{ بسم الله الرحمن الرحيم } { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } وكانت قصة أصحاب الفيل -على ما ذكره محمد بن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن سعيد بن جبير وعكرمة ، عن ابن عباس ، وذكره الواقدي- : أن النجاشي ملك الحبشة كان قد بعث أرياطا إلى أرض اليمن فغلب عليها ، فقام رجل من الحبشة ، يقال له : أبرهة بن الصباح أبو مكتوم ، فساخط أرياط في أمر الحبشة ، حتى انصدعوا صدعين ، وكانت طائفة مع أرياط ، وطائفة مع أبرهة ، فتزاحفا فقتل أبرهة أرياط ، واجتمعت الحبشة لأبرهة ، وغلب على اليمن وأقره النجاشي على عمله . ثم إن أبرهة رأى الناس يتجهزون أيام الموسم إلى مكة لحج بيت الله ، فبنى كنيسة بصنعاء وكتب إلى النجاشي : إني قد بنيت لك بصنعاء كنيسة لم يبن لملك مثلها ، ولست منتهياً حتى أصرف إليها حج العرب ، فسمع به رجل من بني مالك بن كنانة فخرج إليها مستخفياً فدخلها ليلاً فقعد فيها وتغوط بها ، ولطخ بالعذرة قبلتها ، فبلغ ذلك أبرهة فقال : من اجترأ علي ولطخ كنيستي بالعذرة ؟ فقيل له : صنع ذلك رجل من العرب من أهل ذلك البيت سمع بالذي قلت ، فحلف أبرهة عند ذلك : ليسيرن إلى الكعبة حتى يهدمها ، فكتب إلى النجاشي يخبره بذلك وسأله أن يبعث إليه بفيله ، وكان له فيل يقال له محمود ، وكان فيلاً لم ير مثله عظماً وجسماً وقوة ، فبعث به إليه ، فخرج أبرهة من الحبشة سائراً إلى مكة ، وخرج معه بالفيل ، فسمعت العرب بذلك فاستعظموه ورأوا جهاده حقاً عليهم ، فخرج ملك من ملوك اليمن ، يقال له : ذو نفر ، بمن أطاعه من قومه ، فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ ذا نفر ، فقال : أيها الملك لا تقتلني فإن استبقائي خير لك من قتلي ، فاستحياه وأوثقه . وكان أبرهة رجلاً حليماً . ثم سار حتى إذا دنا من بلاد خثعم ، خرج نفيل بن حبيب الخثعمي في خثعم ومن اجتمع إليه من قبائل اليمن ، فقاتلوه فهزمهم وأخذ نفيل ، فقال نفيل : أيها الملك إني دليل بأرض العرب ، وهاتان يداي على قومي بالسمع والطاعة ، فاستبقاه ، وخرج معه يدله حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن مغيث في رجال من ثقيف فقال : أيها الملك نحن عبيدك ، ليس لك عندنا خلاف ، وقد علمنا أنك تريد البيت الذي بمكة ، نحن نبعث معك من يدلك عليه ، فبعثوا معه أبا رغال ، مولىً لهم ، فخرج حتى إذا كان بالمغمس مات أبو رغال وهو الذي يرجم قبره ، وبعث أبرهة من المغمس رجلاً من الحبشة ، يقال له : الأسود بن مسعود ، على مقدمة خيله ، وأمره بالغارة على نعم الناس ، فجمع الأسود إليه أموال الحرم ، وأصاب لعبد المطلب مائتي بعير . ثم إن أبرهة بعث حباطة الحميري إلى أهل مكة ، وقال : سل عن شريفها ثم أبلغه ما أرسلك به إليه ، أخبره أني لم آت لقتال ، إنما جئت لأهدم هذا البيت . فانطلق حتى دخل على مكة فلقي عبد المطلب بن هاشم ، فقال : إن الملك أرسلني إليك لأخبرك أنه لم يأت لقتال إلا أن تقاتلوه ، إنما جاء لهدم هذا البيت ثم الانصراف عنكم . فقال عبد المطلب : ما له عندنا قتال ، ولا له عندنا إلا أن نخلي بينه وبين ما جاء له ، فإن هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام ، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه ، وإن يخل بينه وبين ذلك فوالله ما لنا قوة إلا به . قال : فانطلق معي إلى الملك ، فزعم بعض العلماء أنه أردفه على بغلة كان عليها وركب معه بعض بنيه حتى قدم المعسكر ، وكان ذو نفر صديقاً لعبد المطلب فأتاه فقال : يا ذا نفير ، هل عندك من غناء فيما نزل بنا ؟ فقال : ما غناء رجل أسير لا يأمن أن يقتل بكرة أو عشيةً ، ولكن سأبعث إلى أنيس ، سائس الفيل ، فإنه لي صديق فأسأله أن يصنع لك عند الملك ما استطاع من خير ويعظم خطرك ومنزلتك عنده ، قال : فأرسل إلى أنيس فأتاه فقال له : إن هذا سيد قريش صاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال ، وقد أصاب له الملك مائتي بعير ، فإن استطعت أن تنفعه عنده فانفعه فإنه صديق لي ، أحب ما وصل إليه من الخير ، فدخل أنيس على أبرهة فقال : أيها الملك هذا سيد قريش وصاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال ، يستأذن إليك ، وأحب أن تأذن له فيكلمك ، وقد جاء غير ناصب لك ولا مخالف عليك ، فأذن له ، وكان عبد المطلب رجلاً جسيماً وسيماً ، فلما رآه أبرهة أعظمه وأكرمه ، وكره أن يجلس معه على السرير وأن يجلس تحته ، فهبط إلى البساط فجلس عليه ثم دعاه فأجلسه معه ، ثم قال لترجمانه قل له : ما حاجتك إلى الملك ؟ فقال له الترجمان ذلك ، فقال عبد المطلب : حاجتي إلى الملك أن يرد علي مائتي بعير أصابها لي ، فقال أبرهة لترجمانه قل له : لقد كنت أعجبتني حين رأيتك ، وقد زهدت فيك ، قال عبد المطلب : لم ؟ قال : جئت إلى بيت هو دينك ودين آبائك وهو شرفكم وعصمتكم لأهدمه لم تكلمني فيه وتكلمني في مائتي بعير أصبتها ؟ قال عبد المطلب : أنا رب هذه الإبل ، وإن لهذا البيت رباً سيمنع عنه من يقصده بسوء ، قال : ما كان ليمنعه مني ، قال : فأنت وذاك ، فأمر بإبله فردت عليه . فلما ردت الإبل إلى عبد المطلب خرج فأخبر قريشاً الخبر الذي وقع بينه وبين أبرهة ، وأمرهم أن يتفرقوا في الشعاب ويتحرزوا في رؤوس الجبال ، تخوفاً عليهم من معرة الجيش ، ففعلوا ، وأتى عبد المطلب الكعبة ، وأخذ بحلقة الباب وجعل يقول :
يا رب لا أرجو لهم سواكا*** يا رب فامنع منهم حماكا
إن عدو البيت من عاداكا*** امنعهم أن يخربوا قراكا
لاهم إن العبد يم*** نع رحله فامنع حلالك
