الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (30)

وقوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ للملائكة إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً }[ البقرة :30 ] .

( إِذْ ) ليست بزائدةٍ عند الجمهور ، وإِنما هي معلَّقة بفعل مقدَّر تقديره : واذكر إِذ قال ، وإِضافةُ رَبٍّ إِلى محَّمدٍ صلى الله عليه وسلم ومخاطبتُهُ بالكاف تشريفٌ منه سبحانه لنبيِّه ، وإِظهار لاِختصاصه به ، و{ للملائكة } : واحدها ملَكٌ ، والهاء في ملائكة لتأنيث الجُموعِ ، غير حقيقيٍّ ، وقيل : هي للمبالغة كَعَلاَّمَةٍ وَنسَّابَةٍ ، والأول أبين .

و{ جَاعِلٌ } في هذه الآية بمعنى خَالِقٍ ، وقال الحسن وقتادة : { جاعلٌ } بمعنى فاعل ، وقال ابن سابط عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( إِنَّ الأَرْضَ هُنَا هِيَ مَكَّةُ لأَنَّ الأَرْضَ دُحِيَتْ مِنْ تَحْتِهَا وَلأنَّهَا مَقَرُّ مَنْ هَلَكَ قَوْمُهُ مِنَ الأَنْبِيَاءِ . وَأَنَّ قَبْرَ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ بَيْنَ المَقَامِ وَالرُّكْنِ ، و{ خَلِيفَةً } معناه : من يخلف .

قال ابن عبَّاس : كانت الجن قبل بني آدم في الأرض ، فأفسدوا وسَفَكُوا الدماء ، فبعث اللَّه إِليهم قبيلاً من الملائكة قتلهم ، وألْحَقَ فَلَّهُمْ بجزائرِ البحار ، ورؤوسِ الجبالِ ، وجعل آدم وذريته خليفةً ، وقال ابن مسعود : إنما معناه خليفةٌ مني في الحُكْمِ .

وقوله تعالى : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا }[ البقرة :30 ] .

قد علمنا قطعًا أن الملائكة لا تعلم الغيْبَ ، ولا تسبق بالقول ، وذلك عَامٌّ في جميع الملائكة ، لأن قوله تعالى : { لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول } [ الأنبياء : 27 ] خرج على جهة المدح لهم ، قال القاضي ابن الطَّيِّب : فهذه قرينة العموم ، فلا يصح مع هذين الشرطَيْن إِلا أن يكون عندهم من إفساد الخليفة نبأٌ ومقدِّمة .

قال ابن زيد وغيره : إن اللَّه تعالى أعلمهم أن الخليفة سيكونُ من ذريته قومٌ يفسدونَ ويسفكون الدماء ، فقالوا لذلك هذه المقالةَ ، إِما على طريق التعجُّب من استخلاف اللَّه من يعصيه ، أو من عصيان من يستخلفُهُ اللَّهُ في أرضه وينعم علَيْه بذلك ، وإِما على طريق الاِستعظامِ والإِكبار للفصلَيْن جميعاً ، الاستخلاف والعصيان .

وقال أحمد بن يَحْيَى ثَعْلَبٌ وغيره : إنما كانت الملائكة قد رأَتْ ، وعلمت ما كان من إفساد الجِنِّ ، وسفكهم الدماء في الأرض ، فجاء قولهم : { أَتَجْعَلُ فِيهَا . . . }[ البقرة :30 ] الآية على جهة الاستفهام المحض ، هل هذا الخليفة يا ربَّنَا على طريقة من تقدَّم من الجِنِّ أم لا ؟

وقال آخرون : كان اللَّه تعالى قد أعلم الملائكة أنه يخلق في الأرضِ خلْقاً يفسدون ، ويسفكون الدماء ، فلما قال لهم سبحانه بعد ذلك : { إِنِّي جَاعِلٌ }[ البقرة :30 ] قالوا : { قالوا أَتَجْعَلُ فِيهَا . . . }[ البقرة :30 ] الآيةَ على جهة الاسترشاد والاستعلام ، هل هذا الخليفةُ هو الذي كان أعلمهم به سبحانه قبل أو غيره ؟ ونحو هذا في «مختصر الطبريِّ » ، قال : وقولهم : { أَتَجْعَلُ فِيهَا }[ البقرة :30 ] ليس بإنكار لفعله عز وجلَّ ، وحكمه ، بل استخبارٌ هل يكون الأمر هكذا ؟ وقد وجَّهه بعضهم بأنهم استعظموا الإِفسادَ ، وسفْكَ الدماء ، فكأنهم سألوا عن وجه الحكمة في ذلك إِذ علموا أنه عز وجل لا يفعل إِلا حكمة انتهى .

