الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (30)

{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ } يعني : وقد قال ، وقيل معناه : واذكر إذ قال ربّك ، وكل ما ورد في القرآن من هذا النحو فهذا سبيله .

و( إذ ) و( إذا ) حرفا توقيت ، إلاّ أنّ ( إذ ) للماضي و( إذا ) للمستقبل ، وقد يوضع أحدهما موضع الآخر .

قال المبرّد : إذا جاء ( إذ ) مع المستقبل كان معناه ماضياً نحو قوله : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ } [ الأنفال : 30 ] وإذ يقول ، يريد وإذ مكر وإذ قال ، وإذا وإذ جاء مع الماضي كان معناه مستقبلا كقوله : { فَإِذَا جَآءَتِ الطَّآمَّةُ الْكُبْرَى } [ النازعات : 34 ] { فَإِذَا جَآءَتِ الصَّآخَّةُ } [ عبس : 33 ] { إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ } [ النصر : 1 ] أي يجيء ، وقال الشاعر :

ثمّ جزاه الله عنا إذ جزا *** جنّات عدن والعلا إلى العلا

أي يجزيه . { لِلْمَلاَئِكَةِ } الذين كانوا في الأرض ، والملائكة : الرسل ، واحدها ملك ، وأصله : مالك ، وجمعه : ملائكة ، وهي من الملكة والمالكة والألوك الرسالة ويقال : ألكني الى فلان ، أي كن رسولي إليه فقلبت ، فقيل : ملاك . قال الشاعر :

فلست لأنسيّ لكن لملاك *** تنزّل من جوّ السماء يصوب

ثمّ حذف الهمزة للخفّة وكثير استعماله فقيل : ملك .

قال النضر بن شميل في الملك : إن العرب لا تشتق فعله ولا تصرفه ، وهو مما فات علمه . { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } أي بدلا منكم ورافعكم إليّ ، سُمّي ( خليفة ) لأنه يخلف الذاهب ويجيء بعده ، فالخليفة مَن يتولى إمضاء الأمر عن الآمر ، وقرأ [ زيد بن علي ] : ( خليفة ) بالقاف .

قال المفسرون : وذلك أن الله تعالى خلق السماء والأرض وخلق الملائكة والجن ، فأسكن الملائكة السماء ، وأسكن الجنّ الأرض ، فعبدوا دهراً طويلا في الأرض ثم ظهر فيهم الحسد والبغي ، فاقتتلوا وأفسدوا ، فبعث الله إليهم جنداً من الملائكة يُقال لهم : الجن ، رأسهم عدو الله إبليس وهم خُزّان الجنان اشتق لهم اسم من الجنّة فهبطوا إلى الأرض ، وطردوا الجنّ عن وجهها فالحقوهم بشعوب الجبال ، وجزائر البحر ، وسكنوا الأرض وخفف الله عنهم العبادة ، وأحبّوا البقاء في الأرض لذلك ، وأعطى الله إبليس مُلك الأرض ومُلك سماء الدنيا وخزانة الجنان ، فكان يعبد الله تارةً في الأرض ، وتارةً في السماء ، وتارة في الجنة .

فلما رأى ذلك دخله الكبر والعُجُب ، وقال في نفسه : أعطاني الله هذا الملك إلاّ لأني أكرم الملائكة عليه ، وأعظمهم منزلةً لديه ؛ فلما ظهر الكبر جاء العزل ، فقال الله له ولجنده : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } فلما قال لهم ذلك كرهوا ؛ لأنّهم كانوا أهون في الملائكة عبادة ، ولأنّ العزل شديد . { قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } بالمعاصي . { وَيَسْفِكُ } يصبّ { الدِّمَآءَ } بغير حق .

فإن قيل : كيف علموا ذلك وهو غيب ؟

والجواب عنه ما قال السّدي : لما قال الله لهم ذلك ، قالوا : وما يكون من ذلك الخليفة ؟ قال : تكون له ذرية ، يفسدون في الأرض [ ويتحاسدون ] ويقتل بعضهم بعضاً . قالوا عند ذلك : { أَتَجْعَلُ فِيهَا } ومعناه : فقالوا ، فحذف فاء التنسيق .

