لطائف الإشارات للقشيري - القشيري  
{وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (30)

هذا ابتداء إظهار سِرِّه في آدم وذريته . أَمَرَ حتى سلَّ من كل بقعة طينة ثم أمر بأن يخمر طينه أربعين صباحاً ، وكل واحد من الملائكة يفضي العَجَبَ : ما حكم هذه الطينة ؟ فلمَّا ركب صورته لم يكونوا رأوا مثلها في بديع الصنعة وعجيب الحكمة ، فحين قال : { إِنِّى جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ } تَرَجَّمَتْ الظنون ، وتقسَّمت القلوب ، وتجنَّت الأقاويل ، وكان كما قيل :

وكم أبصرتُ من حسن ولكن *** عليك من الورى وقع اختياري

ويقال إن الله سبحانه وتعالى خلق ما خلق من الأشياء ولم يَقُلْ في شأن شيء منه ما قال في حديث آدم حيث قال : { إِنِّى جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً } ، فظاهر هذا الخطاب يشبه المشاورة لو كان من المخلوقين . والحق سبحانه وتعالى خلق الجنان بما فيها ، والعرش بما هو عليه من انتظام الأجزاء وكمال الصورة ، ولم يقل إني خالق عرشاً أو جنة أو مَلَكاً ، وإنما قال تشريفاً وتخصيصاً لآدم إني جاعل في الأرض خليفة .

فصل : ولم يكن قول الملائكة : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } على وجه الاعتراض على التقدير ولكن على جهة الاستفهام ، فإن حَمْلَ الخطاب على ما يُوجِب تنزيه الملائكة أَوْلى لأنهم معصومون . . قال تعالى :{ لاَّ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ }[ التحريم : 6 ] .

ويقال استخرج الحق سبحانه منهم ما استكنَّ في قلوبهم من استعظام طاعاتهم والملاحظة إلى أفعالهم بهذا الخطاب ؛ فأفصحوا عن خفايا أسرارهم بقولهم : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } . ثم إن الحق سبحانه عرَّفهم أن الفضيلة بالعلم أتمُّ من الفضيلة بالفعل ، فهم كانوا أكثر فعلاً وأقدمه ، وآدم كان أكثر علماً وأوفره ، فظهرت فضيلته ومرتبته .

ويقال لم يقل الحق سبحانه أنتم لا تفسدون فيها ولا تسفكون الدماء بل قال : { إِنِّى أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ، مِنْ غفراني لهم .

ويقال : في تسبيحهم إظهارُ فعلهم واشتهار خصائصهم وفضلهم ، ومن غفرانه لمعاصي بني آدم إظهار كرمه سبحانه ورحمته ، والحق سبحانه غني عن طاعات كل مطيع ، فلئن ظهر بتسبيحهم استحقاق تمدحهم ثبت بالغفران استحقاق تمدح الخالق سبحانه .

ويقال إني أعلم ما لا تعلمون من صفاء عقائد المؤمنين منهم في محبتنا ، وذكاء سرائرهم في حفظ عهودنا وإن تدنَّس بالعصيان ظاهرهم ، كما قيل :

وإذا الحبيب أتى بذنب واحدٍ *** جاءت محاسنُه بأَلْفِ شفيع

ويقال إني أعلم ما لا تعلمون من محبتي لهم ، وأنتم تظهرون أحوالكم ، وأنا أخفي عليهم أسراري فيهم ، وفي معناه أنشدوا :

ما حطَّك الواشون عن رتبة *** عندي ولا ضرك مغتاب

كأنهم أثْنَوْا - ولم يعلموا - *** عليك عندي بالذي عابوا

ويقال إني أعلم ما لا تعلمون من انكسار قلوبهم وإن ارتكبوا قبيح أفعالهم ، وصولةَ قلوبكم عند إظهار تسبيحكم وتقديسكم ، فأنتم في رتبة وفاقكم وفي عصمة أفعالكم ، وفي تجميل تسبيحكم ، وهم مُنْكَرون عن شواهدهم ، متذللون بقلوبهم ، وإن لانكسار قلوب العباد عندنا لذماماً قوياً .

ويقال أي خطر لتسبيحكم لولا فضلي ، وأي ضرر من ذنوبهم إذا كان عفوي ؟ ويقال لبَّسْتُكم طاعتكم ولبستهم رحمتي ، فأنتم في صدار طاعتكم وفي حُلَّةِ تقديسكم وتسبيحكم ، وهم في تغمد عفوي وفي ستر رحمتي ألبستهم ثوب كَرَمي ، وجللتهم رداء عفوي .

ويقال إن أسعدتكم عصمتي فلقد أدركتهم رحمتي .

وإيصال عصمتي بكم عنده وجودكم وتعلُّق رحمتي بهم في أزلي .

ويقال : لئن كان مُحسِنْكم عتيق العصمة فإن مجرمَهُم غريق الرحمة .

ويقال : اتكالهم عليَّ زكّى أحوالهم فألجأهم إلى الاعتراف بالجهالة حتى يتبرأوا عن المعارف إلا بمقدار ما منّ به الحق عليهم فقالوا : { سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا } .