله "إنْ ظَنّا" إلى أنه بمعنى: إن أيقنا. وذلك ما لا وجه له، لأن أحدا لا يعلم ما هو كائن إلا الله تعالى ذكره. فإذ كان ذلك كذلك، فما المعنى الذي به يوقن الرجل والمرأة أنهما إذا تراجعا أقاما حدود الله؟ ولكن معنى ذلك كما قال تعالى ذكره: "إنْ ظَنّا" بمعنى طمعا بذلك ورجواه. "وَتِلْكَ حُدودُ الله يُبَيّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ": هذه الأمور التي بينها لعباده في الطلاق والرجعة والفدية والعدة والإيلاء وغير ذلك مما يبينه لهم في هذه الآيات، حدود الله معالم فصول حلاله وحرامه وطاعته ومعصيته، "يُبَيّنُها": يفصلها، فيميز بينها، ويعرفهم أحكامها لقوم يعلمونها إذا بينها الله لهم، فيعرفون أنها من عند الله، فيصدقون بها، ويعملون بما أودعهم الله من علمه، دون الذين قد طبع الله على قلوبهم، وقضى عليهم أنهم لا يؤمنون بها، ولا يصدّقون بأنها من عند الله، فهم يجهلون أنها من الله، وأنها تنزيل من حكيم حميد. ولذلك خص القوم الذي يعلمون بالبيان دون الذين يجهلون، إذ كان الذين يجهلون أنها من عنده قد آيس نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم من تصديق كثير منهم بها، وإن كان بينها لهم من وجه الحجة عليهم ولزوم العمل لهم بها، وإنما أخرجها من أن تكون بيانا لهم من وجه تركهم الإقرار والتصديق به.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{فلا جناح عليهما أن يتراجعا} يخرج على الترخيص؛ وذلك، والله أعلم، أن الطلاق يحرمها عليه، ويبينها منه، كما تحرم عليه هي بأنواع الحرم، فأخبر صلى الله عليه وسلم وأباح له النكاح بعد وقوع الحرمة. إن هذه الحرمة ليست كغيرها من الحرم التي لا ترتفع أبدا، والله أعلم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
{لقوم يعلمون} إنما خص العلم بذكر البيان وإن كان بيانا لغيرهم، لأنهم الذين ينتفعون ببيان الآيات، فصار غيرهم بمنزلة من لم يعتد به. ويجوز أيضا أن يكونوا خصوا بالذكر تشريفا لهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الرجلُ يَشُقُّ عليه أن ينكحَ زوجتَه غيرُه، فمنعه عن اختيار الفراق بغاية الفراق بُغْية المنع لما بيَّن أنها لا تحل له إن فارقها إلا بأن تفعل غاية ما يشق عليه وهو الزواج الثاني لِيَحْذَرَ الطلاق ما أمكنه.
{إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}: يعني لا يعودان بعد ذلك إلى الفراق ثانياً إذا علما حاجة أحدهما إلى صاحبه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت فما تقول في النكاح المعقود بشرط التحليل؟ قلت: ذهب سفيان والأوزاعي وأبو عبيد ومالك وغيرهم إلى أنه غير جائز، وهو جائز عند أبي حنيفة مع الكراهة. وعنه أنهما إن أضمرا التحليل ولم يصرحا به فلا كراهة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: « أنه لعن المحلل والمحلل له» وعن عمر رضي الله عنه: لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما وعن عثمان رضي الله عنه: لا نكاح إلا نكاح رغبة غير مدالسة. {فَإِن طَلَّقَهَا} الزوج الثاني. {أَن يَتَرَاجَعَا} أن يرجع كل واحد منهما إلى صاحبه بالزواج {إِن ظَنَّا} إن كان في ظنهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية. ولم يقل: إن علماً أنهما يقيمان، لأنّ اليقين مغيب عنهما لا يعلمه إلا الله عز وجل. ومن فسر الظن ههنا بالعلم فقد وهم من طريق اللفظ والمعنى، لأنك لا تقول: علمت أن يقوم زيد، ولكن: علمت أنه يقوم، ولأنّ الإنسان لا يعلم ما في الغد، وإنما يظن ظناً.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
{لقوم يعلمون}: لأن الجاهل إذا كثر له أمره ونهيه فإنه لا يحفظه ولا يتعاهده. والعالم يحفظ ويتعاهد، فلهذا المعنى خاطب العلماء ولم يخاطب الجهال...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{فإن طلقها} أي الثالثة التي تقدم التخيير فيها بلفظ التسريح فكأنه قال: فإن اختار الطلاق البات بعد المرتين إما في العدة من الطلاق الرجعي أو بعد الرجعة بعوض أو غيره ولا فرق في جعلها ثالثة بين أن تكون بعد تزوج المرأة بزوج آخر أو لا.
