السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَيۡرَهُۥۗ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِۗ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ} (230)

{ فإن طلقها } أي : الزوج الثنتين { فلا تحل له من بعد } أي : بعد الطلقة الثالثة { حتى تنكح } أي : تتزوّج { زوجاً غيره } أي : المطلق والنكاح يتناول العقد والوطء ، وتعلق بظاهر الآية من اقتصر على العقد كابن المسيب ، والجمهور على أنه لا بدّ من الإصابة ، لما روى الشيخان ( أن امرأة رفاعة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنّ رفاعة طلقني وإنّ عبد الرحمن بن الزَّبِير أي : بفتح الزاي وكسر الباء تزوّجني ، وإنما معه مثل هدبة الثوب فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ) ، فالآية مطلقة قيدتها السنة ، ويحتمل أن يفسر النكاح بالإصابة ، ويكون العقد مستفاداً من لفظ الزوج ، والعسيلة مجاز عن قليل الجماع ، إذ يكفي قليل انتشار ، شبهت تلك اللذة بالعسل وصغرت ولحقتها الهاء ؛ لأن الغالب على العسل التأنيث قاله الجوهري .

وروي أنها لبثت ما شاء الله ثم رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت : إنّ زوجي قد مسني فقال لها النبيّ صلى الله عليه وسلم : ( كذبت في قولك الأوّل فلن أصدقك في الآخر ) فلبثت حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتت أبا بكر فقالت : يا خليفة رسول الله أرجع إلى زوجي الأوّل فإنّ زوجي الآخر مسني وطلقني فقال لها أبو بكر : قد شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتيته ، وقال لك ما قال ، فلا ترجعي إليه ، فلما قبض أبو بكر أتت عمر ، وقالت له مثل ذلك فقال لها عمر : لئن رجعت إليه لأرجمنك ) .

والحكمة في التحلل الردع عن المسارعة إلى الطلاق ، والعود إلى المطلقة ثلاثاً والرغبة فيها ، والنكاح بشرط التحليل فاسد عند الأكثر ، وجوّزه أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه مع الكراهة ، وقد ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له ) رواه الترمذيّ والنسائيّ وصححه . وعن عمر رضي الله تعالى عنه : لا أوتي بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما .

تنبيه : شملت الآية الكريمة : ما إذا طلق الزوج زوجته الأمة ثلاثاً ثم ملكها ، فإنه لا يحلّ له أن يطأها بملك اليمين ، حتى تنكح زوجاً غيره { فإن طلقها } الزوج الثاني بعدما أصابها { فلا جناح عليهما } أي : المرأة والزوج الأوّل { أن يتراجعا } إلى النكاح بعقد جديد بعد انقضاء العدّة { إن ظنا } أي : إن كان في ظنهما { أن يقيما حدود الله } أي : ما حدّه الله وشرعه من حقوق الزوجية ، هذا هو الأصل ، وإلا فهو ليس بشرط للجواز ولم يقل إن علما أنهما يقيمان ؛ لأنّ اليقين مغيب عنهما لا يعلمه إلا الله .

قال في «الكشاف » ومن فسر الظنّ هنا بالعلم فقد وهم من طريق اللفظ والمعنى ؛ لأنك لا تقول : علمت أن يقوم زيد ، ولكن علمت أنه يقوم ؛ ولأنّ الإنسان لا يعلم ما في الغد وإنما يظنّ ظناً { وتلك } أي : الأحكام المذكورة { حدود الله بينها لقوم يعلمون } أي : يتدبرون ما أمرهم الله تعالى به ويفهمونه ، ويعلمونه بمقتضى العلم .