الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

مكية ، آياتها خمس .

روي أنّ أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي بنى كنيسة بصنعاء وسماها القُليس ، وأراد أن يصرف إليها الحاج ، فخرج رجل من كنانة فقعد فيها ليلاً ، فأغضبه ذلك . وقيل : أججت رفقة من العرب نارا فحملتها الريح فأحرقتها ، فحلف ليهدمنّ الكعبة ، فخرج بالحبشة ومعه فيل له اسمه محمود ، وكان قوياً عظيماً ، واثنا عشر فيلاً غيره . وقيل : ثمانية ، وقيل : كان معه ألف فيل ، وقيل : كان وحده ؛ فلما بلغ المغمس خرج إليه عبد المطلب وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع ، فأبى وعبأ جيشه وقدّم الفيل ، فكانوا كلما وجهوه إلى الحرم برك ولم يبرح ، وإذا وجهوه إلى اليمن أو إلى غيرها من الجهات هرول ؛ فأرسل الله طيراً سوداً . وقيل : خضراً ، وقيل : بيضاً ، مع كل طائر حجر في منقاره ، وحجران في رجليه أكبر من العدسة ، وأصغر من الحمصة . وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رأى منها عند أم هانيء نحو قفيز مخططة بحمرة كالجزع الظفارى ، فكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره ، وعلى كل حجر اسم من يقع عليه ، ففروا فهلكوا في كل طريق ومنهل ؛ ودوى أبرهة فتساقطت أنامله وآرابه ، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه . وانفلت وزيره أبو يكسوم وطائره يحلق فوقه ، حتى بلغ النجاشي فقص عليه القصة ، فلما أتمّها وقع عليه الحجر فخرّ ميتاً بين يديه . وقيل : كان أبرهة جدّ النجاشي الذي كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة ، وقيل : بثلاث وعشرين سنة . وعن عائشة رضي الله عنها : رأيت قائد الفيل وسائسه أعميين مقعدين يستطعمان . وفيه أن أبرهة أخذ لعبد المطلب مائتي بعير ، فخرج إليه فيها ، فجهره وكان رجلاً جسيماً وسيماً . وقيل : هذا سيد قريش وصاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال ، فلما ذكر حاجته قال : سقطت من عيني ، جئت لأهدم البيت الذي هو دينك ودين آبائك وعصمتكم وشرفكم في قديم الدهر ، فألهاك عنه ذود أخذ لك ؛ فقال : أنا رب الإبل ، وللبيت رب سيمنعه ، ثم رجع وأتى باب البيت فأخذ بحلقته وهو يقول :

لاَهُمَّ إنَّ المَرْءَ يَمْ *** نَعُ رحله فَامنَعْ حَلاَلَكْ

لاَ يغْلِبَنَّ صَليبُهُم *** وَمُحَالُهُمْ عَدْواً مْحَالَكْ

إنْ كُنْتَ تَارِكَهُمْ وَكَع *** بَتَنَا فَأَمْرٌ مَا بَدَا لَكْ

يَا رَبِّ لاَ أَرْجُو لَهُمْ سِوَاكَا *** يَا رَبِّ فَامْنَعْ مِنْهُمُ حِمَاكَا

فالتفت وهو يدعو فإذا هو بطير من نحو اليمن فقال : والله إنها لطير غريبة ما هي ببحرية ولا تهامية . وفيه : أنّ أهل مكة قد احتووا على أموالهم ، وجمع عبد المطلب من جواهرهم وذهبهم الجور ، وكان سبب يساره . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سئل عن الطير فقال : حمام مكة منها .

وقيل : جاءت عشية ثم صبحتهم . وعن عكرمة : من أصابته جدّرته وهو أوّل جدري ظهر . وقرىء : «ألم تر » بسكون الراء للجد في إظهار أثر الجازم ، والمعنى : أنك رأيت أثار فعل الله بالحبشة ، وسمعت الأخبار به متواترة ، فقامت لك مقام المشاهدة . و { كَيْفَ } في موضع نصب بفعل ربك ، لا بألم تر ؛ لما في { كَيْفَ } من معنى الاستفهام .