وانصر على آل الصل***يب وعابديه اليوم آلك
لا يغلبن صليبهم*** ومحالهم غدواً محالك
جروا جموع بلادهم*** والفيل كي يسبوا عيالك
عمدوا حماك بكيدهم*** جهلاً وما رقبوا جلالك
إن كنت تاركهم وكع*** بتنا فأمر ما بدا لك
ثم ترك عبد المطلب الحلقة ، وتوجه في بعض تلك الوجوه مع قومه ، وأصبح أبرهة بالمغمس قد تهيأ للدخول وهيأ جيشه وهيأ فيله ، وكان فيلاً لم ير مثله في العظم والقوة ، ويقال : كان معه اثنا عشر فيلاً . فأقبل نفيل إلى الأعظم ثم أخذ بأذنه فقال : ابرك محمود وارجع راشداً من حيث جئت ، فإنك في بلد الله الحرام ، فبرك الفيل ، فبعثوه فأبى ، فضربوه بالمعول في رأسه فأبى ، فأدخلوا محاجنهم تحت مراقه ومرافقه فنزعوه ليقوم فأبى ، فوجهوه راجعاً إلى اليمن فقام يهرول ، ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك ، فصرفوه إلى الحرام فبرك وأبى أن يقوم . وخرج نفيل يشتد حتى صعد في أعلى الجبل ، وأرسل الله عليهم طيراً من البحر أمثال الخطاطيف ، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار : حجران في رجليه ، وحجر في منقاره ، أمثال الحمص والعدس ، فلما غشيت القوم أرسلتها عليهم فلم تصب تلك الحجارة أحداً إلا هلك ، وليس كل القوم أصابت ، وخرجوا هاربين لا يهتدون إلى الطريق الذي جاؤوا منه ، يتساءلون عن نفيل بن حبيب ليدلهم على الطريق إلى اليمن ، ونفيل ينظر إليهم من بعض تلك الجبال ، فصرخ القوم وماج بعضهم في بعض يتساقطون بكل طريق ويهلكون على كل مهلك . وبعث الله على أبرهة داءً في جسده فجعل يتساقط أنامله كلما سقطت أنملة اتبعتها مدة من قيح ودم ، فانتهى إلى صنعاء وهو مثل فرخ الطائر فيمن بقي من أصحابه ، وما مات حتى انصدع صدره من قلبه ثم هلك . قال الواقدي : وأما محمود ، فيل النجاشي ، فربض ولم يسر إلى الحرم فنجا ، والفيل الآخر شجعوا فحصب . وزعم مقاتل بن سليمان أن السبب الذي جرأ أصحاب الفيل : أن فتية من قريش خرجوا تجاراً إلى أرض النجاشي فدنوا من ساحل البحر ، وثم بيعة للنصارى تسميها قريش الهيكل ، فنزلوا فأججوا ناراً فاصطلوا ، فلما ارتحلوا تركوا النار كما هي في يوم عاصف ، فهاجت الريح فاضطرم الهيكل ناراً ، فانطلق الصريخ إلى النجاشي ، فأسف واغتاظ غيظاً شديدا ، فبعث أبرهة لهدم الكعبة . وقال فيه : إنه كان في مكة يومئذ أبو مسعود الثقفي ، وكان مكفوف البصر يصيف بالطائف ويشتوا بمكة ، وكان رجلاً نبيلاً تستقيم الأمور برأيه ، وكان خليلاً لعبد المطلب ، فقال له عبد المطلب : ماذا عندك ؟ هذا يوم لا يستغنى فيه عن رأيك . فقال أبو مسعود : اصعد بنا إلى حراء فصعد الجبل ، فقال أبو مسعود لعبد المطلب : اعمد إلى مائة من الإبل فاجعلها لله ، وقلدها نعلاً ، ثم أرسلها في الحرم لعل بعض هذه السودان يعقر منها شيئاً ، فيغضب رب هذا البيت فيأخذهم ، ففعل ذلك عبد المطلب ، فعمد القوم إلى تلك الإبل فحملوا عليها وعقروا بعضها ، وجعل عبد المطلب يدعو ، فقال أبو مسعود : إن لهذا البيت رباً يمنعه ، فقد نزل تبع ملك اليمن صحن هذا البيت وأراد هدمه فمنعه الله وابتلاه ، وأظلم عليه ثلاثة أيام ، فلما رأى تبع ذلك كساه القباطي البيض ، وعظمه ونحر له جزوراً . ثم قال أبو مسعود : فانظر نحو البحر ، فنظر عبد المطلب : فقال : أرى طيراً بيضاء نشأت من شاطئ البحر ، فقال : ارمقها ببصرك أين قرارها ؟ قال أراها قد دارت على رؤوسنا ، قال : فهل تعرفها ؟ قال : فوالله ما أعرفها ما هي بنجدية ، ولا تهامية ، ولا عربية ولا شامية ، قال : ما قدرها ؟ قال : أشباه اليعاسيب ، في منقارها حصىً كأنها حصى الحذف ، قد أقبلت كالليل يكسع بعضها بعضاً ، أمام كل فرقة طير يقودها أحمر المنقار أسود الرأس طويل العنق ، فجاءت حتى إذا حازت بعسكر القوم وكدت فوق رؤوسهم ، فلما توافت الرجال كلها أهالت الطير ما في مناقرها على من تحتها ، مكتوب في كل حجر اسم صاحبه ، ثم إنها انصاعت راجعة من حيث جاءت ، فلما أصبحا انحطا من ذروة الجبل فمشيا ربوة فلم يؤنسا أحدا ، ثم دنوا ربوة فلم يسمعا حساً فقالا : بات القوم ساهرين ، فأصبحوا نياما ، فلما دنوا من عسكر القوم فإذا هم خامدون ، وكان يقع الحجر على بيضة أحدهم فيخرقها حتى يقع في دماغه ويخرق الدابة والفيل ، ويغيب الحجر في الأرض من شدة وقعه ، فعمد عبد المطلب فأخذ فأساً من فؤوسهم فحفر حتى أعمق في الأرض فملأها من أموالهم من الذهب الأحمر والجوهر ، وحفر لصاحبه حفرة فملأها كذلك ، ثم قال لأبي مسعود : هات فاختر إن شئت حفرتي وإن شئت حفرتك ، وإن شئت فهما لك معاً ، قال أبو مسعود : اختر لي على نفسك ، فقال عبد المطلب : إني لم أر أن أجعل أجود المتاع في حفرتي فهو لك ، وجلس كل واحد منهما على حفرته ، ونادى عبد المطلب في الناس ، فتراجعوا وأصابوا من فضلهما حتى ضاقوا به ذرعاً ، وساد عبد المطلب بذلك قريشاً وأعطته القيادة ، فلم يزل عبد المطلب وأبو مسعود في أهليهما في غنىً من ذلك المال ، ودفع الله عن كعبته وبيته . واختلفوا في تاريخ عام الفيل ، فقال مقاتل : كان قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة . وقال الكلبي : بثلاث وعشرين سنة . والأكثرون على أنه كان في العام الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قوله عز وجل : { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } قال مقاتل : كان معهم فيل واحد . وقال الضحاك : كانت الفيلة ثمانية . وقيل : اثنا عشر ، سوى الفيل الأعظم ، وإنما وحد ؛ لأنه نسبهم إلى الفيل الأعظم . وقيل : لوفاق رؤوس الآي .
