قوله تعالى : { سماعون للكذب أكالون للسحت } ، قرأ ابن كثير ، و أبو جعفر ، وأهل البصرة ، والكسائي { السحت } بضم الحاء ، والآخرون بسكونها ، وهو الحرام ، وأصله الهلاك والشدة ، قال الله تعالى : { فيسحتكم بعذاب } [ طه : 61 ] ، نزلت في حكام اليهود كعب بن الأشرف وأمثاله ، كانوا يرتشون ويقضون لمن رشاهم . قال الحسن : كان الحاكم منهم إذا أتاه أحد برشوة جعلها في كمه ، فيريها إياه ويتكلم بحاجته ، فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه ، فيسمع الكذب ، ويأكل الرشوة . وعنه أيضاً قال : إنما ذلك في الحكم إذا رشوته ليحق لك باطلاً ، أو يبطل عنك حقك . فأما أن يعطي الرجل الوالي يخاف ظلمه ليدرأ به عن نفسه فلا بأس ، فالسحت هو الرشوة في الحكم على قول الحسن ، ومقاتل ، وقتادة ، والضحاك ، وقال ابن مسعود : هو الرشوة في كل شيء ، قال ابن مسعود : من شفع شفاعة ليرد بها حقا ، ً أو يدفع بها ظلماً ، فأهدي له فقبل فهو سحت ، فقيل له : يا أبا عبد الرحمن ما كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم ، فقال : الأخذ على الحكم كفر ، قال الله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } [ المائدة :44 ] .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الرحمن بن أبي شريح ، أنا أبو القاسم البغوي ، ثنا علي بن الجعد ، أنا ابن أبي ذئب ، عن الحارث بن عبد الرحمن ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لعن الله الراشي والمرتشي ) .
قال الأخفش : السحت : كل كسب لا يحل .
قوله تعالى : { فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا } ، خير الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في الحكم بينهم إن شاء حكم ، وإن شاء ترك . واختلفوا في حكم الآية اليوم ، هل للحاكم الخيار في الحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا ؟ فقال أكثر أهل العلم : هو حكم ثابت ، وليس في سورة المائدة منسوخ ، وحكام المسلمين بالخيار في الحكم بين أهل الكتاب ، إن شاؤوا حكموا وإن شاؤوا لم يحكموا ، وإن حكموا حكموا بحكم الإسلام ، وهو قول النخعي ، والشعبي ، وعطاء ، وقتادة . وقال قوم : يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بينهم ، والآية منسوخة ، نسخها قوله تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } [ المائدة : 49 ] ، وهو قول مجاهد ، وعكرمة ، وروي ذلك عن ابن عباس ، وقال : لم ينسخ من المائدة إلا آيتان ، قوله تعالى : { لا تحلوا شعائر الله } نسخها قوله تعالى : { اقتلوا المشركين } وقوله : { فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم } نسخها قوله تعالى : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله } فأما إذا تحاكم إلينا مسلم وذمي فيجب علينا الحكم بينهما ، لا يختلف القول فيه ، لأنه لا يجوز للمسلم الانقياد لحكم أهل الذمة .
قوله تعالى : { وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط } ، أي : بالعدل .
قوله تعالى : { إن الله يحب المقسطين } أي العادلين ، روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( المقسطون عند الله على منابر من نور ) .
ثم يمضي في بيان حال القوم ، وما انتهوا إليه من فساد في الخلق والسلوك ، قبل أن يبين لرسول الله [ ص ] كيف يتعامل معهم إذا جاءوا إليه متحاكمين :
( سماعون للكذب ، أكالون للسحت . فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم . وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئاً . وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط ، إن الله يحب المقسطين ) . .
كرر أنهم سماعون للكذب . مما يشي بأن هذه أصبحت خصله لهم . . تهش نفوسهم لسماع الكذب والباطل ، وتنقبض لسماع لحق والصدق . . وهذه طبيعة القلوب حين تفسد ، وعادة الأرواح حين تنطمس . . ما أحب كلمة الباطل والزور في المجتمعات المنحرفه ، وما أثقل كلمة الحق والصدق في هذه المجتمعات . . وما أروج الباطل في هذه الآونه وما أشد بوار الحق في هذه الفترات الملعونه !
وهؤلاء : سماعون للكذب . أكالون للسحت . . والسحت كل مال حرام . . والربا والرشوه وثمن الكلمه والفتوى ! في مقدمة ما كانوا يأكلون ، وفي مقدمة ما تأكله المجتمعات التي تنحرف عن منهج الله في كل زمان ! وسمي الحرام سحتاً لأنه يقطع البركه ويمحقها . وما اشد أنقطاع البركه وزوالها من المجتمعات المنحرفه . كما نرى ذلك بأعيننا في كل مجتمع شارد عن منهج الله وشريعة الله .
