تفسير مقاتل بن سليمان - مقاتل  
{وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (30)

{ وإذ } ، يعني وقد { قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } ، وذلك أن الله عز وجل خلق الملائكة والجن قبل خلق الشياطين والإنس ، وهو آدم ، عليه السلام ، فجعلهم سكان الأرض ، وجعل الملائكة سكان السماوات ، فوقع في الجن الفتن والحسد ، فاقتتلوا ، فبعث الله جندا من أهل سماء الدنيا ، يقال لهم : الجن ، إبليس عدو الله منهم ، خلقوا جميعا من نار ، وهم خزان الجنة رأسهم إبليس ، فهبطوا إلى الأرض ، فلم يكلفوا من العبادة في الأرض ما كلفوا في السماء ، فأحبوا القيام في الأرض ، فأوحى الله عز وجل إليهم : إني جاعل في الأرض خليفة سواكم ورافعكم إلي ، فكرهوا ذلك ، لأنهم كانوا أهون الملائكة أعمالا ، { قالوا أتجعل فيها } ، يقول : أتجعل في الأرض { من يفسد فيها } ، يعني من يعمل فيها بالمعاصي { ويسفك الدماء } بغير حق كفعل الجن ، { ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } ، يقول : نحن نذكرك بأمرك ، كقوله سبحانه : { ويسبح الرعد بحمده } ( الرعد : 13 ) يعني يذكره بأمره ، ونقدس لك ونصلي لك ونعظم أمرك .

{ قال } الله سبحانه : { إني أعلم ما لا تعلمون } إن في علمي أنكم سكان السماء ، ويكون آدم وذريته سكان الأرض ، ويكون منهم من يسبح بحمدي ويعبدني ، فخلق آدم ، عليه السلام ، من طين أحمر وأبيض من السبخة والعذبة ، فمن ثم نسله أبيض وأحمر وأسود ، مؤمن وكافر ، فحسد إبليس تلك الصورة ، فقال للملائكة الذين هم معه : أرأيتم هذا الذي لم تروا شيئا من الخلق على خلقته ، إن فضل علي ماذا تصنعون ؟ قالوا : نسمع ونطيع لأمر الله ، وأسر عدو الله إبليس في نفسه ، لئن فضل آدم عليه لا يطيعه وليستزنه ، فترك آدم طينا أربعين سنة مصورا ، فجعل إبليس يدخل من دبره ويخرج من فيه ، ويقول : أنا نار وهذا طين أجوف ، والنار تغلب الطين ولأغلبنه ، فذلك قوله عز وجل : { ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين } ( سبأ : 20 ) يعني قوله يومئذ : لأغلبنه ، وقوله : لأحتنكن ، يعني لأحتوين على ذريته إلا قليلا ، فقال للروح : ادخلي هذا الجسد ، فقالت : أي رب ، أين تدخلني هذا الجسد المظلم ؟ فقال الله تبارك وتعالى : ادخليه كرها ، فدخلته كرها ، وهي لا تخرج منه إلا كرها ، ثم نفخ فيه الروح من قبل رأسه ، فترددت الروح فيه حتى بلغت نصف جسده موضع السرة ، فجعل للقعود ، فذلك قوله تعالى : { وكان الإنسان عجولا } ( الإسراء : 11 ) ، فجعلت الروح تتردد فيه حتى بلغت أصابع الرجلين ، فأرادت أن تخرج منها ، فلم تجد منفذا ، فرجعت إلى الرأس ، فخرجت من المنخرين ، فعطس عند ذلك لخروجها من منخريه ، فقال : الحمد لله ، فكان أول كلامه ، فرد ربه عز وجل : يرحمك الله ، لهذا خلقتك ، تسبح بحمدي وتقدس لي ، فسبقت رحمته لآدم عليه السلام .