بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الفيل مكية ، وهي خمس آيات .

قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ } يعني : ألم تخبر بالقرآن . ويقال : ألم تر ، يعني : ألم يبلغك الخبر . ويقال : اللفظ لفظ الاستفهام ، والمراد به الإخبار ، يعني : اعلم واعتبر بصنيع ربك { كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ } يعني : كيف عذب ربك { بأصحاب الفيل } وكان بدء أصحاب الفيل ، ما ذكرناه في سورة البروج ، أن زرعة قتل المسلمين بالنار ، فهرب رجل منهم إلى ملك الحبشة ، وأخبره بذلك . فبعث ملك الحبشة جيشاً إلى أرض اليمن ، فأمَّر عليهم أرياطاً ، ومعه في جنده أبرهة الأشرم ، فركب البحر بمن معه ، حتى أتوا ساحلاً ، مما يلي أرض اليمن ، فدخلوها ومع أرياط سبعون ألفاً من الحبشة ، وهزم جنود زرعة ، وألقى زرعة نفسه في الماء ، فهلك وأقام أرياط باليمن سنين في سلطانه .

ذلك ثم نازعه في أمر الحبشة أبرهة ، وكان من أصحابه ، ممن وجّهه معه النجاشي إلى اليمن وخالفه أبرهة وتفرق الجند في أرض اليمن ، وصار إلى كل واحد منهما طائفة منهم . ثم خرجوا للقتال ، فلما تقارب الناس ، ودنا بعضهم من بعض ، أرسل أبرهة إلى أرياط أن لا تصنع شيئاً ، بأن تلقى الحبشة بعضها في بعض حتى تفنيها . فأبرز لي وأبرز لك ، فأينا أصاب صاحبه انصرف إلى جنده ، فأرسل إليه أرياط أن قد أنصفت فاخرج ، فخرج إليه أبرهة ، وكان رجلاً قصيراً ، وخرج إليه أرياط وكان رجلاً طويلاً عظيماً ، في يده حربة ، وخلف أبرهة عبداً يقال له عنودة ، وروي عن بعضهم عيودة بالياء ، فلما دنا أحدهما من صاحبه ، رفع أرياط الحربة ، فضرب بها على رأس أبرهة يريد يافوخة ، فوقعت الحربة على جبهة أبرهة ، فخدشت حاجبيه وعينه وأنفه وشفتيه . فلذلك سمي أبرهة الأشرم ، وحمل عيودة على أرياط من خلف أبرهة ، فقتل أرياط ، وانصرف جند أرياط إلى أبرهة فاجتمعت عليه الحبشة باليمن .

وكل ما صنع أبرهة من غير علم النجاشي ملك الحبشة ، فلما بلغه ذلك ، غضب غضباً شديداً . وقال : عدا على أميري ، فقتله بغير أمري . ثم حلف أن لا يدع أبرهة ، حتى يطأ بلاده ، ويجز ناصيته . فلما بلغ ذلك أبرهة ، حلق رأسه ، وملأ جراباً من تراب أرض اليمن . ثم بعث إلى النجاشي ، وكتب إليه ، أيها الملك : إنما كان أرياط عبدُك ، وأنا عبدك ، واختلفنا في أمرك ، وكل طاعة لك . إلا أني قد كنت أقوى على أمر الجيش منه ، وأضبط له ، وقد حلقت رأسي حين بلغني قسم الملك ، وبعثت إليه بجراب من تراب أرضي ، ليضعه تحت قدميه ، فيبر قسمه . فلما وصل كتاب أبرهة إلى النجاشي رضي عنه وكتب إليه ، أن أثبت بأرض اليمن ، حتى يأتيك أمري .

وقال أبرهة لعتودة حين قتل أرياط : حكمك : يعني أحكم عليّ بما شئت ، فقال : حكمي أن لا تدخل عروس من نساء أهل اليمن على زوجها ، حتى أصيبها قبله .

قال : ذلك لك . فأقام أبرهة باليمن ، وغلامه عنودة يصنع باليمن ما كان أعطاه في حكمه . ثم عدا عليه رجل من حمير ، أو من خَثْعم فقلته ، فلما بلغ أبرهة قتله ، وكان أبرهة رجلاً حليماً ، ودعا في دينه من النصرانية ، فقال : قد آن لكم يا أهل اليمن أن يكون منكم رجل حازم ، يأنف مما يأنف منه الرجال ، إني والله لو علمت حين حكمته ، أنه يسأل من الذي سأل ما حكمته ، وأيم الله لا يؤخذ منكم فيه عقل ، ولا قود .

