غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

( سورة الفيل مكية ، حروفها ستة وتسعون ، كلمها ثلاث وعشرون ، آياتها خمس ) .

التفسير : روي أن أبرهة ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي بني كنيسة بصنعاء ، وأراد أن يصرف إليها الحاج ، فخرج من كنانة فتغوط فيها ليلاً فأغضبه ذلك . وقيل : أججت رفقة من العرب ناراً فحملتها الريح فأحرقتها ، فحلف ليهدمنّ الكعبة ، فخرج بجيشه ومعه فيل له اسمه محمود ، وكان قوياً عظيماً . وقيل : كان معه اثنا عشر فيلاً غيره . وقيل : ألف فيل ، فلما بلغ قريباً من مكة خرج إليه عبد المطلب وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع فأبى ، وعبى جيشه وقدم الفيل ، فكانوا كلما وجهوه إلى الحرم برك ولم يبرح ، وإذا وجهوه إلى اليمن أو إلى غيره من الجهات هرول ، فأرسل الله تعالى عليهم طيراً سوداً أو خضراً أو بيضاً أو بلقاً كالخطاطيف على اختلاف الأقاويل ، مع كل طير حجر في منقاره وحجران في رجليه أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة . قال ابن عباس : إني رأيت منها عند أم هانئ نحو قفيز مخططة محمرة كالجزع الظفاري ، وكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره ، وعلى كل حجر اسم من يقع عليه ، ففروا فهلكوا في كل طريق ، ومرض أبرهة فتساقطت أنامله وآرابه ، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ، وانفلت وزيره أبو يكسوم وطائر يحلق فوقه حتى بلغ النجاشي فقص عليه القصة ، فلما أتمها وقع عليه الحجر فخر ميتاً بين يديه . وعن عائشة : رأيت قائد الفيل وسائسه أعميين مقعدين يستطعمان . قال أهل التاريخ : كان أبرهة جد النجاشي الذي عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان بين عام الفيل وبين المبعث نيف وأربعون سنة ، وكان قد بقي بمكة جمع شاهدوا تلك الواقعة ، وقد بلغت حد التواتر حينئذ ، فما ذاك إلا إرهاص للرسول صلى الله عليه وسلم . وزعمت المعتزلة أنها كانت معجزة لنبي قبله كخالد بن سنان أو قس بن ساعدة . ويروى أن أبرهة أخذ لعبد المطلب مائتي بعير فخرج إليه يطلبها ، وقيل لأبرهة : هذا سيد قريش وصاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال . وكان عبد المطلب رجلاً جسيماً وسيماً فعظم في عين أبرهة ، فلما ذكر حاجته قال : سقطت من عيني ، جئت لأهدم البيت الذي هو دينك ودين آبائك وعصمتكم وشرفكم من قديم الدهر فألهاك عنه ذود أخذ لك . فقال : أنا رب الإبل ، وللبيت رب سيمنعه . ثم رجع وأتى باب البيت فأخذ بحلقته وهو يقول :

لا هم إن المرء يم *** نع رحله فامنع حلالك

لا يغلبن صليبهم *** ومحالهم عدواً ومحالك

الحلال جمع حل وهو الموضع الذي يحل فيه الناس ، والمحال المماكرة ، كقوله { وهو شديد المحال }

[ الرعد :13 ] ثم قال :

إن كنت تاركهم وكع *** بتنا فأمر ما بدا لك

وقال أيضاً :

يا رب فامنع منهم حماكا *** يا رب لا أرجو لهم سواكا

فالتفت فإذا هو بطير من نحو اليمن فقال : والله إنها لطير غريبة ما هي بنجدية ولا تهامية ، فأهلكتهم كما ذكرنا . ثم إن أهل مكة قد احتووا على أموالهم ، وجمع عبد المطلب منها ما صار سبب يساره . وسئل أبو سعيد الخدري عن الطير فقال : حمام مكة منها . وقيل : جاءت عشية ثم صبحتهم هلكى . وعن عكرمة : من أصابته أصابه جدري ، وهو أول جدري ظهر في الأرض .

ولنرجع إلى تفسير الألفاظ . وإنما لم يقل " ألم تعلم " إما لأن الخطاب لكل راء ، أو لأنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم علماً كالمشاهد المرئي لتواتره ولقرب عهده به . قال النحويون : قوله { كيف } مفعول فعل ؛ لأن الاستفهام يقتضي صدر الكلام ، فيقدم على فعله بالضرورة . ثم إن قوله { ألم تر } وقع على مجموع تلك الجملة . وقال في الكشاف : { كيف } في موضع نصب ب { فعل ربك } لا { بألم تر } لما في { كيف } من معنى الاستفهام . قلت : أما قول صاحب الكشاف في غاية الإجمال ؛ لأن المنصوبات بالفعل أنواع شتى . وأما قول غيره فقريب من الإجمال ؛ لأن المفاعيل خمسة ، والقول المبين فيه أنه مفعول مطلق ، والمعنى فعل أي فعل يعني فعلاً ذا عبرة لأولي الأبصار . وتقدير الكلام : ألم تر ربك -أو إلى ربك- كيف فعل بأصحاب الفيل فعلاً كاملاً في باب الاعتبار ؛ لأنه خلق الطيور وجعل طبع الفيل على خلاف ما كان عليه ، واستجاب دعاء أهل الشرك تعظيماً لبيته ، وإن أريد بالفعل المفعول لم يبعد أن يكون مفعولاً به كقولك " يفعل ما يشاء " . وفي قوله { ربك } إشارة إلى أني ربيتك وحفظت البيت لشرف قومك وهم كفرة ، فكيف أترك تربيتك بعد ظهورك وإسلام أكثر قومك ؟ وفي القصة إشارة إلى أني حفظت البيت وهو موضع العلم للعالم ، أفلا أحفظ العالم وهو من المسجد كالدر من الصدف ؟ فمن أراد تخريب البيت وهدمه وكسره دمرته ، فالذي همزه ولمزه في العالم وهو المقصود من البيت أفلا أدمره ؟ وهاهنا تظهر المناسبة بين هذه السورة والسورة المتقدمة ، وهذه القصة تجري مجرى مثال آخر لخسران الإنسان . قال بعضهم : إنما قال { أصحاب الفيل } ولم يقل : أرباب الفيل ، أو ملاك الفيل ؛ لأن الصاحب يكون من جنس القوم ، فكأنه أشار إلى أنهم من جنس البهائم ؛ بل هم أضل ؛ لأن الفيل كان لا يقصد البيت ، ويقول بلسان الحال : لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وأنهم لم يفهموا رمزه . سؤال : أليس أن كفار مكة ملؤوا البيت من الأوثان ؟ ألم يكن أفحش من تخريب الجدران ؟ ثم إنه تعالى لم يسلط عليهم الطير ، الجواب : قال بعضهم : وضع الأوثان في البيت إضاعة حق الله ، وتخريب الجدران تعدٍ على الخلق ، وإنه تعالى يقدم حق العباد على حق نفسه ، ولهذا أمر بقتل قاطع الطريق والقاتل وإن كانا مسلمين ، ولا يأمر بقتل الشيخ الكبير والأعمى وصاحب الصومعة والمرأة وإن كانوا كفاراً ؛ لأنهم لا يتعدى ضررهم إلى الخلق .

وأقول : لا نسلم أنه تعالى لم يسلط على كفار مكة عذابه ؛ لأنه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقتلهم وسبي ذراريهم ونسائهم .

/خ5