تفسير مقاتل بن سليمان - مقاتل  
{أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

سورة الفيل

مكية ، عددها خمس آيات كوفي .

بسم الله الرحمن الرحيم

{ ألم تر } ألم تعلم يا محمد { كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } آية . يعني أبرهة بن الأشرم اليماني وأصحابه ، وذلك أنه كان بعث أبا يكسوم بن أبرهة اليماني الحبشي ، وهو ابنه ، في جيش كثيف إلى مكة ، ومعهم الفيل ليخرب البيت الحرام ، ويجعل الفيل مكان البيت بمكة ، ليعظم ويعبد كتعظيم الكعبة ، وأمره أن يقتل من حال بينه وبين ذلك ، فسار أبو يكسوم بمن معه حتى نزل بالمعمس ، وهو واد دون الحرم بشيء يسير ، فلما أرادوا أن يسوقوا الفيل إلى مكة لم يدخل الفيل الحرم ، وبرك ، فأمر أبو يكسوم أن يسقوه الخمر ، فسقوه الخمر ويردونه في سياقه ، فلما أرادوا أن يسوقوه برك الثانية ، ولم يقم ، وكلما خلوا سبيله ولي راجعا إلى الوجه الذي جاء منه يهرول ، ففزعوا من ذلك وانصرفوا عامهم ذلك ، فلما أن كان بعده بسنة أو بسنتين خرج قوم من قريش في تجارة إلى أرض النجاشي ، حتى دنوا من ساحل البحر في سند حقف من أحقافها ببعية النصارى ، وتسميها قريش الهيكل ، ويسميها النجاشي وأهله أرضة ما سر حسان ، فنزل القوم في سندها ، فجمعوا حطبا ، وقدوا نارا ، وشووا لحما .

فلما أرادوا أن يرتحلوا تركوا النار ، كما هي في يوم عاصف ، فعجبت الريح واضطرم الهيكل نارا ، فانطلق الصريخ إلى النجاشي ، وجاءه الخبر فأسف عند ذلك غضبا للبيعة ، وسمعت بذلك ملوك العرب الذين هم بحضرته ، فأتوا النجاشي منهم حجر بن شرحبيل ، وأبو يكسوم الكنديان ، وأبرهة بن الصباح الكندي ، فقالوا : أيها الملك ، لا تكاد ولا تغلب ، نحن مؤازرون لك على كعبة قريش التي بمكة ، فإنها فخرهم ومعتزهم على من بحضرتهم من العرب ، فننسف بناءها ، ونبيح دماءها ، وننتهب أموالها ، وتمنح حفائرها من شئت من سوامك ، ونحن لك على ذلك مؤازرون ، فاعزم إذا شئت أو أحببت أيها الملك ، فأرسل الملك الأسود بن مقصود ، فأمر عند ذلك بجنوده من مزارعي الأرض ، فأخرج كتائبه جماهير معهم الفيل ، واسمه محمود ، فسار بهم وبمن معه من ملوك العرب تلقاء مكة في حجائل تضيق عليهم الطرق ، فلما ساروا مروا بخيل لعبد المطلب ، جد النبي صلى الله عليه وسلم ، مسومة وإبل ، فاستاقها .

فركب الراعي فرسا له أعوجيا كان يعده لعبد المطلب ، فأمعن في السير حتى دخل مكة ، فصعد إلى الصفا فرقي عليه ، ثم نادى بصوت رفيع : يا صباحاه ، يا صباحاه ، أتتكم السودان معها فيلها ، يريدون أن يهدموا كعبتكم ، ويدعوا عزكم ، ويبيحوا دماءكم ، وينتهبوا أموالكم ، ويستأصلوا بيضتكم ، فالنجاء النجاء ، ثم قصد إلى عبد المطلب ، فأخبره الأمر كله ، فركب عبد المطلب فرسه ، ثم أمعن جادا في السير حتى هجم على عسكر القوم ، فاستفتح له أبرهة بن الصباح ، وحجر بن شراحيل ، وكانا خلين ، فقالا : لعبد المطلب ارجع إلى قومك ، فأخبرهم وأنذرهم أن هذا قد جاءكم حميا أتيا ، فقال عبد المطلب : واللات و العزى ، لا أرجع حتى أرجع معي بخيلي ، ولقاحي ، فلما عرفا أنه غير راجع ونازع عن قوله قصدا به إلى النجاشي ، فقالا : كهيئة المستهزئين يستهزئان به : أيها الملك ، أردد عليه إبله وخيله ، فإنما هو وقومه لك بالغداة ، فأمر بردها .