ثم إن أبرهة بنى بصنعاء كنيسة ، لم يُر مثلها في زمانه في أرض الروم ، ولا في أرض الشام . ثم كتب إلى النجاشي الأكبر ، ملك الحبشة ، أني قد بنيت لك كنيسة ، لم يكن مثلها لملك كان قبلك ، ولست بمنته حتى أصرف إليها حج العرب ، فلما علمت العرب بكتاب أبرهة إلى النجاشي ، خرج رجل من بني كنانة من الحمس ، حتى قدم اليمن ، فدخل الكنيسة ، فنظر فيها ، ثم خرى فيها فدخلها أبرهة ، فوجد تلك العذرة فيها فقال : من اجترأ عليّ بهذا ، فقال له أصحابه : أيها الملك ، رجل من أهل ذلك البيت الذي يحجه العرب . فقال : أعليّ اجْتَرأ بهذا . ثم قال بالنصرانية : لأهْدِمَنَّ ذلك البيت ولأُخَرِّبنه ، حتى لا يحجه حاج أبداً . فدعا بالفيل وأذن قومه بالخروج .

وروي في رواية أُخرى أن فئة من قريش ، خرجوا إلى أرض النجاشي ، فأوقدوا ناراً ، فلما رجعوا ، تركوا النار في يوم ريح عاصف ، حتى وقعت النار في الكنيسة ، فأحرقتها . فعزم أبرهة ، وهو خليفة النجاشي أن يخرج إلى مكة فيهدم الكعبة ، وينقل أحجارها إلى اليمن ، فيبني هناك بيتاً ليحج الناس إليه . وروي في رواية أُخرى أن رجلاً من أهل مكة خرج إلى اليمن ، فأخذ جزعة من القصب ذات ليلة ، وأضرم النار في الكنيسة فأحرقها ثم هرب . فبناها أبرهة مرة أخرى ، فحلف بعيسى ابن مريم بأن يهدم الكعبة ، لكي يتحول الحج إلى كنيسته ، فتجهز فخرج معه حتى إذا كان في بعض طريقه ، بعث رجلاً من بني سليم ، ليدعو الناس في حج بيته الذي بناه ، فتلقاه رجل من اليمن بني كنانة ، فقتله .

فازداد أبرهة بذلك غضباً ، وحث على المسير والانطلاق ، حتى إذا كان بأرض خثعم فخرج إليه رجل من أشراف اليمن وملوكهم ، يقال له : ذو يفن ، فدعا القوم ، وأحبابه من سائر العرب ، إلى حرب أبرهة ، وصده عن بيت الله ، فقاتله فهرب ذو يفن وأصحابه ، وأخذوا ذا يفن ، وأتى به أسيراً . فلما أراد قتله قال : أيها الملك ، لا تقتلني ، فإنه عسى أن أكون معك خير لك من قتلي ، فتركه وحبسه عنده في وثاقه . ثم مضى على وجهه ذلك ، حتى إذا كان بأرض خثعم ، عرض له فقيل ابن حبيب الخشعي ، فقاتله فهزمه ، وأخذ أسيراً .

فلما أتي به ، وهم بقتله فقال : أيها الملك لا تقتلني ، فإني دليلك بأرض العرب ، فتركه وخلى سبيله ، وخرج به معه يدله على أرض العرب .

حتى إذا مر بالطائف فخرج إليه مسعود بن مغيث ، التقى في رجال من ثقيف فقالوا : أيها الملك إنما نحن عبيدك ، ليس عندنا لك خلاف ، وليس بيتنا هذا الذي تريد ، يعنون اللات والعزى ، وليست بالتي يحج إليه العرب ، وإنما ذلك بيت قريش الذي بمكة ، فنحن نبعث معك من يدلك عليه ، فتجاوز عنهم فبعثوا معه أبا رغال ، فخرج يهديهم الطريق ، حتى أنزلهم بالمغمس وهي على ستة أميال من مكة ، فمات أبو رغال هناك ، فرجمت العرب قبره ، فهو القبر الذي ترجمه الناس بالمغمس .

ثم إن قريشاً لما علموا أن لا طاقة لهم بالقتال مع هؤلاء القوم ، لم يبق بمكة أحد ، إلا خرج إلى الشعاب والجبال ، ولم يبق أحد إلا عبد المطلب على سقايته وشيبه ، أقام على حجابة البيت ، فجعل عبد المطلب يأخذ بعضادتي البيت ويقول : اللهم إن المرء يمنع رحله ، فامنع رحالك لا يغلبوا بصليبهم ، فأمر ما بدا لك . ثم إن أبرهة بعث رجلاً من الحبشة على جمل له ، حتى انتهى إلى مكة ، وساق إلى أبرهة أموال قريش وغيرها . فأصاب مائتي بعير لعبد المطلب ، وهو يومئذٍ كبير قريش وسيدها . ثم بعثت أبرهة رجلاً من أهل حمير إلى مكة ، وقال : أرسل إلى سيد هذا البيت وشريفهم . ثم قال له : إن الملك يقول لك : إني لم آت لأخرجكم ، وإنما جئت لأهدم هذا البيت ، فإن لم تتعرضوا إلى دونه بحرب ، فلا حاجة لي بدمائكم .

