السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{أَلَمۡ تَرَ كَيۡفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصۡحَٰبِ ٱلۡفِيلِ} (1)

مقدمة السورة:

مكية ، وهي خمس آيات ، وعشرون كلمة ، وستة وتسعون حرفاً .

{ بسم الله } الذي قدّر به في كل شيء عاملة { الرحمن } الذي له النعمة الشاملة { الرحيم } الذي يخص أهل الاصطفاء بالنعمة الكاملة .

وقوله تعالى : { ألم تر } استفهام تعجب ، أي : أعجب { كيف فعل ربك } أي : المحسن إليك { بأصحاب الفيل } فهو خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم ، وهو وإن لم يشهد تلك الواقعة لكن شاهد آثارها وسمع بالتواتر أخبارها ، فكأنه رآها ، وإنما قال تعالى : كيف ؛ لأن المراد ذكر ما فيها من وجوه الدلالة على كمال علم الله وقدرته وعزة بيته ، وشرف رسوله صلى الله عليه وسلم .

وكانت قصة الفيل ما روي أن أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي بنى كنيسة بصنعاء وسماها القليس ، وأراد أن يصرف إليها الحاج ، وكتب إلى النجاشي : إني قد بنيت لك بصنعاء كنيسة لم يبن لملك مثلها ، ولست منتهياً حتى أصرف إليها حج العرب ، فسمع بذلك رجل من بني مالك بن كنانة ، فخرج إليها فدخلها ليلاً فقعد فيها ولطخ بالعذرة قبلتها ، فبلغ ذلك أبرهة فقال : من اجترأ عليّ ؟ فقيل : صنع ذلك رجل من العرب من أهل ذلك البيت ، سمع الذي قلت ، فحلف أبرهة عند ذلك ليسيرن إلى الكعبة حتى يهدمها ، فكتب إلى النجاشي يخبره بذلك ، وسأله أن يبعث إليه بفيله ، وكان له فيل يقال له : محمود ، وكان فيلاً لم ير مثله عظماً وجسماً وقوّة ، فبعث به إليه ، فخرج أبرهة في الحبشة سائراً إلى مكة ، وخرج معه بالفيل واثني عشر فيلاً غيره ، وقيل : ثمانية عشر ، وقيل : كان معه ألف فيل .

وقيل : كان وحده ، فسمعت العرب بذلك فأعظموه ورأوا جهاده حقاً عليهم ، فخرج ملك من ملوك اليمن - يقال له : ذو نفر- بمن أطاعه من قومه ، فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ ذا نفر ، فقال له : أيها الملك استبقني ، فإن استبقائي خير لك من قتلي ، فاستبقاه فأوثقه ، وكان أبرهة رجلاً حليماً . ثم سار حتى إذا دنا من بلاد خثعم خرج له نفيل بن حبيب الخثعمي في خثعم ، ومن اجتمع إليه من قبائل اليمن فقاتلوه فهزمهم وأخذ نفيلاً ، فقال نفيل : أيها الملك إني دليل بأرض العرب ، وهاتان يداي على قومي بالسمع والطاعة ، فاستبقاه ، وخرج معه يدله حتى إذا مرّ بالطائف خرج إليه مسعود بن مغيث في رجال من ثقيف ، فقال : أيها الملك نحن عبيدك ليس عندنا خلاف لك ، إنما تريد البيت الذي بمكة ، نحن نبعث معك من يدلك عليه ، فبعثوا أبا رغال مولى لهم ، فخرج حتى إذا كان بالمغمس مات أبو رغال ، وهو الذي يرجم قبره ، وبعث أبرهة من المغمس رجلاً من الحبشة يقال له : الأسود بن مسعود على مقدمة خيله ، وأمره بالغارة على نعم الناس ، فجمع الأسود إليه أموال الحرم ، وأصاب لعبد المطلب مائتي بعير .

ثم إنّ أبرهة بعث بحناطة الحميري إلى أهل مكة فقال : سل عن شريفها ثم أبلغه ما أرسلك به إليه ، أخبره أني لم آت لقتال ، إنما جئت لأهدم هذا البيت . فانطلق حتى دخل مكة فلقي عبد المطلب بن هاشم فقال : إنّ الملك أرسلني إليك لأخبرك أنه لم يأت لقتال ، إنما جئت لأهدم هذا البيت ثم الانصراف عنكم ، فقال عبد المطلب : ما له عندنا قتال ، ولا لنا به يدانا سنخلي بينه وبين ما جاء إليه ، فإن هذا بيت الله الحرام ، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام ، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه ، وإن يخلّ بينه وبين ذلك فوالله ما لنا به قوّة .

