تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُۥ مِنۢ بَعۡدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوۡجًا غَيۡرَهُۥۗ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيۡهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ ٱللَّهِۗ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوۡمٖ يَعۡلَمُونَ} (230)

من أحكام الطلاق

221

{ فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إ ظنا أن يقيما حدود الله يبينها لقوم يعلمون( 230 ) }

تمهيد :

بين الله سبحانه في الآيات السابقة طريق إيقاع الطلاق وأنه يكون على دفعات لا دفعة واحدة .

ثم اتبع ذلك بيان حكم الفراق إذا كان بافتداء المرأة نفسها من الرجل .

التفسير :

وفي هذه الآية الكريمة يبين الله سبحانه حكم الطلاق المكمل الثلاث فقال تعالى :

{ فإن طلقها فلا تحل له من حتى تنكح زوجا غيره . . . }

أي فإن طلق الرجل زوجته طلقة ثالثة بعد الطلقتين اللتين أباح الله له مراجعتها بعد كل منهما ، فإنه في هذه الحالة تكون زوجته محرمة عليه ، ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره نكاحا شرعيا صحيحا بأن يدخل بها ويباشرها مباشرة شرعية كما يباشر الأزواج زوجاتهم .

{ فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله } .

فإن طلقها الزوج الثاني ، وانقضت عدتها منه فلا إثم على المرأة وزجها الأول أن يتراجعا بعقد جديد إن ظنا أن يقيما حدود الله ويتعاشرا بالمعروف ويحرص كل منهما على القيام بواجب الزوجية .

قال سعيد ابن المسيب وسعيد بن جبير : النكاح في الآية : العقد الصحيح فهو كاف في التحليل للأول وإن لم يجامعهما ، ما لم يرد بالعقد مجرد إحلالها للأول . وإطلاق النكاح على العقد معروف لغة وشرعا . ولكن هذا الرأي ضعيف لمخالفته لما جاءت به السنة الصحيحة ، وللحكمة المقصودة من هذا الزواج ، وهي تخويف الناس من البت في الطلاق حتى لا تصير نساؤهم إلى هذا المصير ، ولتأديب من بت طلاق امرأته .

" روى الإمام أحمد عن عائشة قالت : دخلت امرأة رفاعة القرضي ، وأنا وأبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إن رفاعة طلقني ألبتة ، وأن عبد الرحمان بن الزبير تزوجني ، وإنما عنده مثل الهدبة ، وأخذت هدبة من جلبابها ، وخالد بن سعيد بن العاص بالباب لم يؤذن له فقال : يا أبا بكر ، ألا تنهى هذه عما تجهر به بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم على التبسم ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كأنك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " رواه البخاري ، وفي حديث عبد الرزاق عند مسلم : " إن رفاعة طلقها آخر ثلاث طلقات " وقد رواه الجماعة إلا أبا داود( 262 ) .

وإذا تزوجها الزوج الثاني بقصد إحلالها للزوج لأول فقد قال أبو حنيفة وأصحابه : النكاح جائز للأول إن دخل بها الثاني وطلقها وله أن يمسكها إن شاء .

وفي رواية أخرى عنهم لا تحل للأول إن تزوجها ليحلها له . ولم يختلفوا في أن نكاح الزوج الثاني صحيح .

وحكى الماوردي عن الشافعي : أنه إن شرطا التحليل قبل العقد ، صح النكاح وأحلها للأول وإن شرطاه في العقد بطل النكاح ولم يحلها للأول .

وقد جاء في تفسير القرطبي ما يأتي : " قال ابن العربي : ما مرت في الفقه مسألة أعسر منها ، وذلك أن من أصول الفقه أن الحكم يتعلق بأوائل الأسماء أو بأواخرها ؟ فإن قلنا : إن الحكم يتعلق بأوائل الأسماء لزمنا مذهب سعيد . وإن قلنا الحكم يتعلق بأواخر الأسماء لزمنا أن نشترط الإنزال مع مغيب الحشفة في الإحلال لأنه آخر ذوق العسيلة على مقالة الحسن . قال ابن المنذر : ومعنى ذوق العسيلة هو الوطء وعلى هذا جماعة العلماء إلا سعيد ابن المسيب قال : أما الناس فيقولون : لا تحل للأول حتى يجامعها الثاني ، وأنا أقول : إذا تزوجها تزوجا صحيحا لا يريد بذلك إحلالها ، فلا بأس أن يتزوجها الأول . وهذا قول لا نعلم أحدا وافقه عليه إلا طائفة من الخوارج ، والستة مستغنى بها عما سواها( 253 ) .

اللعنة على المحلل :

من الناس من يتخذ آيات الله هزوا فإذا حرمت المرأة على زوجها بعد الطلاق ثلاثا تحايل على إحلالها للزوج الأول بزواج صوري . وقد ورد الأحاديث الصحيحة تنهي على هذا العمل . قال ابن كثير في تفسيره :

( فصل ) والمقصود من الزوج الثاني أن يكون راغبا في المرأة قاصدا لدوام عشرتها ، كما هو المشروع من التزويج ، واشترط الإمام مالك مع ذلك أن يطأها الثاني وطئا مباحا ، فلو وطئها وهي محرمة أو صائمة أو معتكفة أو حائضا أو نفساء ، أو والزوج صائم أو محرم أو معتكف لم تحل للأول بهذا الوطء .

واشترط الحسن البصري فيما حكاه عن الشيخ أبو عمر بن عبد البر أن ينزل الزوج الثاني ، وكأنه تمسك بما فهمه من قوله عليه الصلاة والسلام " حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " .

فأما إذا كان الثاني إنما قصده أن يحلها للأول فهذا هو المحلل الذي وردت الأحاديث بذمه ولعنه ، ومتى صرح بمقصوده في العقد بطل النكاح عند جمهور الأئمة فروى الإمام أحمد عن عبد الله قال :

" لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة ، والواصلة والمستوصلة ، والمحلل والحلل له وآكل الربا وموكله " . رواه الترمذي والنسائي . ( '264 ) .

ثم قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ، قال : والعمل على هذا هند أهل العلم من الصحابة منهم : عمر وعثمان وبن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا أخبركم بالتيس المستعار ؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : هو المحلل ، لعن الله المحلل والمحلل له " ( 265 ) .

وروى الإمام أحمد عن أبى هريرة قال : " لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له " ( 266 ) .

وروى الحاكم عن نافع قال : " جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثا فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ليحلها لأخيه هل تحل للأول ؟ فقال : لا ، إلا نكاح رغبة كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه( 267 ) وهذه الصيغة مشعرة بالرفع .

وروي عن عمر أنه قال : لا أوتي بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما .

وروى البيهقي عن سليمان بن يسار : أن عثمان بن عفاف رفع إليه رجل تزوج امرأته ليحلها لزوجها ، ففرق بينهما وكذا روى عن علي وابن عباس وغير واحد من الصحابة " ( 268 ) .

{ تلك حدود الله يبينها لقوم لا يعلمون }

أي وتلك الأحكام المذكورة التي تتصل بالنكاح والطلاق والرجعة والخلع ، وغير ذلك هي حدود الله وأحكامه بينها بيانا واضحا مفصلا ، لقوم يعلمون حقها وأهميتها ، فيحافظون عليها ويتعهدون بتنفيذها ، وذلك لا يدركه إلا عالم متدبر أما الجاهل فلا ينظر إلى العواقب ولا يحافظ على حدود الله .

وتكررت جملة : { تلك حدود الله } في أحكام الطلاق لإبراز أهميتها ، وإظهار الذنب الكبير في مخالفتها .

* * *