{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ } يعني : وقد قال ، وقيل معناه : واذكر إذ قال ربّك ، وكل ما ورد في القرآن من هذا النحو فهذا سبيله .
و( إذ ) و( إذا ) حرفا توقيت ، إلاّ أنّ ( إذ ) للماضي و( إذا ) للمستقبل ، وقد يوضع أحدهما موضع الآخر .
قال المبرّد : إذا جاء ( إذ ) مع المستقبل كان معناه ماضياً نحو قوله : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ } [ الأنفال : 30 ] وإذ يقول ، يريد وإذ مكر وإذ قال ، وإذا وإذ جاء مع الماضي كان معناه مستقبلا كقوله : { فَإِذَا جَآءَتِ الطَّآمَّةُ الْكُبْرَى } [ النازعات : 34 ] { فَإِذَا جَآءَتِ الصَّآخَّةُ } [ عبس : 33 ] { إِذَا جَآءَ نَصْرُ اللَّهِ } [ النصر : 1 ] أي يجيء ، وقال الشاعر :
ثمّ جزاه الله عنا إذ جزا *** جنّات عدن والعلا إلى العلا
أي يجزيه . { لِلْمَلاَئِكَةِ } الذين كانوا في الأرض ، والملائكة : الرسل ، واحدها ملك ، وأصله : مالك ، وجمعه : ملائكة ، وهي من الملكة والمالكة والألوك الرسالة ويقال : ألكني الى فلان ، أي كن رسولي إليه فقلبت ، فقيل : ملاك . قال الشاعر :
فلست لأنسيّ لكن لملاك *** تنزّل من جوّ السماء يصوب
ثمّ حذف الهمزة للخفّة وكثير استعماله فقيل : ملك .
قال النضر بن شميل في الملك : إن العرب لا تشتق فعله ولا تصرفه ، وهو مما فات علمه . { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } أي بدلا منكم ورافعكم إليّ ، سُمّي ( خليفة ) لأنه يخلف الذاهب ويجيء بعده ، فالخليفة مَن يتولى إمضاء الأمر عن الآمر ، وقرأ [ زيد بن علي ] : ( خليفة ) بالقاف .
قال المفسرون : وذلك أن الله تعالى خلق السماء والأرض وخلق الملائكة والجن ، فأسكن الملائكة السماء ، وأسكن الجنّ الأرض ، فعبدوا دهراً طويلا في الأرض ثم ظهر فيهم الحسد والبغي ، فاقتتلوا وأفسدوا ، فبعث الله إليهم جنداً من الملائكة يُقال لهم : الجن ، رأسهم عدو الله إبليس وهم خُزّان الجنان اشتق لهم اسم من الجنّة فهبطوا إلى الأرض ، وطردوا الجنّ عن وجهها فالحقوهم بشعوب الجبال ، وجزائر البحر ، وسكنوا الأرض وخفف الله عنهم العبادة ، وأحبّوا البقاء في الأرض لذلك ، وأعطى الله إبليس مُلك الأرض ومُلك سماء الدنيا وخزانة الجنان ، فكان يعبد الله تارةً في الأرض ، وتارةً في السماء ، وتارة في الجنة .
فلما رأى ذلك دخله الكبر والعُجُب ، وقال في نفسه : أعطاني الله هذا الملك إلاّ لأني أكرم الملائكة عليه ، وأعظمهم منزلةً لديه ؛ فلما ظهر الكبر جاء العزل ، فقال الله له ولجنده : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } فلما قال لهم ذلك كرهوا ؛ لأنّهم كانوا أهون في الملائكة عبادة ، ولأنّ العزل شديد . { قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } بالمعاصي . { وَيَسْفِكُ } يصبّ { الدِّمَآءَ } بغير حق .
فإن قيل : كيف علموا ذلك وهو غيب ؟
والجواب عنه ما قال السّدي : لما قال الله لهم ذلك ، قالوا : وما يكون من ذلك الخليفة ؟ قال : تكون له ذرية ، يفسدون في الأرض [ ويتحاسدون ] ويقتل بعضهم بعضاً . قالوا عند ذلك : { أَتَجْعَلُ فِيهَا } ومعناه : فقالوا ، فحذف فاء التنسيق .
