قوله تعالى : { ألم تر كيف فعل ربك بأصاحب الفيل } إلى آخرها .
قوله : { ألم تر } : تكون بمعنى التعجب ، وتكون بمعنى التفخيم ، وبمعنى التهويل والتعظيم .
والمعنى : ألم تر يا محمد بعين قلبك كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ؟ ! وهو ملك اليمن [ أبرهة ] ( {[77521]} ) الحبشي ، وكان تحت يد( {[77522]} ) النجاشي ، أتى مع جنده إلى بيت الله الحرام ليخربه ، وكان سبب إتيانه ما ذكره ابن إسحاق وغيره في حكاية طويلة أنا أذكر معناها( {[77523]} ) ، على اختصار إن شاء الله .
وذلك أن أبرهة بنى [ لملك الحبشة ] ( {[77524]} ) كنيسة بصنعاء ، وكان نصرانيا ، وسماها القليس ، وكتب إلى النجاشي ملك الحبشة أني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة ، ووصفها ومدحها ( له ) ( {[77525]} ) وقال : إني لست بمنته( {[77526]} ) حتى أصرف إليها حاج العرب ، فبلغ ذلك العرب( {[77527]} ) من قول أبرهة ، فغضب رجل من العرب لذلك( {[77528]} ) ، فذهب حتى أتى الكنيسة فأحدث فيها ثم رجع إلى قومه ، فأخبر أبرهة بذلك ، فقال : من صنع هذا ؟ ! فقيل له : صنعه رجل من أهل هذا البيت الذي يحج إليه بمكة . فغضب عند ذلك أبرهة وحلف [ ليسيرن ] ( {[77529]} ) إلى البيت وليهدمه .
ثم إن أبرهة وجه رجلا من العرب يدعو العرب لحج الكنيسة التي بنى أبرهة ، فقتلته [ العرب ] ( {[77530]} ) ، فبلغ ذلك أبرهة فزاد غيظا [ وحنفا ] ( {[77531]} ) على البيت وعلى من قتل رسوله من العرب ، فحلف ليغزون قاتلي رسوله ، -قيل( {[77532]} ) : هم بنو كنانة- ، وحلف ليهدمن البيت .
ثم تأهب ( مع ) ( {[77533]} ) الحبشان( {[77534]} ) وخرج ( [ لهدم ] ( {[77535]} ) البيت وغزو بني كنانة . وخرج ) ( {[77536]} ) معهم( {[77537]} ) ، بالفيل ، فاجتمع( {[77538]} ) ، عليه بعض العرب لتقاتله وترجه عن مذهبه ومراده فهزمهم( {[77539]} ) أبرهة وأسر رئيسهم –واسمه ذو نفر- فأراد قتله ثم تركه [ وثقفه ] ( {[77540]} ) معه ، ثم إليه نفيل بن حبيب [ الختعمي ] ( {[77541]} ) في قبيلتي ختعم ، فقاتله فهزمه أبرهة وأسره وعفا عنه ولم يقتله .
فلما مر بالطائف ، خرج إليه مسعود بن معتبٍ( {[77542]} ) في رجال ثقيف وطلبوا منه السلم ، فأعطاهم السلام( {[77543]} ) ووجهوا معه أبا رغال( {[77544]} ) ، [ فخرج معه أبو رغال ] ( {[77545]} ) حتى أنزله المغمس( {[77546]} ) ، ثم مات أبو رغال بالمغمس( {[77547]} ) فدفن هناك ، فالعرب ترجم قبره من ذلك الوقت( {[77548]} ) إلى الآن( {[77549]} ) .
ثم إن أبرهة وجه بخيل على نحو مكة ، [ فاستاقت ] ( {[77550]} ) له أموال أهل مكة . وكان لعبد المطلب ( فيها ) ( {[77551]} ) [ مائتا ] ( {[77552]} ) بعير ، وكان سيد( {[77553]} ) قريش ( يومئذ ) ( {[77554]} ) .
فهمت قريش ومن يقرب منهم من العرب [ بقتال ] ( {[77555]} ) أبرهة ، ثم علموا أنهم لا طاقة / لهم به ، فتركوا [ ذلك ]( {[77556]} ) .
ثم إن أبرهة وجه إلى مكة يقول( {[77557]} ) [ لرئيسها ] ( {[77558]} ) : إني لم آت لحربكم ، إنما جئت لهم البيت ، فإن لم تعرضوا دونه [ لي ] ( {[77559]} ) بحرب فلا حاجة لي بدمائكم . وأمره( {[77560]} ) أن يأتيه [ بالرئيس ] ( {[77561]} ) إن كان لا يريد حربه ، ( فأتى [ الرئيس ] ( {[77562]} ) ، وسأل عن [ رئيس ] ( {[77563]} ) القوم فدل على عبد المطلب ، فبلغه الرسالة ، فقال عبد المطلب : والله ، ما نريد حربه ) ( {[77564]} ) ، وما لنا بذلك من طاقة ، هذا بيت الله وبيت خليله إبراهيم عليه السلام ، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه ، وإن لم يحل بينه وبينه ، فهو الله ما عندنا( {[77565]} ) من دفع( {[77566]} ) عنه . فقال الرسول لعبد المطلب : ( انطلق( {[77567]} ) على أبرهة ، فإنه قد أمرني أن تأتي( {[77568]} ) بك ، فانطلق معه عبد المطلب ) ( {[77569]} ) ومعه بعض بنيه ، فلما أتى عبد المطلب ( العسكر ، سأل عن ذي نفر – وكان له صديقا- فسأله عبد المطلب ) ( {[77570]} ) عن [ رأي ] ( {[77571]} ) –أو أمر( {[77572]} )- [ يشير به ] ( {[77573]} ) ، فما( {[77574]} ) وجد عنده فرجا ، واعتذر إليه بأنه مثقف محبوس( {[77575]} ) ، لكنه قال لعبد المطلب إن سائس الفيل [ لي ] ( {[77576]} ) صديق ، [ فسأرسل إليه( {[77577]} ) وأوصيه ] ( {[77578]} ) بك وأعظم عليه حقك ، وسأله أن يست أذن لك على الملك فتكلمه في ما( {[77579]} ) تريد ، ويشفع لك عنده إن قدر .