ويجعل الله الأمر للرسول بالخيار في أمرهم إذا جاءوه يطلبون حكمه - فإن شاء أعرض عنهم - ولن يضروه شيئاً - وإن شاء حكم بينهم . فإذا اختار أن يحكم حكم بينهم بالقسط ، غير متأثر بأهوائهم ، وغير متأثر كذلك بمسارعتهم في الكفر ومؤامراتهم ومناوراتهم . .
والرسول [ ص ] والحاكم المسلم ، والقاضي المسلم ، إنما يتعامل مع الله في هذا الشأن ؛ وإنما يقوم بالقسط لله . لأن الله يحب المقسطين . فإذا ظلم الناس وإذا خانوا ، وإذا انحرفوا ، فالعدل فوق التأثر بكل ما يصدر منهم . لإنه ليس عدلاً لهم ؛ وإنما هو لله . . وهذا هو الضمان الأكيد في شرع الإسلام وقضاء الإسلام ، في كل مكان وفي كل زمان .
وهذا التخيير في أمر هؤلاء اليهود يدل على نزول هذا الحكم في وقت مبكر . إذ أنه بعد ذلك أصبح الحكم والتقاضي لشريعة الإسلام حتمياً . فدار الإسلام لا تطبق فيها إلا شريعة الله . وأهلها جميعاً ملزمون بالتحاكم إلى هذه الشريعه . مع اعتبار المبدأ الإسلامي الخاص بأهل الكتاب في المجتمع المسلم في دار الإسلام ؛ وهوألا يجبروا إلا على ما هو وارد في شريعتهم من الأحكام ؛ وعلى ما يختص بالنظام العام . فيباح لهم ما هو مباح في شرائعهم ، كامتلاك الخنزير وأكله ، وتملك الخمر وشربه دون بيعه للمسلم . ويحرم عليهم التعامل الربوي لأنه محرم عندهم . وتوقع عليهم حدود الزنا والسرقه لأنها وارده في كتابهم وهكذا . كما توقع عليهم عقوبات الخروج على النظام العام والإفساد في الأرض كالمسلمين سواء ، لأن هذا ضروري لأمن دار الإسلام وأهلها جميعاً : مسلمين وغير مسلمين . فلا يتسامح فيها مع أحد من أهل دار الإسلام . . .
وفي تلك الفترة التي كان الحكم فيها على التخيير ، كانوا يأتون ببعض قضاياهم إلى رسول الله [ ص ] ؛ مثال ذلك ما رواه مالك ، عن نافع ، عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - : " إن اليهود جاءوا إلى رسول الله [ ص ] فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا . فقال لهم رسول الله [ ص ] ما تجدون في التوراه في شأن الرجم ؟ فقالوا : نفضحهم ويجلدون . قال عبدالله بن سلام : كذبتم . إن فيها الرجم . فأتوا بالتوراة فنشروها . فوضع أحدهم يده على آيه الرجم ، فقرأ ما قبلها وما بعدها . فقال عبدالله بن سلام : ارفع يدك . فرفع يده فإذا آية الرجم ! . فقالوا : صدق يا محمد فيها آية الرجم فأمر بهما رسول الله [ ص ] فرجما . فرأيت الرجل يحني على المرأه يقيها الحجارة " . .
[ أخرجه الشيخان واللفظ للبخاري ]
ومثال ذلك ما رواه الإمام أحمد - بإسناده - عن ابن عباس قال :
" أنزلها الله في الطائفتين من اليهود ، وكانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهليه ، حتى ارتضوا واصطلحوا على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا ، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق . فكانوا على ذلك حتى قدم النبي [ ص ] فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا ، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة أن ابعثوا لنا بمائة وسق فقالت الذليلة : وهل كان في حيين دينهما واحد ، ونسبهما واحد ، وبلدهما واحد ، دية بعضهم نصف دية بعض ؟ إنما أعطيناكم هذا ضميا منكم لنا ، وفرقا منكم . فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم ! فكادت الحرب تهيج بينهما . ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله [ ص ] حكما بينهم . ثم ذكرت العزيزة ، فقالت : والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم ، ولقد صدقوا ، ما أعطونا هذا إلا ضيما منا وقهرا لهم ! فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه . . إن أعطاكم ما تريدون حكمتموه ، وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه ! فدسوا إلى رسول الله [ ص ] ناسا من المنافقين ليخبروا لهم رأي رسول الله [ ص ] فلما جاءوا رسول الله [ ص ] أخبر الله رسوله [ ص ] بأمرهم كله وما أرادوا . فأنزل الله تعالى : ( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ) ، إلى قوله : ( الفاسقون ) . . ففيهم والله أنزل ، وإياهم عنى الله عز وجل . . [ أخرجه أبو داود من حديث أبى الزناد عن أبيه ] . . وفي رواية لابن جرير عين فيها " العزيزة " وهي بنو النضير " والذليلة " وهي بنو قريظة . . مما يدل - كما قلنا - على أن هذه الآيات نزلت مبكرة قبل إجلائهم والتنكيل بهم . .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.