قوله تعالى : { لله ما في السماوات وما في الأرض } . ملكاً وأهلها له عبيد وهو مالكهم .
قوله تعالى : { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير } . اختلف العلماء في هذه الآية ، فقال قوم : هي خاصة ثم اختلفوا في وجه خصوصها فقال بعضهم : هي متصلة بالآية الأولى ، نزلت في كتمان الشهادة معناه : وإن تبدو ما في أنفسكم أيها الشهود من كتمان الشهادة أو تخفوا الكتمان يحاسبكم به الله وهو قول الشعبي وعكرمة ، وقال بعضهم : نزلت فيمن يتولى الكافرين دون المؤمنين ، يعني : وإن تعلنوا ما في أنفسكم من ولاية الكفار أو تسروه يحاسبكم به الله ، وهو قول مقاتل كما ذكر في سورة آل عمران ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ) إلى أن قال { قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ) . وذهب الأكثرون إلى أن الآية عامة . ثم اختلفوا فيها فقال قوم : هي منسوخة بالآية التي بعدها .
والدليل عليه ما أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أخبرنا عبد الغافر بن محمد ، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن سفيان ، أنا مسلم بن الحجاج ، حدثني محمد بن المنهال الضرير وأمية بن بسطام العيشي واللفظ له ، قالا : أخبرنا يزيد بن زريع ، أنا روح وهو ابن القاسم عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " لما أنزل الله على رسوله الله صلى الله عليه وسلم ( لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) الآية قال : اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بركوا على الركب فقالوا : أي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، كلفنا من الأعمال ما نطيق : الصلاة والصيام والجهاد والصدقة ، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلمك أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا { سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } فلما قرأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى : { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } قال نعم { ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا } قال نعم { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } قال نعم { واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين } قال نعم .
وروى سعيد بن جبير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما بمعناه ، وقال في كل ذلك : " قد فعلت " ، بدل قوله " نعم " ، وهذا قول ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما وابن عمر ، وإليه ذهب محمد بن سيرين ، ومحمد بن كعب ، وقتادة والكلبي .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أخبرنا أبو محمد عبد الله ابن يوسف الأصفهاني ، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه ، أخبرنا يعقوب بن يوسف القزويني ، أخبرنا القاسم بن الحكم المغربي ، أخبرنا مسعر بن كدام عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله تجاوز عن أمتي ما وسوست به أنفسها ما لم تتكلم أو يعملوا به " .
وقال بعضهم الآية غير منسوخة لأن النسخ لا يرد على الأخبار إنما يرد على الأمر والنهي وقوله ( يحاسبكم به الله ) خبر لا يرد عليه النسخ ، ثم اختلفوا في تأويلها فقال قوم : قد أثبت الله تعالى للقلب كسباً ، فقال : ( بما كسبت قلوبكم ) فليس لله عبد أسر عملاً ، أو أعلنه من حركة من جوارحه أو همسة في قلبه إلا يخبره الله به ، ويحاسبه عليه ثم يغفر ما يشاء ويعذب بما يشاء ، وهذا معنى قول الحسن يدل عليه قوله تعالى ( إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ) وقال الآخرون : معنى الآية أن الله عز وجل يحاسب خلقه بجميع ما أبدوا من أعمالهم أو أخفوه ، ويعاقبهم عليه ، غير أن معاقبته على ما أخفوه مما لم يعلموه بما يحدث لهم في الدنيا من النوائب والمصائب والأمور التي يحزنون عليها ، وهذا قول عائشة رضي الله عنها قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقال : " يا عائشة هذه معاتبة الله العبد بما يصيبه من الحمى والنكبة حتى الشوكة والبضاعة يضعها في كمه ، فيفقدها فيروع لها حتى يخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير " .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني ، أخبرنا أبو جعفر الزياتي ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا عبد الله بن صالح ، حدثني الليث ، حدثني يزيد بن أبي حبيب عن سعيد بن سنان عن أنس بن مالك رضوان الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا ، وإذا أراد الله بعبده الشر بعبده أمسك عليه بذنبه حتى يوافيه به يوم القيامة " .
وقال بعضهم : { وإن تبدوا ما في أنفسكم } . يعني ما في قلوبكم مما عزمتم عليه ( أو تخفوه يحاسبكم به الله ) ولا تبدوه وأنتم عازمون عليه يحاسبكم به الله ، فأما ما حدثت به أنفسكم مما لم تعزموا عليه فإن ذلك مما لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ولا يؤاخذكم به ، دليله قوله تعالى ( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ) .