لما رأيت نبطا أنصارا *** شمرّتُ عن ركبتي الأزارا
وقال أكثر المفسرين : أرادوا كما فعل بنو الجانّ قاسوا بالشاهد على الغائب ، وقال بعض أهل المعاني : فيه إضمار واختصار معناه : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ؟ أم تجعل فيها من لا يفسد ولا يُسفك الدماء ؟ لقوله تعالى : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اللَّيْلِ } [ الزمر : 9 ] يعني كمن هو غير قانت ، وهو اختيار الحسن بن الفضل . { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } .
قال الحسن : يقولون : سبحان الله وبحمده ، وهو صلاة الخلق وتسبيحهم وعليها يُرزقون . يدل عليه الحديث المروي عن أبي ذر " إنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي الكلام أفضل ؟ قال : " ما أصطفاه الله تعالى لملائكته : سبحان الله وبحمده " .
وقيل : معناه : ونحن نصلي لك بأمرك ، والتسبيح يكون بمعنى التنزيه ويكون بمعنى الصلاة ، ومنه قيل : للصلاة سُبحة ، وقيل : معناه : نصلي ، ونقرأ فيها فاتحة الكتاب . { وَنُقَدِّسُ لَكَ } وننزهك واللام صلة ، وقيل : هي لام الأجل ، أي ونطهّر لأجلك قلوبنا من الشرك بك [ وأبداننا ] من معصيتك .
وقال بعض العلماء : في الآية تقديم وتأخير مجازها : ونحن نسبّح ونُقدّس لك بحمدك ؛ لأنّه إذا حُملت الآية على التأويل الأول تنافي قول الملائكة المتزكية بالإدلال بالعمل ، وإذا حُملت على هذا التأويل ضاهى قولهم التحدّث بنعمة الله واضافة [ . . . . . ] إلى الله فكأنّهم قالوا : وأن سبّحنا وقدّسنا وأطعنا وعبدنا فذلك كلهُ بحمدك لا بأنفسنا ، قال الله : { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } من استخلافي في الأرص ووجه المصلحة فيه ، فلا تعترضوا عليّ في حكمي وتدبيري ، وقيل : أراد أني أعلمُ أنّ في من استخلفه في الأرض : أنبياء وأولياء وعلماء وصلحاء ، وقيل : أني أعلم إنّهم يذنبون وأغفر لهم .
قال بعض الحكماء : إنّ الله تعالى أخرج [ أدم ] من الجنّة قبل أنْ يدخله فيها . لقوله { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } ثم كان خروجه من الجنّة بذنبه يدل أنه كان بقضاء الله وقدره .
ابن نجيح عن مجاهد في قوله : { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } قال : علم من إبليس المعصية وخلقه لها .
ابن شهاب عن حميد عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " احتج آدم وموسى . فقال له موسى : أنت آدم الذي أخرجتك خطيئتك من الجنّة . فقال له آدم : أنت موسى اصطفاك الله لرسالته وكلامه ، ثم تلومني على أمر قُدّر قبل أن أُخلق . فحج آدم موسى " .
قيل : سأل أمير المؤمنين الخطاب ، طلحة والزبير وكعباً وسلمان : ما الخليفة من الملك ؟ فقال طلحة والزبير : ما ندري . فقال سلمان : الخليفة الذي يعدل في الرّعية ويقسم بينهم بالسّويّة ويشفق عليهم شفقة الرّجل على أهله ويقضي بكتاب الله ، فقال كعب : ما كنتُ أحسب أن في المجلس أحداً يعرف الخليفة من الملك غيري ، ولكنّ الله عزّ وجلّ ملأ سلمان حكماً وعلماً وعدلا .
وروى زاذان عن سلمان : إنّ عمر قال له : أملك أنا أم خليفة ؟ فقال سلمان : إنْ أنت جبيت من أرض المسلمين درهماً أو أقل أو أكثر ووضعته في غير حقّه فأنت ملك . قال : فاستعبر عمر رضي الله عنه .
وعن يونس : إنّ معاوية كان يقول إذا جلس على المنبر : أيّها الناس إنّ الخلافة ليست لجمع المال ولا تفريقه ، ولكنّ الخلافة بالحقّ والحكم بالعدل وأخذ الناس بأمر الله عزّ وجل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.