تشير هذه السورة إلى حادث مستفيض الشهرة في حياة الجزيرة العربية قبل البعثة ، عظيم الدلالة على رعاية الله لهذه البقعة المقدسة التي اختارها الله لتكون ملتقى النور الأخير ، ومحضن العقيدة الجديدة ، والنقطة التي تبدأ منها زحفها المقدس لمطاردة الجاهلية في أرجاء الأرض ، وإقرار الهدى والحق والخير فيها . .
وجملة ما تشير إليها الروايات المتعددة عن هذا الحادث ، أن الحاكم الحبشي لليمن - في الفترة التي خضعت فيها اليمن لحكم الحبشة بعد طرد الحكم الفارسي منها - وتسميه الروايات : " أبرهة " ، كان قد بنى كنيسة في اليمن باسم ملك الحبشة وجمع لها كل أسباب الفخامة ، على نية أن يصرف بها العرب عن البيت الحرام في مكة ، وقد رأى مبلغ انجذاب أهل اليمن الذين يحكمهم إلى هذا البيت ، شأنهم شأن بقية العرب في وسط الجزيرة وشماليها كذلك . وكتب إلى ملك الحبشة بهذه النية . .
ولكن العرب لم ينصرفوا عن بيتهم المقدس ، فقد كانوا يعتقدون أنهم أبناء إبراهيم وإسماعيل صاحبي هذا البيت ، وكان هذا موضع اعتزازهم على طريقتهم بالفخر والأنساب . وكانت معتقداتهم - على تهافتها - أفضل في نظرهم من معتقدات أهل الكتاب من حولهم ، وهم يرون ما فيها من خلل واضطراب وتهافت كذلك .
عندئذ صح عزم " أبرهة " على هدم الكعبة ليصرف الناس عنها ؛ وقاد جيشا جرارا تصاحبه الفيلة ، وفي مقدمتها فيل عظيم ذو شهرة خاصة عندهم . فتسامع العرب به وبقصده . وعز عليهم أن يتوجه لهدم كعبتهم . فوقف في طريقه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر ، فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن البيت الحرام ، فأجابه إلى ذلك من أجابه . ثم عرض له فقاتله ، ولكنه هزم وأخذه أبرهة أسيرا .
ثم وقف له في الطريق كذلك نفيل ابن حبيب الخثعمي في قبيلتين من العرب ومعهما عرب كثير ، فهزمهم كذلك وأسر نفيلا ، الذي قبل أن يكون دليله في أرض العرب .
حتى إذا مر بالطائف خرج إليه رجال من ثقيف فقالوا له : إن البيت الذي يقصده ليس عندهم إنما هو في مكة . وذلك ليدفعوه عن بيتهم الذي بنوه للات ! وبعثوا معه من يدله على الكعبة !
فلما كان أبرهة بالمغمس بين الطائف ومكة ، بعث قائدا من قواده حتى انتهى إلى مكة فساق إليه أموال تهامة من قريش وغيرهم ، فأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم ، وهو يومئذ كبير قريش وسيدها . فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله . ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به فتركوا ذلك .
وبعث أبرهة رسولا إلى مكة يسأل عن سيد هذا البلد ، ويبلغه أن الملك لم يأت لحربهم وإنما جاء لهدم هذا البيت ، فإن لم يتعرضوا له فلا حاجة له في دمائهم ! فإذا كان سيد البلد لا يريد الحرب جاء به إلى الملك . . فلما كلم عبد المطلب فيما جاء به قال له : والله ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة . هذا بيت الله الحرام . وبيت خليله إبراهيم عليه السلام . . فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه ، وإن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه . . فانطلق معه إلى أبرهة . .
قال ابن إسحاق : وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم . فلما رآه أبرهة أجله وأعظمه ، وأكرمه عن أن يجلسه تحته ، وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه . فنزل أبرهة عن سريره ، فجلس على بساطه وأجلسه معه إلى جانبه . ثم قال لترجمانه : قل له : ما حاجتك ? فقال : حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي . فلما قال ذلك ، قال أبرهة لترجمانه : قل له : قد كنت أعجبتني حين رأيتك ، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني ! أتكلمني في مئتي بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه ? قال له عبد المطلب : إني أنا رب الإبل . وإن للبيت رب سيمنعه . قال : ما كان ليمتنع مني . قال : أنت وذاك ! . . فرد عليه إبله .
ثم انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر ، وأمرهم بالخروج من مكة ، والتحرز في شعف الجبال . ثم قام فأخذ بحلقة باب الكعبة ، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه . وروي عن عبد المطلب أنه أنشد :
لاهم إن العبد يمنع رحله فامنع رحالك .
لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبدا محالك
إن كنت تاركهم وقبلتنا فأمر ما بدا لك !
فأما أبرهة فوجه جيشه وفيله لما جاء له . فبرك الفيل دون مكة لا يدخلها ، وجهدوا في حمله على اقتحامها فلم يفلحوا . وهذه الحادثة ثابتة بقول رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يوم الحديبية حين بركت ناقته القصواء دون مكة ، فقالوا : خلأت القصواء [ أي حرنت ] فقال رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] " ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل . . " وفي الصحيحين أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] قال يوم فتح مكة : " إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين ، وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، ألا فليبلغ الشاهد الغائب " ، فهي حادثة ثابتة أنه قد حبس الفيل عن مكة في يوم الفيل . .
ثم كان ما أراده الله من إهلاك الجيش وقائده ، فأرسل عليهم جماعات من الطير تحصبهم بحجارة من طين وحجر ، فتركتهم كأوراق الشجر الجافة الممزقة . كما يحكي عنهم القرآن الكريم . . وأصيب أبرهة في جسده ، وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة ، حتى قدموا به صنعاء ، فما مات حتى انشق صدره عن قلبه كما تقول الروايات . .
وتختلف الروايات هنا في تحديد نوع هذه الجماعات من الطير ، وأشكالها ، وأحجامها ، وأحجام هذه الحجارة ونوعها وكيفية فعلها . كما أن بعضها يروي أن الجدري والحصبة ظهرا في هذا العام في مكة .
ويرى الذين يميلون إلى تضييق نطاق الخوارق والغيبيات ، وإلى رؤية السنن الكونية المألوفة تعمل عملها ، أن تفسير الحادث بوقوع وباء الجدري والحصبة أقرب وأولى . وأن الطير قد تكون هي الذباب والبعوض التي تحمل الميكروبات ، فالطير هو كل ما يطير .
قال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في تفسيره للسورة في جزء عم :
" وفي اليوم الثاني فشا في جند الجيش داء الجدري والحصبة . . قال عكرمة : وهو أول جدري ظهر ببلاد العرب . وقال يعقوب بن عتبة فيما حدث : إن أول ما رؤيت الحصبة والجدري ببلاد العرب ذلك العام . وقد فعل الوباء بأجسامهم ما يندر وقوع مثله . فكان لحمهم يتناثر ويتساقط فذعر الجيش وصاحبه وولوا هاربين ، وأصيب الجيش ، ولم يزل يسقط لحمه قطعة قطعة ، وأنملة أنملة حتى انصدع صدره ومات في صنعاء " .
" هذا أول ما اتفقت عليه الروايات ، ويصح الاعتقاد به . وقد بينت لنا هذه السورة الكريمة أن ذلك الجدري أو تلك الحصبة نشأت من حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش بواسطة فرق عظيمة من الطير مما يرسله الله مع الريح " .
" فيجوز لك أن تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض ، وأن تكون هذه الحجارة من الطين المسموم اليابس الذي تحمله الرياح فيعلق بأرجل هذه الحيوانات ، فإذا اتصل بجسد دخل في مسامه ، فأثار فيه تلك القروح التي تنتهي بإفساد الجسم وتساقط لحمه . وأن كثيرا من هذه الطيور الضعيفة يعد من أعظم جنود الله في إهلاك من يريد إهلاكه من البشر ، وأن هذا الحيوان الصغير - الذي يسمونه الآن بالمكروب - لا يخرج عنها . وهو فرق وجماعات لا يحصي عددها إلا بارئها . . ولا يتوقف ظهور أثر قدرة الله تعالى في قهر الطاغين ، على أن يكون الطير في ضخامة رؤوس الجبال ، ولا على أن يكون من نوع عنقاء مغرب ، ولا على أن يكون له ألوان خاصة به ، ولا على معرفة مقادير الحجارة وكيفية تأثيرها . . فلله جند من كل شيء " .
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
" وليست في الكون قوة إلا وهي خاضعة لقوته . فهذا الطاغية الذي أراد أن يهدم البيت ، أرسل الله عليه من الطير ما يوصل إليه مادة الجدري أو الحصبة ، فأهلكته وأهلكت قومه ، قبل أن يدخل مكة . وهي نعمة غمر الله بها أهل حرمه - على وثنيتهم - حفظا لبيته ، حتى يرسل من يحميه بقوة دينه [ صلى الله عليه وسلم ] وإن كانت نعمة من الله حلت بأعدائه أصحاب الفيل الذين أرادوا الاعتداء على البيت دون جرم اجترمه ، ولا ذنب اقترفه " .
" هذا ما يصح الاعتماد عليه في تفسير السورة . وما عدا ذلك فهو مما لا يصح قبوله إلا بتأويل ، إن صحت روايته . ومما تعظم به القدرة أن يؤخذ من استعز بالفيل - وهو أضخم حيوان من ذوات الأربع جسما - ويهلك ، بحيوان صغير لا يظهر للنظر ، ولا يدرك بالبصر ، حيث ساقه القدر . لا ريب عند العاقل أن هذا أكبر وأعجب وأبهر ! ! " .
ونحن لا نرى أن هذه الصورة التي افترضها الأستاذ الإمام - صورة الجدري أو الحصبة من طين ملوث بالجراثيم - أو تلك التي جاءت بها بعض الروايات من أن الحجارة ذاتها كانت تخرق الرؤوس والأجسام وتنفذ منها وتمزق الأجساد فتدعها كفتات ورق الشجر الجاف وهو( العصف ) . . لا نرى أن هذه الصورة أو تلك أدل على قدرة الله ، ولا أولى بتفسير الحادث . فهذه كتلك في نظرنا من حيث إمكان الوقوع . ومن حيث الدلالة على قدرة الله وتدبيره ، ويستوي عندنا أن تكون السنة المألوفة للناس ، المعهودة المكشوفة لعلمهم هي التي جرت فأهلكت قوما أراد الله إهلاكهم أو أن تكون سنة الله قد جرت بغير المألوف للبشر ، وغير المعهود المكشوف لعلمهم ، فحققت قدره ذاك .
إن سنة الله ليست فقط هي ما عهده البشر وما عرفوه . وما يعرف البشر من سنة الله إلا طرفا يسيرا يكشفه الله لهم بمقدار ما يطيقون ، وبمقدار ما يتهيأون له بتجاربهم ومداركهم في الزمن الطويل ، فهذه الخوارق - كما يسمونها - هي من سنة الله . ولكنها خوارق بالقياس إلى ما عهدوه وما عرفوه !