فلما دخل الرسول مكة ، جاء إلى عبد المطلب ، وأدى إليه الرسالة ، فقال له عبد المطلب : ما نريد حربه ، وما لنا بنيه ، حتى أتى العسكر فسأل عن ذي يفن ، وكان صديقاً له ، فجاءه وهو في مجلسه فقال له : هل عندك من عناء بما نزل بنا ، فقال له ذو يفن : ما عناء رجل أسير بيد ملك ينتظر بأن يقتله ، عدواً أو مشياً ، ألا إن صاحب الفيل صديق لي ، فأرسل إليه فأوصيه لك ، وأعظم عليه حقك ، وأسأله أن يستأذن لك على الملك ، فتكلمه أنت بما بدا لك . فقال : حسبي ، ففعل ذلك ، فلما دخل عبد المطلب على الملك وكلمه ، فأعجبه كلامه .

ثم قال لترجمانه : قل له ما حاجتك ؟ قال عبد المطلب : حاجتي إليك ، أن ترد إلي مائتي بعير لي ، فلما قال ذلك ، قال له أبرهة : لقد كنت أعجبتني حين رأيتك ، ثم إني رجوت . يعني : كرهت فيك حيث كلمتني في مائتي بعير أصبتها لك ، وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك ، قد جئت لهدمه . لا تكلمني فيه . قال عبد المطلب : أنا رب الإبل ، وإن للبيت رباً سيمنعه .

فقال : ما كان يمنع مني ، قال : أنت وذلك . فرد عليه الإبل ، فانصرف عبد المطلب إلى قريش ، وأخبرهم الخبر ، وأمر بالخروج لمن بقي من أهل مكة إلى الجبال ، وفي بطون الشعاب .

ثم إن عبد المطلب ، أخذ بحلقتي باب الكعبة ، وقال : اللهم إن المرء يمنع رحله ، وذكر كلمات في ذلك . ثم أرسل حلقتي الباب ، وانطلق ومن معه إلى الجبال ، ينتظرون ما يصنع أبرهة بمكة . فلما أصبح أبرهة ، تهيأ لدخول مكة ، وهيأ فيله وجيشه ، وكان اسم الفيل محموداً ، وكنيته أبو العباس . وكتبه أبو البكشوم ، فلما وجهوا الفيل إلى مكة ، أقبل نفيل بن حبيب الخثعمي ، حتى جاء إلى جنب الفيل . ثم أخذ بأذنه فقال أبرك محموداً ، وارجع راشداً من حيث جئت ، فإنك والله في بلد الله الحرام . ثم أرسل أذنه فاضطجع ، فضربه ليقوم فأبى ، فضربوه ليقوم فأبى وضربوا بالطبرزين فوجهوه راجعاً إلى اليمن ، فقام يهرول ووجهوه إلى الشام ، ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى مكة ، فبرك وأرسل الله تعالى عليهم طيراً من البحر ، أمثال الخطاطيف . مع كل طير منها ثلاثة أحجار ، حجر في منقاره ، وحجران في رجليه ، أمثال الحمصة والعدسة ، لا تصيب أحداً منهم إلا هلك .

فخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي جاؤوا منه ، ويتساءلون عن نفل بن حبيب ، ليدلهم على الطريق ، فخرج نفيل يشتد ، حتى صعد الجبل ، فخرجوا معه يتساقطون بكل طريق ، ويهلكون على كل منهل ، فأصيب أبرهة في جسده ، وخرجوا معه فيسقط من جسده أنملة أنملة ، كلما سقطت منه أنملة ، خرجت منه مدة قيح ودم ، حتى قدموا به صنعاء ، وهو مثل فرخ الطائر ، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ثم مات ، فملك ابنه يكثوم بن أبرهة ملك اليمن .

وروي في الخبر ، أنه أول ما وقعت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام . وقال بعضهم : كان أمر أصحاب الفيل قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث وعشرين سنة . وقال بعضهم : كان ذلك في عام مولده عليه السلام . وروي عن قبس بن مخرمة أنه قال : ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم في عام الفيل . فنزل قوله { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بأصحاب الفيل } يعني : كيف عاقب ربك أصحاب الفيل ، بالحجارة ، حين أرادوا هدم الكعبة .