قال الحرالي: فردد معنى التسريح الذي بينه في موضعه بلفظ الطلاق لما هيأها بوجه إلى المعاد، وذلك فيما يقال من خصوص هذه الأمة وإن حكم الكتاب الأول أن المطلقة ثلاثاً لا تعود أبداً فلهذا العود بعد زوج صار السراح طلاقاً... {فلا تحل له}
و لما كان إسقاط الحرف والظرف يوهم أن الحرمة تختص بما استغرق زمن البعد فيفهم أن نكاحه لها في بعض ذلك الزمن يحل قال: {من بعد} أي في زمن ولو قل من أزمان ما بعد استيفاء الدور الذي هو الثلاث بما أفاده إثبات الجار، وتمتد الحرمة {حتى} أي إلى أن {تنكح} أي تجامع بذوق العسيلة التي صرح بها النبي صلى الله عليه وسلم... وأشار بقوله: {زوجاً} إلى أن شرط هذا الجماع أن يكون حلالاً في عقد صحيح {غيره} أي المطلق، وفي جعل هذا غاية للحل زجر لمن له غرض ما في امرأته عن طلاقها ثلاثاً لأن كل ذي مروة يكره أن يفترش امرأته آخر ومجرد العقد لا يفيد هذه الحكمة وذلك بعد أن أثبت له سبحانه وتعالى من كمال رأفته بعباده الرجعة في الطلاق الرجعي مرتين لأن الإنسان في حال الوصال لا يدري ما يكون حاله بعده ولا تفيده الأولى كمال التجربة فقد يحصل له نوع شك بعدها وفي الثانية يضعف ذلك جداً ويقرب الحال من التحقق فلا يحمل على الفراق بعدها إلا قلة التأمل ومحض الخرق بالعجلة المنهي عنها
فإن طلقها} أي الثاني وتعبيره بإن التي للشك للتنبيه على أنه متى شرط الطلاق على المحلل بطل العقد بخروجه عن دائرة الحدود المذكورة. لأن النكاح كما قال الحرالي عقد حرمة مؤبدة لا حد متعة مؤقتة فلذلك لم يكن الاستمتاع إلى أمد محللاً في السنة وعند الأئمة لما يفرق بين النكاح والمتعة من التأبيد والتحديد...
{فلا جناح عليهما} أي على المرأة ومطلقها الأول {أن يتراجعا} بعقد جديد بعد عدة طلاق الثاني المعلومة مما تقدم من قوله: {والمطلقات يتربصن} وهذه مطلقة إلى ما كانا فيه من النكاح {إن ظنا} أي وقع في ظن كل منهما {أن يقيما حدود الله} أي الذي له الكمال كله التي حدها لهما في العشرة.
قال الحرالي: لما جعل الطلاق سراحاً جعل تجديد النكاح مراجعة كل ذلك إيذاناً بأن الرجعة للزوج أولى من تجديد الغير...
ولما كان الدين مع سهولته ويسره شديداً لن يشاده أحد إلا غلبه وكانت الأحكام مع وضوحها قد تخفى لما في تنزيل الكليات على الجزئيات من الدقة لأن الجزئي الواحد قد يتجاذبه كليان فأكثر فلا تجردها من مواقع الشبه إلا من نور الله بصيرته عطف على تلك الماضية تعظيماً للحدود قوله: {وتلك} أي الأحكام المتناهية في مدارج العظم ومراتب الحكم {حدود الله} أي العظيمة بإضافتها إليه سبحانه وتعالى وبتعليقها بالاسم الأعظم {يبينها} أي يكشف اللبس عنها بتنوير القلب {لقوم} فيهم نهضة وجد في الاجتهاد وقيام وكفاية {يعلمون} أي يجددون النظر والتأمل بغاية الاجتهاد في كل وقت فبذلك يعطيهم الله ملكة يميزون بها ما يلبس على غيرهم {إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً} [الأنفال: 29] {واتقوا الله ويعلمكم الله} [البقرة: 282].
