التفسير : روي أن أبرهة ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي بني كنيسة بصنعاء ، وأراد أن يصرف إليها الحاج ، فخرج من كنانة فتغوط فيها ليلاً فأغضبه ذلك . وقيل : أججت رفقة من العرب ناراً فحملتها الريح فأحرقتها ، فحلف ليهدمنّ الكعبة ، فخرج بجيشه ومعه فيل له اسمه محمود ، وكان قوياً عظيماً . وقيل : كان معه اثنا عشر فيلاً غيره . وقيل : ألف فيل ، فلما بلغ قريباً من مكة خرج إليه عبد المطلب وعرض عليه ثلث أموال تهامة ليرجع فأبى ، وعبى جيشه وقدم الفيل ، فكانوا كلما وجهوه إلى الحرم برك ولم يبرح ، وإذا وجهوه إلى اليمن أو إلى غيره من الجهات هرول ، فأرسل الله تعالى عليهم طيراً سوداً أو خضراً أو بيضاً أو بلقاً كالخطاطيف على اختلاف الأقاويل ، مع كل طير حجر في منقاره وحجران في رجليه أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة . قال ابن عباس : إني رأيت منها عند أم هانئ نحو قفيز مخططة محمرة كالجزع الظفاري ، وكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره ، وعلى كل حجر اسم من يقع عليه ، ففروا فهلكوا في كل طريق ، ومرض أبرهة فتساقطت أنامله وآرابه ، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ، وانفلت وزيره أبو يكسوم وطائر يحلق فوقه حتى بلغ النجاشي فقص عليه القصة ، فلما أتمها وقع عليه الحجر فخر ميتاً بين يديه . وعن عائشة : رأيت قائد الفيل وسائسه أعميين مقعدين يستطعمان . قال أهل التاريخ : كان أبرهة جد النجاشي الذي عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان بين عام الفيل وبين المبعث نيف وأربعون سنة ، وكان قد بقي بمكة جمع شاهدوا تلك الواقعة ، وقد بلغت حد التواتر حينئذ ، فما ذاك إلا إرهاص للرسول صلى الله عليه وسلم . وزعمت المعتزلة أنها كانت معجزة لنبي قبله كخالد بن سنان أو قس بن ساعدة . ويروى أن أبرهة أخذ لعبد المطلب مائتي بعير فخرج إليه يطلبها ، وقيل لأبرهة : هذا سيد قريش وصاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال . وكان عبد المطلب رجلاً جسيماً وسيماً فعظم في عين أبرهة ، فلما ذكر حاجته قال : سقطت من عيني ، جئت لأهدم البيت الذي هو دينك ودين آبائك وعصمتكم وشرفكم من قديم الدهر فألهاك عنه ذود أخذ لك . فقال : أنا رب الإبل ، وللبيت رب سيمنعه . ثم رجع وأتى باب البيت فأخذ بحلقته وهو يقول :
لا هم إن المرء يم *** نع رحله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم *** ومحالهم عدواً ومحالك
الحلال جمع حل وهو الموضع الذي يحل فيه الناس ، والمحال المماكرة ، كقوله { وهو شديد المحال }
إن كنت تاركهم وكع *** بتنا فأمر ما بدا لك
يا رب فامنع منهم حماكا *** يا رب لا أرجو لهم سواكا
فالتفت فإذا هو بطير من نحو اليمن فقال : والله إنها لطير غريبة ما هي بنجدية ولا تهامية ، فأهلكتهم كما ذكرنا . ثم إن أهل مكة قد احتووا على أموالهم ، وجمع عبد المطلب منها ما صار سبب يساره . وسئل أبو سعيد الخدري عن الطير فقال : حمام مكة منها . وقيل : جاءت عشية ثم صبحتهم هلكى . وعن عكرمة : من أصابته أصابه جدري ، وهو أول جدري ظهر في الأرض .
ولنرجع إلى تفسير الألفاظ . وإنما لم يقل " ألم تعلم " إما لأن الخطاب لكل راء ، أو لأنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم علماً كالمشاهد المرئي لتواتره ولقرب عهده به . قال النحويون : قوله { كيف } مفعول فعل ؛ لأن الاستفهام يقتضي صدر الكلام ، فيقدم على فعله بالضرورة . ثم إن قوله { ألم تر } وقع على مجموع تلك الجملة . وقال في الكشاف : { كيف } في موضع نصب ب { فعل ربك } لا { بألم تر } لما في { كيف } من معنى الاستفهام . قلت : أما قول صاحب الكشاف في غاية الإجمال ؛ لأن المنصوبات بالفعل أنواع شتى . وأما قول غيره فقريب من الإجمال ؛ لأن المفاعيل خمسة ، والقول المبين فيه أنه مفعول مطلق ، والمعنى فعل أي فعل يعني فعلاً ذا عبرة لأولي الأبصار . وتقدير الكلام : ألم تر ربك -أو إلى ربك- كيف فعل بأصحاب الفيل فعلاً كاملاً في باب الاعتبار ؛ لأنه خلق الطيور وجعل طبع الفيل على خلاف ما كان عليه ، واستجاب دعاء أهل الشرك تعظيماً لبيته ، وإن أريد بالفعل المفعول لم يبعد أن يكون مفعولاً به كقولك " يفعل ما يشاء " . وفي قوله { ربك } إشارة إلى أني ربيتك وحفظت البيت لشرف قومك وهم كفرة ، فكيف أترك تربيتك بعد ظهورك وإسلام أكثر قومك ؟ وفي القصة إشارة إلى أني حفظت البيت وهو موضع العلم للعالم ، أفلا أحفظ العالم وهو من المسجد كالدر من الصدف ؟ فمن أراد تخريب البيت وهدمه وكسره دمرته ، فالذي همزه ولمزه في العالم وهو المقصود من البيت أفلا أدمره ؟ وهاهنا تظهر المناسبة بين هذه السورة والسورة المتقدمة ، وهذه القصة تجري مجرى مثال آخر لخسران الإنسان . قال بعضهم : إنما قال { أصحاب الفيل } ولم يقل : أرباب الفيل ، أو ملاك الفيل ؛ لأن الصاحب يكون من جنس القوم ، فكأنه أشار إلى أنهم من جنس البهائم ؛ بل هم أضل ؛ لأن الفيل كان لا يقصد البيت ، ويقول بلسان الحال : لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، وأنهم لم يفهموا رمزه . سؤال : أليس أن كفار مكة ملؤوا البيت من الأوثان ؟ ألم يكن أفحش من تخريب الجدران ؟ ثم إنه تعالى لم يسلط عليهم الطير ، الجواب : قال بعضهم : وضع الأوثان في البيت إضاعة حق الله ، وتخريب الجدران تعدٍ على الخلق ، وإنه تعالى يقدم حق العباد على حق نفسه ، ولهذا أمر بقتل قاطع الطريق والقاتل وإن كانا مسلمين ، ولا يأمر بقتل الشيخ الكبير والأعمى وصاحب الصومعة والمرأة وإن كانوا كفاراً ؛ لأنهم لا يتعدى ضررهم إلى الخلق .
وأقول : لا نسلم أنه تعالى لم يسلط على كفار مكة عذابه ؛ لأنه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقتلهم وسبي ذراريهم ونسائهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.