( ت ) والعقيدة أن الملائكة معصومون فلا يقع منهم ما يوجب نقصانًا من رتبتهم ، وشريف منزلتهم ، صلوات اللَّه وسلامُهُ على جميعهم ، والسفك صبُّ الدَّمِ هذا عُرْفُه وقولهم : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ }[ البقرة :30 ] .

قال بعض المتأوّلين : هو على جهة الاستفهام كأنهم أرادوا { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ }[ البقرة :30 ] الآيةَ أم نتغير عن هذه الحال ؟

قال : ( ع ) وهذا يحسن مع القول بالاستفهام المحْضِ في قولهم : { أَتَجْعَلُ } ، وقال آخرون معناه : التمدُّح ووصف حالهم وذلك جائز لهم ، كما قال يوسُفُ : { إِنّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } [ يوسف : 55 ] ، وهذا يحسن مع التعجُّب والاستعظام ، لأَِنْ يستخلف اللَّه من يعصيه في قولهم : { أَتَجْعَلُ }[ البقرة :30 ] وعلى هذا أدَّبهم بقوله تعالى : { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }[ البقرة :30 ] ومعنى { نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } ننزِّهك عما لا يليق بصفاتك ، وقال ابن عبَّاس ، وابن مسعود ، تسبيحُ الملائكةِ صلاتهم للَّه سبحانه ، وقال قتادةُ : تسبيحهم قولهم : «سبحانَ اللَّهِ » ، على عرفه في اللغة ، و{ بِحَمْدِكَ } معناه نَصِلُ التسبيح بالحمدِ ، ويحتمل أن يكون قولهم : { بِحَمْدِكَ } اعتراضا بين الكلامين ، كأنهم قالوا : ونحن نسبِّح ونقدِّس وأنت المحمود في الهداية إِلى ذلك . وخرَّج مسلم في صحيحه عن أبي ذَرّ قال : قال لِي رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( أَلاَ أُخْبِرُكَ بِأَحَبِّ الكَلاَمِ إِلَى اللَّهِ تعالى ، إِنَّ أَحَبَّ الكَلاَمِ إِلَى اللَّهِ تعالى : «سبحان الله وَبِحَمْدِهِ » ) ، وفي رواية : " سُئِلَ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وسلَّم ، أَيُّ الكَلاَمِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : ( مَا اصطفي اللَّهُ لِمَلاَئِكَتِهِ أَوْ لِعِبَادِهِ : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ ) وفي صحيحَي البخاريِّ ومسلم عن أبي هُرَيْرَة قال : قال رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم : ( كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَن ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ ، سُبْحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ ) . وهذا الحديثُ به ختم البخاريُّ رحمه اللَّه . انتهى .

{ وَنُقَدِّسُ لَكَ }[ البقرة :30 ] .

قال الضَّحَّاك وغيره : معناه : نُطَهِّرُ أنفسنا لك ابتغاء مرضاتك . والتقديسُ : التطهير بلا خلافٍ ، ومنه الأرض المقدَّسة ، أي : المطهَّرة ، وقال آخرون : { وَنُقَدِّسُ لَكَ } معناه : نقدِّسك ، أي : نعظِّمك ونطهِّر ذكرك ممَّا لا يليقُ به ، قاله مجاهد وغيره .

وقوله تعالى : { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }[ البقرة :30 ] .

قال ابن عبَّاس : كان إِبليس لعنه اللَّه قد أُعْجِبَ بنفسه ، ودخله الكِبْرُ ، لما جعله اللَّه خَازِنَ السماء الدنيا ، واعتقد أن ذلك لمزيَّة له ، فلما قالت الملائكة : { ونحن نسبِّح بحمدك ونقدِّس لك }[ البقرة :30 ] وهي لا تعلم أنَّ في نفْسِ إِبليسَ خلافَ ذلك ، قال اللَّه سبحانه : { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }[ البقرة :30 ] يعني ما في نفس إِبْلِيسَ .

وقال قتادة : لما قالتِ الملائكةُ : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا }[ البقرة :30 ] ، وقد علم اللَّه أنَّ في مَنْ يستخلفُ في الأرض أنبياءَ وفضلاءَ ، وأهلَ طاعةٍ ، قال لهم : { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }[ البقرة :30 ] يعني : أفعالَ الفضلاءِ .