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون} الإشارة بتلك إلى الأحكام في الآية أو الآيتين بينهما في كتابه لأهل العلم بفائدتها وما فيها من المصلحة، ومن علم المصلحة في شيء كان مندفعا بطبعه إلى العمل به وإقامته على الوجه الذي تتحقق به الفائدة منه، يبينها لهؤلاء الذين يعلمون الحقائق لأنهم هم الذين يقيمونها لا من جهل ذلك فيأخذ بظاهر قول المفتي أو القاضي ولا يجعل لحسن النية وإخلاص القلب مدخلا في عمله، فيرجع إلى المرأة ويضمر لها السوء ويبغيها الانتقام...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
إن الطلقة الثالثة -كما تبين- دليل على فساد أصيل في هذه الحياة لا سبيل إلى إصلاحه من قريب -إن كان الزوج جادا عامدا في الطلاق- وفي هذه الحالة يحسن أن ينصرف كلاهما إلى التماس شريك جديد. فأما إن كانت تلك الطلقات عبثا أو تسرعا أو رعونة، فالأمر إذن يستوجب وضع حد للعبث بهذا الحق، الذي قرر ليكون صمام آمن، وليكون علاجا اضطراريا لعلة مستعصية، لا ليكون موضعا للعبث والتسرع والسفاهة. ويجب حينئذ أن تنتهي هذه الحياة التي لا تجد من الزوج احتراما لها، واحتراسا من المساس بها...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تفريع مرتب على قوله: {الطلاق مرتان} [البقرة: 229] وما بينهما بمنزلة الاعتراض، على أن تقديمه يكسبه تأثيراً في تفريع هذا على جميع ما تقدم؛ لأنه قد علم من مجموع ذلك أن بعد المرتين تخييراً بني المراجعة وعدمها، فرتب على تقدير المراجعة المعبر عنها بالإمساك {فإن طلقها} وهو يدل بطريق الاقتضاء على مقدر أي فإن راجعها فطلقها لبيان حكم الطلقة الثالثة. وقد تهيأ السامع لتلقي هذا الحكم من قوله: {الطلاق مرتان} [البقرة: 229] إذ علم أن ذلك بيان لآخر عدد في الرجعي وأن ما بعده بتات، فذكر قوله: {فإن طلقها} زيادة في البيان، وتمهيد لقوله: {فلا تحل له من بعد} إلخ. فالفاء إما عاطفة لجملة {فإن طلقها} على جملة {فإمساك} [البقرة: 229] باعتبار ما فيها من قوله {فإمساك}، إن كان المراد من الإمساك المراجعة ومن التسريح عدمها، أي فإن أمسك المطلق أي راجع ثم طلقها، فلا تحل له من بعد، وهذا هو الظاهر، وإما فصيحة لبيان قوله: {أو تسريح بإحسان} [البقرة: 229]، إن كان المراد من التسريح إحداث الطلاق، أي فإن ازداد بعد المراجعة فسرح فلا تحل له من بعد، وإعادة هذا على هذا الوجه ليرتب عليه تحريم المراجعة إلا بعد زوج، تصريحاً بما فهم من قوله: {الطلاق مرتان} ويكون التعبير بالطلاق هنا دون التسريح للبيان وللتفنن على الوجهين المتقدمين، ولا يعوزك توزيعه عليهما، والضمير المستتر راجع للمطلق المستفاد من قوله: {الطلاق مرتان} والضمير المنصوب راجع للمطلقة المستفادة من الطلاق أيضاً، كما تقدم في قوله: {إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله} [البقرة: 229].
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
في الآيات السابقة بين الله سبحانه وتعالى طريقة إيقاع الطلاق، وأنه يكون على دفعات لا دفعة واحدة، حتى لا يضيق الرجل على نفسه، ولا يغلق بابا قد فتحه الله سبحانه وتعالى له، ولعل الله سبحانه وتعالى يحدث من بعد ذلك أمرا {و من يتق الله يجعل له مخرجا 2} (الطلاق).
و بين سبحانه الطلاق الذي يكون للرجل فيه أن يستأنف حياة زوجية، ثم بين سبحانه وتعالى الحكم إذا كان الطلاق بافتداء المرأة نفسها من الرجل على براءة من صداقها أو بمال تدفعه، أو بإسقاط حقوق مالية نشأت عن الزواج، أو نشأت حال قيام الحياة الزوجية...
و إن ذلك التذييل الكريم [يعني قوله تعالى {و تلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون}] يستفاد منه ثلاثة أمور:
أولها: بيان أن الأحكام الخاصة بالطلاق هي حدود حدها الشرع، من يتجاوزها فقد تجاوز ماله إلى ما ليس له، وترك الحلال إلى الحرام، وترك الحق إلى الباطل، وفي ذلك حث على الطاعة، وتحريض على التزام ما أمر الله سبحانه وتعالى.
ثانيها: الإشارة إلى أن هذه الأحكام هي المصلحة الحق، وأن الناس إن تجاوزوها فقد تركوا الخير إلى الشر والنفع إلى الضرر.
الأمر الثالث: حث الناس على تعرف حكم الشارع وغاياته، فإن مقاصد الشارع لا يعرفها على وجهها إلا الذين من شأنهم أن يعلموا، ويصلوا إلى لب الحقائق، ومرامي الحكام الشرعية القاصية والدانية، والله بكل شيء محيط...