إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

مكية ، وآيها خمس .

{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بأصحاب الفيل } الخطابُ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، والهمزةُ لتقريرِ رؤيتِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ بإنكارِ عَدَمِها ، وكيفَ معلقةٌ لفعلِ الرؤيةِ منصوبةٌ بما بعدَهَا ، والرؤيةُ عِلْميةٌ ، أيْ ألمْ تعلْم علماً رصيناً متاخماً للمشاهدةِ والعَيَانِ باستماعِ الأخبارِ المتواترةِ ومعاينةِ الآثارِ الظَّاهرةِ ، وَتعليقُ الرؤيةِ بكيفيةِ فعلِه عَزَّ وَجَلَّ لاَ بنفسِه ، بأَنْ يقالَ : ألْم ترَ ما فعلَ ربُّكَ الخ لتهويلِ الحادثةِ ، والإيذانِ بوقوعِها عَلَى كيفيةٍ هائلةٍ ، وهيئةٍ عجيبةٍ دالةٍ عَلَى عظمِ قُدرةِ الله تعالَى ، وكمالِ علمهِ وحكمتِه ، وعزةِ بيتِه ، وشرفِ رسولِه عليهِ الصلاةُ والسلامُ ، فإنَّ ذلكَ منَ الإرهاصاتِ ، لما رُوي أنَّ القصةَ وقعتْ في السنةِ التي ولدَ فيها النبيُّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ ، وتفصيلُها أنَّ أبرهةَ بْنَ الصبَّاحِ الأشرمَ ملكَ اليمنِ مِنْ قبلِ أصحمةَ النجاشيِّ بنَى بصنعاءَ كنيسةً وسَمَّاها القُلَّيْسَ ، وأرادَ أنْ يصرفَ إليها الحاجَّ فخرجَ رجلٌ منْ كِنانةَ فقعدَ فيهَا ليلاً فأغضَبهُ ذلكَ ، وقيلَ : أججتْ رفقةٌ منَ العربِ ناراً فحملتها الريحْ فأحرقتَها ، فحلفَ ليهدمنَّ الكعبةَ ، فخرجَ معَ جيشِه ومعه فيلٌ له اسُمه محمودٌ- وكانَ قوياً عظيماً- واثنا عشرَ فيلاً غيرهُ ، وقيلَ : ثمانيةٌ ، وقيل : ألفٌ ، وقيلَ : كانَ معه وَحْدَهُ ، فلما بلغَ المُغمَّسَ خرجَ إليه عبدُ المطلبِ ، وعرضَ عليه ثلثَ أموالِ تهامةَ ليرجعَ فأبىَ ، وعبَّأَ جيشَهُ ، وقدَّمَ الفيل ، فكانَ كلمَا وجهوه إلى الحرمِ بركَ ولم يبرحْ ، وإذا وجهوه إلى اليمنِ أو إلى غيرِه من الجهاتِ هرولَ ، فأرسلَ الله تعالَى طيراً سُوداً ، وقيلَ : خُضراً ، وقيل : بيضاً ، مع كُلِّ طائرٍ حجرٌ في منقارِه ، وحجرانِ في رجليهِ ، أكبرُ من العدسةِ وأصغرُ من الحِمُصَةِ ، فكانَ الحجرُ يقعُ عَلى رأسِ الرجلِ فيخرجُ من دُبُرهِ ، وعلى كُلِّ حجرٍ اسمُ منْ يقعُ عليهِ ، ففروا فهلكُوا في كلِّ طريقٍ ومنهلٍ . ورويَ أنَّ أبرهةَ تساقطتْ أناملُه وآرابُه{[861]} وما ماتَ حتى انصدعَ صدْرُهُ عن قلبهِ ، وانفلتَ وزيرُهُ أبو يكسومَ وطائرٌ يُحلِّقُ فوقَهُ حتى بلغَ النجاشيِّ فقصَّ عليهِ القصةَ ، فلما أتمَّها وقعَ عليهِ الحجرُ فخرَّ ميتاً بينَ يديِه ، وقيلَ : إنَّ أبرهةَ أخذَ لعبدِ المطلبِ مائتي بعيرٍ ، فخرجَ إليهِ في شأنِها ، فلما رآه أبرهةُ عظُمَ في عينِه ، وكانَ رجُلاً وَسيماً جَسيماً ، وقيلَ : هذا سَيِّدُ قُريشٍ ، وصاحبُ عِيرِ مكةَ الذي يطعمُ الناسَ في السهلِ والوحوشَ في رؤوسِ الجبالِ ، فنزلَ أبرهةُ عن سريرهِ وجلسَ عَلَى بساطِه ، وقيل : أجلَسه مَعَهُ على سريرِه ، ثم قالَ لترجمانِه : قُلْ لَهُ : ما حاجتُكَ ؟ فلما ذكرَ حاجتَهُ قالَ : سقطتَ مِنْ عَينِي حيثُ جئتُ لأهدمَ البيتَ الذي هُوَ دينُكَ ودينُ آبائِك وعصمتُكم وشرفُكم في قديمِ الدهرِ لا تكلمِني فيهِ ، ألهاكَ عنْهُ ذَودٌ{[862]} أخذتُ لكَ . فقالَ عبدُ المطلبِ : أنا ربُّ الإبلِ ، وإنَّ للبيتِ رباً يحميِه ، ثم رجعَ وأتىَ بابَ الكعبةِ فأخذَ بحلقتِه ومعهَ نفرٌ من قريشٍ يدعونَ الله عَزَّ وجَلَّ ، فالتفتَ وهو يدعُو ؛ فإذْ هو بطيرٍ منْ نحوِ اليمنِ فقالَ : والله إنها لطيرٌ غريبةٌ ، مَا هيَ نجديةٌ ولا تهاميةٌ ، فأرسلَ حلقةَ البابِ ، ثمَّ انطلقَ معَ أصحابِه ينتظرونَ ماذَا يفعلُ أبرهةُ ، فأرسلَ الله تعالَى عليهُم الطيرَ ، فكانَ ما كانَ . وقيلَ : كانَ أَبْرهةُ جَدَّ النجاشيِّ الذي كانَ في زمنِ النبيِّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ . وعنْ عائشةَ رضيَ الله عَنْهَا قالتْ : رأيتُ قائدَ الفيلِ وسائسَه أعميينِ مُقعدينِ يستطعمانِ . وقُرِئَ ( أَلم تَرْ ) بسكونِ الراءِ للجدِّ في إظهارِ أثرِ الجازمِ .


[861]:آرابه: أعضاؤه.
[862]:ذود: الذود للقطيع من الإبل الثلاث إلى التسع؛ وقيل: بين الثلاث إلى العشر وقيل أكثر من ذلك أقلها ثلاث وأكثرها ثلاثون.