ومن ثم فنحن لا نقف أمام الخارقة مترددين ولا مؤولين لها - متى صحت الرواية - أو كان في النصوص وفي ملابسات الحادث ما يوحي بأنها جرت خارقة ، ولم تجر على مألوف الناس ومعهودهم . وفي الوقت ذاته لا نرى أن جريان الأمر على السنة المألوفة أقل وقعا ولا دلالة من جريانه على السنة الخارقة للمألوف . فالسنة المألوفة هي في حقيقتها خارقة بالقياس إلى قدرة البشر . . إن طلوع الشمس وغروبها خارقة - وهي معهودة كل يوم - وإن ولادة كل طفل خارقة - وهي تقع كل لحظة ، وإلا فليجرب من شاء أن يجرب ! وإن تسليط طير - كائنا ما كان - يحمل حجارة مسحوقة ملوثة بميكروبات الجدري والحصبة وإلقائها في هذه الأرض ، في هذا الأوان ، وإحداث هذا الوباء في الجيش ، في اللحظة التي يهم فيها باقتحام البيت . . إن جريان قدر الله على هذا النحو خارقة بل عدة خوارق كاملة الدلالة على القدرة وعلى التقدير . وليست بأقل دلالة ولا عظمة من أن يرسل الله طيرا خاصا يحمل حجارة خاصة تفعل بالأجسام فعلا خاصا في اللحظة المقررة . . هذه من تلك . . هذه خارقة وتلك خارقة على السواء . .
فأما في هذا الحادث بالذات ، فنحن أميل إلى اعتبار أن الأمر قد جرى على أساس الخارقة غير المعهودة ، وأن الله أرسل طيرا أبابيل غير معهودة - وإن لم تكن هناك حاجة إلى قبول الروايات التي تصف أحجام الطير وأشكالها وصفا مثيرا ، نجد له نظائر في مواضع أخرى تشي بأن عنصر المبالغة والتهويل مضاف إليها ! - تحمل حجارة غير معهودة ، تفعل بالأجسام فعلا غير معهود . .
نحن أميل إلى هذا الاعتبار . لا لأنه أعظم دلالة ولا أكبر حقيقة . ولكن لأن جو السورة وملابسات الحادث تجعل هذا الاعتبار هو الأقرب . فقد كان الله - سبحانه - يريد بهذا البيت أمرا . كان يريد أن يحفظه ليكون مثابة للناس وأمنا ؛ وليكون نقطة تجمع للعقيدة الجديدة تزحف منه حرة طليقة ، في أرض حرة طليقة ، لا يهيمن عليها أحد من خارجها ، ولا تسيطر عليها حكومة قاهرة تحاصر الدعوة في محضنها . ويجعل هذا الحادث عبرة ظاهرة مكشوفة لجميع الأنظار في جميع الأجيال ، حتى ليمتن بها على قريش بعد البعثة في هذه السورة ، ويضربها مثلا لرعاية الله لحرماته وغيرته عليها . . فمما يتناسق مع جو هذه الملابسات كلها أن يجيء الحادث غير مألوف ولا معهود ، بكل مقوماته وبكل أجزائه . ولا داعي للمحاولة في تغليب صورة المألوف من الأمر في حادث هو في ذاته وبملابساته مفرد فذ . .
وبخاصة أن المألوف في الجدري أو الحصبة لا يتفق مع ما روي من آثار الحادث بأجسام الجيش وقائده ، فإن الجدري أو الحصبة لا يسقط الجسم عضوا عضوا وأنملة أنملة ، ولا يشق الصدر عن القلب . .
وهذه الصورة هي التي يوحي بها النص القرآني : ( فجعلهم كعصف مأكول ) . . إيحاء مباشرا قريبا .
ورواية عكرمة وما حدث به يعقوب بن عتبة ليست نصا في أن الجيش أصيب بالجدري . فهي لا تزيد على أن تقول : إن الجدري ظهر في الجزيرة في هذا العام لأول مرة . ولم ترد في أقوالهما أية إشارة لأبرهة وجيشه خاصة بالإصابة بهذا المرض . . ثم إن إصابة الجيش على هذا النحو وعدم إصابة العرب القريبين بمثله في حينه تبدو خارقة إذا كان الطير تقصد الجيش وحده بما تحمل . وما دامت المسألة خارقة فعلام العناء في حصرها في صورة معينة لمجرد أن هذه الصورة مألوفة لمدارك البشر ! وجريان الأمر على غير المألوف أنسب لجو الحادث كله ? !
إننا ندرك ونقدر دوافع المدرسة العقلية التي كان الأستاذ الإمام - رحمه الله - على رأسها في تلك الحقبة . . ندرك ونقدر دوافعها إلى تضييق نطاق الخوارق والغيبيات في تفسير القرآن الكريم وأحداث التاريخ ، ومحاولة ردها إلى المألوف المكشوف من السنن الكونية . . فلقد كانت هذه المدرسة تواجه النزعة الخرافية الشائعة التي تسيطر على العقلية العامة في تلك الفترة ؛ كما تواجه سيل الأساطير والإسرائيليات التي حشيت بها ، كتب التفسير والرواية في الوقت الذي وصلت فيه الفتنة بالعلم الحديث إلى ذروتها ، وموجة الشك في مقولات الدين إلى قمتها . فقامت هذه المدرسة تحاول أن ترد إلى الدين اعتباره على أساس أن كل ما جاء به موافق للعقل . ومن ثم تجتهد في تنقيته من الخرافات والأساطير . كما تحاول أن تنشئ عقلية دينية تفقه السنن الكونية ، وتدرك ثباتها واطرادها ، وترد إليها الحركات الإنسانية كما ترد إليها الحركات الكونية في الأجرام والأجسام - وهي في صميمها العقلية القرآنية - فالقرآن يرد الناس إلى سنن الله الكونية باعتبارها القاعدة الثابتة المطردة المنظمة لمفردات الحركات والظواهر المتناثرة .
ولكن مواجهة ضغط الخرافة من جهة وضغط الفتنة بالعلم من جهة أخرى تركت آثارها في تلك المدرسة . من المبالغة في الاحتياط ، والميل إلى جعل مألوف السنن الكونية هو القاعدة الكلية لسنة الله . فشاع في تفسير الأستاذ الشيخ محمد عبده - كما شاع في تفسير تلميذيه الأستاذ الشيخ رشيد رضا والأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي - رحمهم الله جميعا - شاع في هذا التفسير الرغبة الواضحة في رد الكثير من الخوارق إلى مألوف سنة الله دون الخارق منها ، وإلى تأويل بعضها بحيث يلائم ما يسمونه " المعقول " ! وإلى الحذر والاحتراس الشديد في تقبل الغيبيات .