قال : فانطلق معي إلى الملك ، قال بعض العلماء : إنه أردفه على بغلة كان عليها ، وركب معه بنيه ، حتى قدم العسكر ، وكان ذو نفر صديقاً لعبد المطلب ، فأتاه فقال : يا ذا نفر ، هل عندك من غناء فيما نزل بنا ؟ فقال : ما غناء رجل أسير لا يأمن أن يقتل بكرة أو عشياً ؟ ولكن سأبعث إلى أنيس سائس الفيل ، فإنه صديق لي ، فأسأله أن يصنع لك عند الملك ما استطاع من خير ، ويعظم خطرك ومنزلتك عنده ، فأرسل إلى أنيس فأتاه فقال له : إنّ هذا سيد قريش صاحب عين مكة ، يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال ، وقد أصاب الملك له مائتي بعير ، فإن استطعت أن تنفعه عنده فانفعه ، فإنه صديق لي أحبّ ما وصل إليه من الخير .

فدخل أنيس على أبرهة فقال : أيها الملك ، هذا سيد قريش صاحب عين مكة ، يطعم الناس في السهل والوحوش على رؤوس الجبال ، يستأذن عليك ، وأنا أحبّ أن تأذن له فيكلمك ، وقد جاء غير ناصب لك ولا مخالف عليك ، فأذن له ، وكان عبد المطلب رجلاً جسيماً وسيماً ، فلما رآه أبرهة أعظمه وأكرمه وكره أن يجلس معه على السرير ، وأن يجلس تحته ، فهبط إلى البساط فجلس عليه ، ثم دعاه فأجلسه معه .

ثم قال لترجمانه : قل له : ما حاجتك إلى الملك ؟ فقال الترجمان ذلك ، فقال عبد المطلب : حاجتي إلى الملك أن يردّ إليّ مائتي بعير أصابها لي . فقال أبرهة لترجمانه : قل له : قد كنت أعجبتني حين رأيتك ، ولقد زهدت فيك . قال : لِمَ ؟ قال : جئت إلى بيت هو دينك ودين آبائك ، وهو شرفكم وعصمتكم لأهدمه لم تكلمني فيه ، وتكلمني في مائتي بعير أصبتها ؟ قال عبد المطلب : أنا رب الإبل ، وللبيت رب سيمنعه . قال : ما كان ليمنعه مني . قال : فأنت وذاك . فأمر بإبله فردت عليه ، وقيل : عرض عليه عبد المطلب أموال تهامة ليرجع فأبى ، فلما ردت الإبل على عبد المطلب خرج فأخبر قريشاً الخبر ، وأمرهم أن يتفرّقوا في الشعاب ، ويتحرّزوا في رؤوس الجبال تخوّفاً عليهم من معرّة الجيش ، وأتى عبد المطلب الكعبة فأخذ بحلقة الباب ، وجعل يقول :

يا رب لا أرجو سواكا *** يا ربّ فامنع منهم حماكا

إنّ عدوّ البيت من عاداكا *** أمنعهم أن يخربوا قراكا

وقال أيضاً :

لا هم إن المرء يم *** نع رحله فامنع حلالك

لا يغلبن صليبهم *** ومحالهم عدوا محالك

جروا جموع بلادهم *** والفيل كي يسبوا عيالك

عمدوا حماك بكيدهم *** جهلاً وما رقبوا جلالك

إن كنت تاركهم وكع *** بتنا فأمر ما بدا لك

ثم ترك عبد المطلب الحلقة وتوجه في بعض تلك الوجوه مع قومه ، فأصبح أبرهة بالمغمس قد تهيأ للدخول ، وهيأ جيشه ، وهيأ فيله ، فأقبل نفيل إلى الفيل الأعظم ثم أخذ بأذنه ، وقال : أبرك محمود ، وارجع راشداً من حيث جئت ، فإنك في بلد الله الحرام ، فبرك الفيل ، فبعثوه فأبى ، فضربوه بالمعول في رأسه فأبى ، فوجهوه راجعاً إلى اليمن ، فقام مهرولاً ، فوجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك ، فضربوه إلى الحرم فبرك وأبى أن يقوم ، وخرج عبد المطلب يشتدّ حتى صعد الجبل ، فأرسل الله تعالى عليهم ما قصه في قوله سبحانه : { ألم يجعل كيدهم في تضليل } .