فقال عبد المطلب للنجاشي : هل لك إلى أن أعطيك أهلي ومالي ، وأهل قومي ، وأموالهم ، ولقاحهم على أن تنصرف عن كعبة الله ؟ قال : لا ، فسار عبد المطلب بإبله وخيله ، حتى أحرزها ، ونزل النجاشي ذا المجاز ، موضع سوق الجاهلية ، ومعه من العدد والعدة كثير ، وانذعرت قريش وأعروا مكة ، فلحقوا بجبل حراء وثبير ، وما بينها من الجبال ، وقال عبد المطلب لقريش : واللات ، والعزى لا أبرح البيت حتى يقضي الله قضاءه ، فقد نبأني أجدادي أن للكعبة ربا يمنعها ، ولن تغلب النصرانية ، وهذه الجنود جنود الله ، وبمكة يومئذ أبو مسعود الثقفي جد المختار ، وكان مكفوف البصر ، يقيظ بالطائف ، ويشتو بمكة ، وكان رجلا نبيلا تستقسم الأمور برأيه ، وهو أول فاتق ، وأول راتق ، وكان خلا لعبد المطلب ، فقال له عبد المطلب : يا أبا مسعود ، ماذا عندك هذا يوم لا يتغنى عن رأيك ، قال له أبو مسعود : اصعد بنا الجبل حتى نتمكن فيه ، فصعدا الجبل فتمكنا فيه ، فقال أبو مسعود لعبد المطلب : اعمد إلى ما ترى من إبلك ، فاجعلها حرما لله ، وقلدها نعالا ، ثم أرسلها في حرم الله ، فلعل بعض هؤلاء السودان أن يعقروها ، فيغضب رب هذا البيت ، فيأخذهم عند غضبه ، ففعل ذلك عبد المطلب ، فعمد القوم إلى تلك الإبل ، فحملوا عليها وعقروا بعضها ، فقال عبد المطلب عند ذلك ، وهو يبكي :

يا رب إن العبد يمنع رح*** له فأمنع حلالك

لا يغلبن صليبهم ومحا*** لهم عدوا محالك

فإن كنت تاركهم وكع*** بتنا فأمر ما بدالك

فلم أسمع بأرجس من رجال*** أرادوا العز فانتهكوا حرامك

ثم دعا عليهم فقال : اللهم أخز الأسود بن مقصود ، الآخذ الهجمة بعد التقليد ، قلبها إلى طماطم سود ، بين ثبير فالبيد ، والمروتين والمشاعر السود ، ويهدم البيت الحرم المصمود ، قد أجمعوا ألا يكون لك عمود ، أخفرهم ربي فأنت محمود .

فقال أبو مسعود : إن لهذا البيت ربا يمنعه منعة ، ونحن له فلا ندري ما منعه ، فقد نزل تبع ملك اليمن بصحن هذا البيت ، وأراد هدمه ، فمنعه الله عن ذلك ، وابتلاه وأظلم عليهم ثلاثة أيام ، فلما رأى ذلك تبع كساه الثياب البيض من الشطرين وعظمه ، ونحر له جزرا ، ثم قال أبو مسعود لعبد المطلب : انظر نحو البحر ما ترى ؟ فقال أرى طيرا بيضا قد انساب مع شاطئ البحر ، فقال : ارمقها ببصرك أين قرارها ؟ قال : أراها قد أزرت على رءوسنا ، فقال : هل تعرفها ؟ قال : لا والله ما أعرفها ، ما هي بنجدية ، ولا تهامية ، ولا غربية ، ولا شرقية ، ولا يمانية ، ولا شامية ، وإنها تطير بأرضنا غير مؤنسة .

قال : ما قدرها ؟ قال : أشباه اليعاسيب في مناقيرها الحصى كأنها حصى الخذف قد أقبلت ، وهي طير أبابيل يتبع بعضها بعضا ، أمام كل رفقة منها طائر يقودها أحمر المنقار ، أسود الرأس ، طويل العنق ، حتى إذا جازت بعسكر القوم ركدن فوق رءوسهم ، فلما توافتها الرعال كلها هالت الطير ما في مناقيرها من الحجارة على من تحتها ، يقال : إنه كان مكتوبا على كل حجر اسم صاحبه ، ثم إنها عادت راجعة من حيث جاءت ، فقال أبو مسعود : لأمر ما هو كائن ، فلما أصبحا انحطا من ذروة الجبل إلى الأرض فمشيا ربوة أو ربوتين ، فلم يؤنسا أحدا ، ثم دنوا فمشيا ربوة ، أو ربوتين أيضا ، فلم يسمعا همسا ، فقالا : عند ذلك بات القوم سامدين فأصبحوا نياما لا يسمع لهم ركزا ، وكانا قبل ذلك يسمعان صياحهم ، وجلبة في أسواقهم ، فلما دنيا من عسكرهم ، فإذا هم خامدون ، يقع الحجر في بيضة الرجل فيخرقها ، حتى يقع في دماغه ، ويخرق الفيل والدابة ، حتى يغيب في الأرض من شدة وقعه ، فعمد عبد المطلب ، فأخذ فأسا من فئوسهم فحفر حتى عمق في الأرض وملأه من الذهب الأحمر والجوهر الجيد ، وحفر أيضا لصاحبه فملأه من الذهب والجوهم .

ثم قال لأبي مسعود : هات خاتمك ، واختر أيهما شئت ، خذ إن شئت حفرتي ، وإن شئت حفرتك ، وإن شئت فهما لك ، فقال أبو مسعود : اختر لي ، فقال عبد المطلب : إني لم أجعل أجود المتاع في حفرتي وهي لك ، وجلس كل واحد منهما على حفرة صاحبه ، ونادى عبد المطلب في الناس ، فتراجعوا فأصابوا من فضلهما حتى ضاقوا به ذرعا ، وساد عبد المطلب بذلك قريشا ، وأعطوه المقادة ، فلم يزل عبد المطلب وأبو مسعود وأهلوهما في غنى من ذلك المال ، ودفع الله عز وجل عن كعبته وقبلته وسلط عليهم جنودا لا قبل لهم بها ، وكان لهم بالمرصاد والأخذة الرابية ، وأنزل فيهم { ألم تر } يعني يخبر نبيه صلى الله عليه وسلم { كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } يعني الأسود بن مقصود ، ومن معه من الجيش وملوك العرب .