ومع إدراكنا وتقديرنا للعوامل البيئية الدافعة لمثل هذا الاتجاه ، فإننا نلاحظ عنصر المبالغة فيه ، وإغفال الجانب الآخر للتصور القرآني الكامل . وهو طلاقة مشيئة الله وقدرته من وراء السنن التي اختارها - سواء المألوف منها للبشر أو غير المألوف - هذه الطلاقة التي لا تجعل العقل البشري هو الحاكم الأخير . ولا تجعل معقول هذا العقل هو مرد كل أمر بحيث يتحتم تأويل ما لا يوافقه - كما يتكرر هذا القول في تفسير أعلام هذه المدرسة .
هذا إلى جانب أن المألوف من سنة الله ليس هو كل سنة الله . إنما هو طرف يسير لا يفسر كل ما يقع من هذه السنن في الكون . وأن هذه كتلك دليل على عظمة القدرة ودقة التقدير . .
وكل ذلك مع الاحتياط من الخرافة ونفي الأسطورة في اعتدال كامل ، غير متأثر بإيحاء بيئة خاصة ، ولا مواجهة عرف تفكيري شائع في عصر من العصور ! ! !
إن هنالك قاعدة مأمونة في مواجهة النصوص القرآنية ، لعل هنا مكان تقريرها . . إنه لا يجوز لنا أن نواجه النصوص القرآنية بمقررات عقلية سابقة . لا مقررات عامة . ، ولا مقررات في الموضوع الذي تعالجه النصوص . بل ينبغي أن نواجه هذه النصوص لنتلقى منها مقرراتنا . فمنها نتلقى مقرراتنا الإيمانية ، ومنها نكون قواعد منطقنا وتصوراتنا جميعا ؛ فإذا قررت لنا أمرا فهو المقرر كما قررته ! ذلك أن ما نسميه " العقل " ونريد أن نحاكم إليه مقررات القرآن عن الأحداث الكونية والتاريخية والإنسانية والغيبية هو إفراز واقعنا البشري المحدود ، وتجاربنا البشرية المحدودة .
وهذا العقل وإن يكن في ذاته قوة مطلقة لا تتقيد بمفردات التجارب والوقائع بل تسمو عليها إلى المعنى المجرد وراء ذواتها ، إلا أنه في النهاية محدود بحدود وجودنا البشري . وهذا الوجود لا يمثل المطلق كما هو عند الله . والقرآن صادر عن هذا المطلق فهو الذي يحكمنا . ومقرراته هي التي نستقي منها مقرراتنا العقلية ذاتها . ومن ثم لا يصلح أن يقال : إن مدلول هذا النص يصطدم مع العقل فلا بد من تأويله - كما يرد كثيرا في مقررات أصحاب هذه المدرسة . وليس معنى هذا هو الإستسلام للخرافة . ولكن معناه أن العقل ليس هو الحكم في مقررات القرآن . ومتى كانت المدلولات التعبيرية مستقيمة واضحة فهي التي تقرر كيف تتلقاها عقولنا ، ويكف تصوغ منها قواعد تصورها ومنطقها تجاه مدلولاتها ، وتجاه الحقائق الكونية الأخرى . .
ونعود من هذا الاستطراد إلى سورة الفيل ، وإلى دلالة القصة . .
( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ? ) . . وهو سؤال للتعجيب من الحادث ، والتنبيه إلى دلالته العظيمة . فالحادث كان معروفا للعرب ومشهورا عندهم ، حتى لقد جعلوه مبدأ تاريخ . يقولون حدث كذا عام الفيل ، وحدث كذا قبل عام الفيل بعامين ، وحدث كذا بعد عام الفيل بعشر سنوات . . والمشهور أن مولد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] كان في عام الفيل ذاته . ولعل ذلك من بدائع الموافقات الإلهية المقدرة !
وإذن فلم تكن السورة للإخبار بقصة يجهلونها ، إنما كانت تذكيرا بأمر يعرفونه ، المقصود به ما وراء هذا التذكير . .
هذه من النعم التي امتن الله بها على قريش ، فيما صرف عنهم من أصحاب الفيل ، الذين كانوا قد عزموا على هدم الكعبة ومحو أثرها من الوجود ، فأبادهم الله ، وأرغم آنافهم ، وخيب سعيهم ، وأضل عملهم ، وَرَدهم بشر خيبة . وكانوا قوما نصارى ، وكان دينهم إذ ذاك أقرب حالا مما كان عليه قريش من عبادة الأوثان . ولكن كان هذا من باب الإرهاص والتوطئة لمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه في ذلك العام ولد على أشهر الأقوال ، ولسان حال القدر يقول : لم ننصركم - يا معشر قريش - على الحبشة لخيريتكم عليهم ، ولكن صيانة للبيت العتيق الذي سنشرفه ونعظمه ونوقره ببعثة النبي الأمي محمد ، صلوات الله وسلامه عليه{[30514]} خاتم الأنبياء .
