أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي  
{وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (30)

{ وإذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة } تعداد لنعمة ثالثة تعم الناس كلهم ، فإن خلق آدم وإكرامه وتفضيله على ملائكته بأن أمرهم بالسجود له ، إنعام يعم ذريته . وإذا ظرف وضع لزمان نسبة ماضية وقع فيه أخرى ، كما وضع إذ الزمان نسبة مستقبلة يقع فيه أخرى ، ولذلك يجب إضافتهما إلى الجمل كحيث في المكان ، وبنيتا تشبيها لهما بالموصولات ، واستعملتا للتعليل والمجازاة ، ومحلهما النصب أبدا بالظرفية فإنهما من الظروف الغير المتصرفة لما ذكرناه ، وأما قوله تعالى : { واذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف } ونحوه ، فعلى تأويل : اذكر الحادث إذا كان كذا فحذف الحادث وأقيم الظرف مقامه ، وعامله في الآية قالوا ، أو اذكر على التأويل المذكور لأنه جاء معمولا له صريحا في القرآن كثيرا ، أو مضمر دل عليه مضمون الآية المتقدمة ، مثل وبدأ خلقكم إذ قال ، وعلى هذا فالجملة معطوفة على خلق لكم داخلة في حكم الصلة . وعن معمر أنه مزيد . والملائكة جمع ملأك على الأصل كالشمائل جمع شمأل ، والتاء لتأنيث الجمع ، وهو مقلوب مألك من الألوكة وهي : الرسالة ، لأنهم وسائط بين الله تعالى ، وبين الناس ، فهم رسل الله . أو كالرسل إليهم . واختلف العقلاء في حقيقتهم بعد اتفاقهم على أنها ذوات موجودة قائمة بأنفسها . فذهب أكثر المسلمين إلى أنها أجسام لطيفة قادرة على التشكل بأشكال مختلفة ، مستدلين بأن الرسل كانوا يرونهم كذلك . وقالت طائفة من النصارى : هي النفوس الفاضلة البشرية المفارقة للأبدان . وزعم الحكماء أنهم جواهر مجردة مخالفة للنفوس الناطقة في الحقيقة ، منقسمة إلى قسمين : قسم شأنهم الاستغراق في معرفة الحق جل جلاله والتنزه عن الاشتغال بغيره ، كما وصفهم في محكم تنزيله فقال تعالى : { يسبحون الليل والنهار لا يفترون } وهم العليون والملائكة المقربون . وقسم يدبر الأمر من السماء إلى الأرض على ما سبق به القضاء وجرى به القلم الإلهي { لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون } وهم المدبرات أمرا ، فمنهم سماوية ، ومنهم أرضية ، على تفصيل أثبته في كتاب الطوالع .

والمقول لهم : الملائكة كلهم لعموم اللفظ وعدم المخصص ، وقيل ملائكة الأرض ، وقيل إبليس ومن كان معه في محاربة الجن ، فإنه تعالى أسكنهم في الأرض أولا فأفسدوا فيها ، فبعث إليهم إبليس في جند من الملائكة فدمرهم وفرقهم في الجزائر والجبال . وجاعل : من جعل الذي له مفعولان وهما في { الأرض خليفة } أعمل فيهما ، لأنه بمعنى المستقبل ومعتمد على مسند إليه . ويجوز أن يكون بمعنى خالق . والخليفة من يخلف غيره وينوب منابه ، والهاء فيه للمبالغة ، والمراد به آدم عليه الصلاة والسلام لأنه كان خليفة الله في أرضه ، وكذلك كل نبي استخلفهم الله في عمارة الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم ، لا لحاجة به تعالى إلى من ينوبه ، بل لقصور المستخلف عليه عن قبول فيضه ، وتلقي أمره بغير وسط ، ولذلك لم يستنبئ ملكا كما قال الله تعالى : { ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا } ألا ترى أن الأنبياء لما فاقت قوتهم ، واشتعلت قريحتهم بحيث يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار أرسل إليهم الملائكة ومن كان منهم أعلى رتبة كلمه بلا واسطة ، كما كلم موسى عليه السلام في الميقات ، ومحمدا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ، ونظير ذلك في الطبيعة أن العظم لما عجز عن قبول الغذاء من اللحم لما بينهما من التباعد ، جعل الباري تعالى بحكمته بينهما الغضروف المناسب لهما ليأخذ من هذا ويعطي ذلك . أو خليفة من سكن الأرض قبله ، أو هو وذريته لأنهم يخلفون من قبلهم ، أو يخلف بعضهم بعضا . وإفراد اللفظ : إما للاستغناء بذكره عن ذكر بنيه كما استغني بذكر أبي القبيلة في قولهم : مضر وهاشم . أو على تأويل من يخلفكم ، أو خلفا يخلفكم . وفائدة قوله تعالى هذا للملائكة ، تعليم المشاورة ، وتعظيم شأن المجعول ، بأن بشر عز وجل بوجود سكان ملكوته ، ولقبه بالخليفة قبل خلقه ، وإظهار فضله الراجح على ما فيه من المفاسد بسؤالهم ، وجوابه وبيان أن الحكمة تقتضي إيجاد ما يغلب خيره ، فإن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شر كثير إلى غير ذلك .

{ قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء } تعجب من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد فيها ، أو يستخلف مكان أهل الطاعة أهل المعصية ، واستكشاف عما خفي عليهم من الحكمة التي بهرت تلك المفاسد وألغتها ، واستخبار عما يرشدهم ويزيح شبهتهم كسؤال المتعلم معلمه عما يختلج في صدره ، وليس باعتراض على الله تعالى جلت قدرته ولا طعن في بني آدم على وجه الغيبة ، فإنهم أعلى من أن يظن بهم ذلك لقوله تعالى : { بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } وإنما عرفوا ذلك بإخبار من الله تعالى ، أو تلق من اللوح ، أو استنباط عما ركز في عقولهم أن العصمة من خواصهم ، أو قياس لأحد الثقلين على الآخر . والسفك والسبك والسفح والشن أنواع من الصب ، فالسفك يقال في الدم والدمع ، والسبك في الجواهر المذابة ، والسفح في الصب من أعلى ، والشن في الصب من فم القربة ونحوها ، وكذلك السن ، وقرئ { يسفك } على البناء للمفعول ، فيكون الراجع إلى { من } ، سواء جعل موصولا أو موصوفا محذوفا ، أي : يسفك الدماء فيهم .

ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك } حال مقررة لجهة الإشكال كقولك أتحسن إلى أعدائك وأنا الصديق المحتاج القديم . والمعنى : أتستخلف عصاة ونحن معصومون أحقاء بذلك ، والمقصود منه ، الاستفسار عما رجحهم ومع ما هو متوقع منهم ، على الملائكة المعصومين في الاستخلاف ، لا العجب والتفاخر . وكأنهم علموا أن المجعول خليفة ذو ثلاث قوى عليها مدار أمره : شهوية وغضبية تؤديان به إلى الفساد وسفك الدماء ، وعقلية تدعوه إلى المعرفة والطاعة . ونظروا إليها مفردة وقالوا ما الحكمة في استخلافه ، وهو باعتبار تينك القوتين لا تقتضي الحكمة إيجاده فضلا عن استخلافه ، وأما باعتبار القوة العقلية فنحن نقيم ما يتوقع منها سليما عن معارضة تلك المفاسد . وغفلوا عن فضيلة كل واحدة من القوتين إذا صارت مهذبة مطواعة للعقل ، متمرنة على الخير كالعفة والشجاعة ومجاهدة الهوى والإنصاف . ولم يعلموا أن التركيب يفيد ما يقصر عنه الآحاد ، كالإحاطة بالجزئيات واستنباط الصناعات واستخراج منافع الكائنات من القوة إلى الفعل الذي هو المقصود من الاستخلاف ، وإليه أشار تعالى إجمالا بقوله :

{ قال إني أعلم ما لا تعلمون } والتسبيح تبعيد الله تعالى عن السوء وكذلك التقديس ، من سبح في الأرض والماء ، وقدس في الأرض إذا ذهب فيها وأبعد ، ويقال قدس إذا طهر لأن مطهر الشيء مبعد له عن الأقذار . و{ بحمدك } في موضع الحال ، أي متلبسين بحمدك على ما ألهمتنا معرفتك ووفقتنا لتسبيحك ، تداركوا به ما أوهم إسناد التسبيح إلى أنفسهم ونقدس لك نطهر نفوسنا عن الذنوب لأجلك ، كأنهم قابلوا الفساد المفسر بالشرك عند قوم بالتسبيح ، وسفك الدماء الذي هو أعظم الأفعال الذميمة بتطهير النفوس عن الآثام وقيل : نقدسك واللام مزيدة .