ثم بعث( {[77580]} ) ذو نفر إلى سائس الفيل فأوصاه بما وعد به عبد المطلب ، ففعل سائس الفيل ذلك ، واستأذن له على أبرهة ( عظمه في عين أبرهة )( {[77581]} ) ومدحه ، فأذن له أبرهة ، -وكان عبد المطلب رجلا وسيما عظيما- ، فلما رآه أبرهة أجلّه وأكرمه ، وكان أمر( {[77582]} ) أن يجلس تحته وكره أن تراه الحبشة [ يجلسه ] ( {[77583]} ) [ معه ] ( {[77584]} ) على سرير ملكه ، فنزل أبرهة عن سريره وجلسه على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه ، ثم قال لترجماته : قل له : ما حاجتك إلى الملك ؟ فقال( {[77585]} ) له عبد المطلب : حاجتي أن يرد( {[77586]} ) علي مائتي بعير ، فلما قالها الترجمان لأبرهة ، قال أبرهة للترجمان : قل له : قد كنت أعجبتني جين رأيتك ، ثم زهدت فيك حين كلمتني . [ أتكلمني ] ( {[77587]} ) في مائتي بعير أخذتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك وجئت لأهدمه فلا تكلمني فيه ؟ ! فقال له عبد المطلب : ( إني [ أنا ] ( {[77588]} ) رب الإبل ، وإن للبيت ربا سيمنعه ، فقال أبرهة : ما كان ليمنع مني ، قال له عبد المطلب( {[77589]} ) : أنت وذاك( {[77590]} ) ، اردد علي إبلي ، فرد عليه إبله وانصرف عبد المطلب إلى قريش ، فحذرهم وأمرهم بالخروج من( {[77591]} ) مكة والتحرز في شعب الجبال والشعاب تخوفاً عليهم من الحبش( {[77592]} ) .
ثم قال عبد المطلب وأخذ بحلقه باب الكعبة ، وقام معه نفر من قريش يدعون الله( {[77593]} ) ويستنصرونه على أبرهة وجنده . فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقه( {[77594]} ) باب الكعبة :
يارب أرجوا لهم سواكا *** فامنع منهم حماكا
إن عدو البيت من عاداكا( {[77595]} ) *** إن عدو البيت من عاداكا( {[77596]} ) .
ثم ذهب عبد المطلب ومن معه من قريش إلى شعب الجبال يتحرزون( {[77597]} ) فيها وينتظرون( {[77598]} ) ما أبرهة فاعل( {[77599]} ) .
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة [ وهيأ ] ( {[77600]} ) فيله وعبر( {[77601]} ) جيشه وهو مجمع على هدم البيت والانصراف إلى اليمين .
فلما وجهوا الفيل –واسمه : مَحْمود- أقبل( {[77602]} ) نفيل بن حبيب [ الختعمي ] ( {[77603]} ) حتى قام إلى جنب الفيل ( وأخذ بأذنه ) ( {[77604]} ) وقال : ابرك محمود وارجع راشدا من حيث جئت ، فإنك في بلد الله الحرام ، ثم أرسل أذنه ، فبرك الفيل وهرب نُفَيل حتى اصعد( {[77605]} ) في الجبل ، فضربوا الفيل ليقوم فأبى ، ثم وجهوه راجعا إلى اليمين [ يُهًرول ] ( {[77606]} ) ، ووجهوه( {[77607]} ) إلى الشام ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى مكة فَبَرَك ، فأرسل الله عليهم طيراً أبابيل ، قيل : ( كانت ) ( {[77608]} ) مثل الخطاطيف ، أرسلها عليهم من البحر ، مع كل طير ثلاثة أحجار ، حجر في منقاره( {[77609]} ) وحجران في رجليه ، كل حجر مثل الحمص أو العدس ، [ لا تصيب أحدا منهم ] ( {[77610]} ) إلا هلك . ولم [ تصبهم ] ( {[77611]} ) كلهم . ، بل أصابت من شاء الله منهم ، فخرجوا هاربين [ يبتدرون ] ( {[77612]} ) الطريق الذي منه جاؤوا يسألون عن نُفَيْل بن حبيب ليدلهم على الطريق على اليمين ، فقال نفيل بن حبيب حين رأى ما أنزل الله بهم من نقمته :
أين المفر والإله الغالب( {[77613]} ) *** والأشرم المغلوب غير الغالب
فهربوا يتساقطون ويهلكون في كل منهل ، وأصيب أبرهة في جسده ، فخرجوا به [ معهم ] ( {[77614]} ) [ تسقط ] ( {[77615]} ) أنامله أنملة ، كلما سقطت [ منها ] ( {[77616]} ) /أنملة اتبعتها مدة( {[77617]} ) بقيح/ ، ودم حتى قدموا صنعاء وهو مثل فرخ الطير ، فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه . ولول ما رئيت الحصبة والجدري( {[77618]} ) بأرض العرب من ذلك العام ، وهو أول ما رئي ( من ) ( {[77619]} ) . الشجر [ المر ] ( {[77620]} ) مثل الحنطل والحرمل والعُشَر( {[77621]} ) ، فذلك قوله تعالى : { ألم يجعل كيدهم في تضليل } .