وهذه قصة أصحاب الفيل على وجه الإيجاز والاختصار والتقريب : قد تقدم في قصة أصحاب الأخدود{[30515]} أن ذا نُوَاس - وكان آخر ملوك حمير ، وكان مشركًا - هو الذي قتل أصحاب الأخدود ، وكانوا نصارى ، وكانوا قريبًا من عشرين ألفًا ، فلم يفلت منهم إلا دَوس ذو ثعلبان ، فذهب فاستغاث بقيصر ملك الشام - وكان نصرانيًا - فكتب له إلى النجاشي ملك الحبشة ؛ لكونه أقرب إليهم ، فبعث معه أميرين : أرياط وأبرهة بن الصباح أبا يكسوم{[30516]} في جيش كثيف ، فدخلوا اليمن فجاسوا خلال الديار ، واستلبوا الملك من حمير ، وهلك ذو نواس غريقا في البحر . واستقل الحبشة بملك اليمن وعليهم هذان الأميران : أرياط وأبرهة ، فاختلفا في أمرهما وتصاولا وتقاتلا وتصافا ، فقال أحدهما للآخر : إنه لا حاجة بنا إلى اصطدام الجيشين بيننا ، ولكن ابرز إلي وأبرز إليك ، فأينا قتل الآخر ، استقل بعده بالملك . فأجابه إلى ذلك فتبارزا ، وخَلَفَ كل واحد منهما قناة ، فحمل أرياط على أبرهة فضربه بالسيف ، فشرم أنفه وفمه وشق وجهه ، وحمل عَتَوْدَة مولى أبرهة على أرياط فقتله ، ورجع أبرهة جريحًا ، فداوى جرحه فَبَرأ ، واستقل بتدبير جيش الحبشة باليمن . فكتب{[30517]} إليه النجاشي يلومه على ما كان منه ، ويتوعده ويحلف ليطأن بلاده ويجزن ناصيته . فأرسل إليه أبرهة يترقق له ويصانعه ، وبعث مع رسوله بهدايا وتحف ، وبجراب فيها من تراب اليمن ، وجز ناصيته فأرسلها معه ، ويقول في كتابه : ليطأ الملك على هذا الجراب فيبر قسمه ، وهذه ناصيتي قد بعثت بها إليك . فلما وصل ذلك إليه أعجبه منه ، ورضي عنه ، وأقره على عمله . وأرسل أبرهة يقول للنجاشي : إني سأبني لك كنيسة بأرض اليمن لم يُبْنَ قبلها مثلها . فشرع في بناء كنيسة هائلة بصنعاء ، رفيعة البناء ، عالية الفناء ، مزخرفة الأرجاء . سمتها العرب القُلَّيس ؛ لارتفاعها ؛ لأن الناظر إليها تكاد تسقط قلنسوته عن رأسه من ارتفاع بنائها . وعزم أبرهة الأشرمُ على أن يصرف حَجّ العرب إليها كما يُحَج إلى الكعبة بمكة ، ونادى بذلك في مملكته ، فكرهت العرب العدنانية والقحطانية ذلك ، وغضبت قريش لذلك غضبًا شديدًا ، حتى قصدها بعضهم ، وتوصل إلى أن دخلها ليلا ، فأحدث فيها وكرّ راجعًا . فلما رأى السدنة ذلك الحدث ، رفعوا أمرهم إلى ملكهم أبرهة ، وقالوا له : إنما صنع هذا بعض قريش غضبًا لبيتهم الذي ضاهيت هذا به ، فأقسم أبرهة ليسيرن إلى بيت مكة ، وليخربنه حجرًا حجرًا .
وذكر مقاتل بن سليمان أن فتية من قريش دخلوها فأججوا فيها نارًا ، وكان يومًا فيه هواء شديد فأحرقته ، وسقطت إلى الأرض .
فتأهب أبرهة لذلك ، وصار في جيش كثيف عَرَمرم ؛ لئلا يصده أحد عنه ، واستصحب معه فيلا عظيما كبير الجثة لم ير مثله ، يقال له : محمود ، وكان قد بعثه إليه النجاشي ملك الحبشة لذلك . ويقال : كان معه أيضًا ثمانية أفيال . وقيل : اثنا عشر فيلا . وقيل غيره ، والله أعلم . يعني ليهدم به الكعبة ، بأن يجعل السلاسل في الأركان ، وتوضع في عُنُق الفيل ، ثم يزجر ليلقي الحائط جملة واحدة . فلما سمعت العرب بمسيره أعظموا ذلك جدًا ، ورأوا أن حقًا عليهم المحاجبة{[30518]} دون البيت ، وَرَد من أراده بكيد . فخرج إليه رجل [ كان ]{[30519]} من أشراف أهل اليمن وملوكهم ، يقال له " ذو نَفْر " فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة ، وجهاده عن بيت الله ، وما يريد من هدمه وخرابه . فأجابوه وقاتلوا أبرهة ، فهزمهم لما يريده الله ، عز وجل ، من كرامة البيت وتعظيمه ، وأسر " ذو نُفْر " فاستصحبه معه . ثم مضى لوجهه حتى إذا كان بأرض خثعم ، عَرَض له نُفَيل بن حَبيب الخَشْعمي في قومه : شهران وناهس ، فقاتلوه ، فهزمهم أبرهة ، وأسر نُفَيل بن حبيب ، فأراد قتله ثم عفا عنه ، واستصحبه معه ليدله في بلاد الحجاز . فلما اقترب من أرض الطائف ، خرج إليه أهلها ثقيف وصانعوه خيفة على بيتهم الذي عندهم الذي يسمونه اللات . فأكرمهم وبعثوا معه " أبا رغَال " دليلا . فلما انتهى أبرهة إلى المُغَمْس - وهو قريب من مكة - نزل به وأغار جيشه على سَرْح أهل مكة من الإبل وغيرها ، فأخذوه . وكان في السرح{[30520]} مائتا بعير لعبد المطلب . وكان الذي أغار على السرح بأمر أبرهة أمير المقدمة ، وكان يقال له : " الأسود بن مفصود " فهجاه بعض العرب - فيما ذكره ابن إسحاق{[30521]} - وبعث أبرهة حناطة الحميري إلى مكة ، وأمره أن يأتيه بأشرف قريش ، وأن يخبره أن الملك لم يجئ لقتالكم إلا أن تَصُدوه عن البيت . فجاء حناطة فَدُل على عبد المطلب بن هاشم وبلغه عن أبرهة ما قال ، فقال له عبد المطلب : والله ما نريد حربه ، وما لنا بذلك من طاقة ، هذا بيت الله الحرام ، وبيت خليله إبراهيم ، فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه ، وإن يخلى بينه وبينه ، فوالله ما عندنا دَفْع عنه . فقال له حناطة : فاذهب معي إليه . فذهب معه ، فلما رآه أبرهة أجله ، وكان عبد المطلب رجلا جميلا حسن المنظر ، ونزل أبرهة عن سريره ، وجلس معه على البساط ، وقال لترجمانه : قل له : حاجتك ؟ فقال للترجمان : إن حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي . فقال أبرهة لترجمانه : قل له : لقد كنت أعجبتني حين رأيتك ، ثم قد زَهِدت فيك حين كلمتني ، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك ، وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئتُ لهدمه ، لا تكلمني فيه ؟ ! فقال له عبد المطلب : إني أنا رب الإبل ، وإن للبيت ربا سيمنعه . قال : ما كان ليمتنع مني ! قال : أنت وذاك .