كقول الشاعر :

لما رأيت نبطا أنصارا *** شمرّتُ عن ركبتي الأزارا

كنتُ لهم من النّصاري جارا

أي فكنتُ لهم .

وقال أكثر المفسرين : أرادوا كما فعل بنو الجانّ قاسوا بالشاهد على الغائب ، وقال بعض أهل المعاني : فيه إضمار واختصار معناه : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ أم تجعل فيها من لا يفسد ولا يُسفك الدماء ؟ لقوله تعالى : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اللَّيْلِ } [ الزمر : 9 ] يعني كمن هو غير قانت ، وهو اختيار الحسن بن الفضل . { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } .

قال الحسن : يقولون : سبحان الله وبحمده ، وهو صلاة الخلق وتسبيحهم وعليها يُرزقون . يدل عليه الحديث المروي عن أبي ذر " إنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي الكلام أفضل ؟ قال : " ما أصطفاه الله تعالى لملائكته : سبحان الله وبحمده " .

وقيل : معناه : ونحن نصلي لك بأمرك ، والتسبيح يكون بمعنى التنزيه ويكون بمعنى الصلاة ، ومنه قيل : للصلاة سُبحة ، وقيل : معناه : نصلي ، ونقرأ فيها فاتحة الكتاب . { وَنُقَدِّسُ لَكَ } وننزهك واللام صلة ، وقيل : هي لام الأجل ، أي ونطهّر لأجلك قلوبنا من الشرك بك [ وأبداننا ] من معصيتك .

وقال بعض العلماء : في الآية تقديم وتأخير مجازها : ونحن نسبّح ونُقدّس لك بحمدك ؛ لأنّه إذا حُملت الآية على التأويل الأول تنافي قول الملائكة المتزكية بالإدلال بالعمل ، وإذا حُملت على هذا التأويل ضاهى قولهم التحدّث بنعمة الله واضافة [ . . . . . ] إلى الله فكأنّهم قالوا : وأن سبّحنا وقدّسنا وأطعنا وعبدنا فذلك كلهُ بحمدك لا بأنفسنا ، قال الله : { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } من استخلافي في الأرص ووجه المصلحة فيه ، فلا تعترضوا عليّ في حكمي وتدبيري ، وقيل : أراد أني أعلمُ أنّ في من استخلفه في الأرض : أنبياء وأولياء وعلماء وصلحاء ، وقيل : أني أعلم إنّهم يذنبون وأغفر لهم .

قال بعض الحكماء : إنّ الله تعالى أخرج [ أدم ] من الجنّة قبل أنْ يدخله فيها . لقوله { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } ثم كان خروجه من الجنّة بذنبه يدل أنه كان بقضاء الله وقدره .

ابن نجيح عن مجاهد في قوله : { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } قال : علم من إبليس المعصية وخلقه لها .

ابن شهاب عن حميد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " احتج آدم وموسى . فقال له موسى : أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنّة . فقال له آدم : أنت موسى اصطفاك الله لرسالته وكلامه ، ثم تلومني على أمر قُدّر قبل أن أُخلق . فحج آدم موسى " .

فصل في معنى الخليفة

قيل : سأل أمير المؤمنين الخطاب ، طلحة والزبير وكعباً وسلمان : ما الخليفة من الملك ؟ فقال طلحة والزبير : ما ندري . فقال سلمان : الخليفة الذي يعدل في الرّعية ويقسم بينهم بالسّويّة ويشفق عليهم شفقة الرّجل على أهله ويقضي بكتاب الله ، فقال كعب : ما كنتُ أحسب أن في المجلس أحداً يعرف الخليفة من الملك غيري ، ولكنّ الله عزّ وجلّ ملأ سلمان حكماً وعلماً وعدلا .

وروى زاذان عن سلمان : إنّ عمر قال له : أملك أنا أم خليفة ؟ فقال سلمان : إنْ أنت جبيت من أرض المسلمين درهماً أو أقل أو أكثر ووضعته في غير حقّه فأنت ملك . قال : فاستعبر عمر رضي الله عنه .

وعن يونس : إنّ معاوية كان يقول إذا جلس على المنبر : أيّها الناس إنّ الخلافة ليست لجمع المال ولا تفريقه ، ولكنّ الخلافة بالحقّ والحكم بالعدل وأخذ الناس بأمر الله عزّ وجل .