ويقال : إنه ذهب مع عبد المطلب جماعة من أشراف العرب فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عن البيت ، فأبى عليهم ، ورد أبرهة على عبد المطلب إبله ، ورجع عبد المطلب إلى قريش فأمرهم بالخروج من مكة ، والتحصن في رءوس الجبال ، تخوفا عليهم من معرة الجيش . ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة ، وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه على أبرهة وجنده ، وقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة :
لاهُمَّ{[30522]} إنَّ المرء يم *** نَعُ رَحْلَه فامْنع حِلالَك
لا يغلبنَّ صَلِيبُهم *** ومحَالُهم غدوًا مِحَالك
قال ابن إسحاق : ثم أرسل عبد المطلب حَلْقة الباب ، ثم خرجوا إلى رءوس الجبال{[30523]} .
وذكر مقاتل بن سليمان أنهم تركوا عند البيت مائة بدنة مُقَلَّدة ، لعل بعض الجيش{[30524]} ينال منها شيئا بغير حق ، فينتقم الله منه .
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة ، وهيأ فيله - وكان اسمه محمودًا - وعبأ جيشه ، فلما وجهوا الفيل نحو مكة أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنبه ثم أخذ بأذنه وقال : ابرك محمود وارجع راشدا من حيث جئت ، فإنك في بلد الله الحرام " . ثم أرسل أذنه ، فبرك الفيل . وخرج نفيل بن حبيب يَشتد حتى أصعد في الجبل . وضربوا الفيل ليقوم فأبى . فضربوا في رأسه بالطْبرزين{[30525]} وأدخلوا محاجن لهم في مَرَاقه فبزغوه بها ليقوم ، فأبى ، فوجهوه راجعا إلى اليمن فقام يهرول . ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك . ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى مكة فبرك . وأرسل الله عليهم طيرا من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان .
مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها : حجر في منقاره ، وحجران في رجليه ، أمثال الحمص والعدس ، لا تصيب منهم أحدًا إلا هلك ، وليس كلهم أصابت . وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق ، ويسألون عن نفيل ليدلهم على الطريق هذا . ونفيل على رأس الجبل مع قريش وعرب الحجاز ، ينظرون ماذا أنزل الله بأصحاب الفيل من النقمة ، وجعل نفيل يقول :
أينَ المَفَرُّ? والإلهُ الطَّالب{[30526]} *** والأشرمُ المغلوبُ غير الغالب{[30527]}
قال ابن إسحاق : وقال نُفَيل في ذلك أيضًا :
ألا حُييت عَنا يا رُدَينا *** نَعمْناكُم مَعَ الأصبَاح عَينَا
رُدَينةُ لو رأيت - ولا تَرَيْه *** لَدَى جَنْب المحصّب - ما رَأينَا
إذا لَعَذَرتني وَحَمَدت أمْري *** وَلَم تأسى عَلَى مَا فات بَيْنَا
حَمِدتُ الله إذ أبصَرتُ طيرًا *** وَخفْتُ حَجارة تُلقَى عَلَينا
فَكُلّ القوم يَسألُ عَن نُفَيل *** كَأنَّ عليَ للحُبْشَان دَينَا !
وذكر الواقدي بأسانيده أنهم لما تعبئوا لدخول الحرم وهيئوا الفيل ، جعلوا لا يصرفونه إلى جهة من سائر الجهات إلا ذهب [ فيها ]{[30528]} فإذا وجهوه إلى الحرم رَبَض وصاح . وجعل أبرهة يحمل على سائس الفيل وينهره ويضربه ، ليقهر الفيل على دخول الحرم . وطال الفصل في ذلك . هذا وعبد المطلب وجماعة من أشراف مكة ، منهم{[30529]} المطعم بن عدي ، وعمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم ، ومسعود [ بن عمرو ]{[30530]} الثقفي ، على حراء ينظرون إلى ما الحبشة يصنعون ، وماذا يلقون من أمر الفيل ، وهو العجب العجاب . فبينما هم كذلك ، إذ بعث الله عليهم طيرًا أبابيل ، أي قطَعًا قِطَعًا صفرا دون الحمام ، وأرجلها حمر ، ومع كل طائر ثلاث أحجار ، وجاءت فحلقت عليهم ، وأرسلت تلك الأحجار عليهم فهلكوا .
وقال محمد بن كعب : جاءوا بفيلين : فأما محمود فَرَبض ، وأما الآخر فَشَجُع{[30531]} فحُصِب .
وقال وهب بن مُنَبِّه : كان معهم فيلة ، فأما محمود - وهو فيل الملك - فربض ، ليقتدي به بقية الفيلة ، وكان فيها فيل تَشَجَّع فحصب ، فهربت بقية الفيلة .
وقال عطاء بن يَسَار ، وغيره : ليس كلهم أصابه العذاب في الساعة الراهنة ؛ بل منهم من هلك سريعًا ، ومنهم من جعل يتساقط عضوًا عضوًا وهم هاربون ، وكان أبرهة ممن يتساقط عضوًا عضوًا ، حتى مات ببلاد خثعم .
قال ابن إسحاق : فخرجوا يتساقطون بكل طريق ، ويهلكون على كل منهل{[30532]} وأصيب أبرهة في جسده ، وخرجوا به معهم يسقط أنْمُلة أنْمُلة ، حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر ، فما مات حتى انصدع صدره عن{[30533]} قلبه فيما يزعمون .
وذكر مقاتل بن سليمان : أن قريشًا أصابوا مالا جزيلا من أسلابهم ، وما كان معهم ، وأن عبد المطلب أصاب يومئذ من الذهب ما ملأ حفرة .
وقال ابن إسحاق : وحدثني يعقوب بن عُتْبَة : أنه حدث{[30534]} أن أول ما رئيت الحَصبة والجُدري بأرض العرب ذلك العام ، وأنه أول ما رئي به مَرائر الشجر الحَرْمل ، والحنظل والعُشر ، ذلك العام{[30535]} .
وهكذا روي عن عكرمة ، من طريق جيد .
قال ابن إسحاق : فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم كان فيما يَعُد به على قريش من نعْمتَه{[30536]} عليهم وفضله ، ما رَدَّ عنهم من أمر الحبشة ، لبقاء أمرهم ومدتهم ، فقال : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ } { لإيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } [ سورة قريش ] أي : لئلا يغير شيئا من حالهم التي كانوا عليها ، لما أراد الله بهم من الخير لو قبلوه .