وقال عبد الله بن المبارك قلت لسفيان : أيؤاخذ العبد بالهمة ؟ قال : إذا كان عزماً أخذ بها ، وقيل معنى المحاسبة الإخبار والتعريف ، ومعنى الآية : وإن تبدوا ما في أنفسكم فتعملوا به ، أو تخفوه مما أضمرتم ونويتم يحاسبكم به الله ويخبركم به ويعرفكم إياه ، ثم يغفر للمؤمنين إظهاراً لفضله ، ويعذب الكافرين إظهاراً لعدله ، وهذا معنى قول الضحاك ، ويروى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما ، يدل عليه أنه قال : { يحاسبكم به الله } ولم يقل : يؤاخذكم به ، والمحاسبة غير المؤاخذة والدليل عليه ، ما أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي الزراد ، أخبرنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي ، أنا أبو سعيد الهيثم بن كليب ، أنا عيسى بن أحمد العسقلاني ، أنا يزيد بن هارون ، أنا همام بن يحيى ، عن قتادة عن صفوان بن محرز قال : كنت آخذاً بيد عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأتاه رجل فقال : كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى ؟ فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله تعالى يدني المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه يستره من الناس فيقول : أي عبدي أتعرف ذنب كذا وكذا ؟ فيقول : نعم أي رب ، ثم يقول : أي عبدي تعرف ذنب كذا وكذا ؟ فيقول : نعم أي رب ، حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك ، قال : فإني سترتها عليك في الدنيا وقد غفرتها لك اليوم ، ثم يعطى كتاب حسناته ، وأما الكافر والمنافقون فيقول الأشهاد : ( هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ) .
قوله تعالى : { فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } . رفع الراء والياء أبو جعفر وابن عامر وعاصم ويعقوب وجزمهما الآخرون ، فالرفع على الابتداء والجزم على النسق .
وروى طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ( فيغفر لمن يشاء ) الذنب العظيم ( ويعذب من يشاء ) على الذنب الصغير ، ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) .
{ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
هذا إخبار من الله أنه له ما في السماوات وما في الأرض ، الجميع خلقهم ورزقهم ودبرهم لمصالحهم الدينية والدنيوية ، فكانوا ملكا له وعبيدا ، لا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، وهو ربهم ومالكهم الذي يتصرف فيهم بحكمته وعدله وإحسانه ، وقد أمرهم ونهاهم وسيحاسبهم على ما أسروه وأعلنوه ، { فيغفر لمن يشاء } وهو لمن أتى بأسباب المغفرة ، ويعذب من يشاء بذنبه الذي لم يحصل له ما يكفره { والله على كل شيء قدير } لا يعجزه شيء ، بل كل الخلق طوع قهره ومشيئته وتقديره وجزائه .
ثم يستمر السياق في توكيد هذه الإشارة ، واستجاشة القلب للخوف من مالك السماوات والأرض وما فيهما ، العليم بمكنونات الضمائر خفيت أم ظهرت ، المجازي عليها ، المتصرف في مصائر العباد بما يشاء من الرحمة والعذاب ، القدير على كل شيء تتعلق به مشيئته بلا تعقيب !
( لله ما في السماوات وما في الأرض . وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ، فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ، والله على كل شيء قدير ) .
وهكذا يعقب على التشريع المدني البحت بهذا التوجيه الوجداني البحت ؛ ويربط بين التشريعات للحياة وخالق الحياة ، بذلك الرباط الوثيق ، المؤلف من الخوف والرجاء في مالك الأرض والسماء . فيضيف إلى ضمانات التشريع القانونية ضمانات القلب الوجدانية . . وهي الضمان الوثيق المميز لشرائع الإسلام في قلوب المسلمين في المجتمع المسلم . . وهي والتشريع في الإسلام متكاملان . فالإسلام يصنع القلوب التي يشرع لها ؛ ويصنع المجتمع الذي يقنن له . صنعة إلهية متكاملة متناسقة . تربية وتشريع . وتقوى وسلطان . . ومنهج للإنسان من صنع خالق الإنسان . فأنى تذهب شرائع الأرض ، وقوانين الأرض ، ومناهج الأرض ؟ أنى تذهب نظرة إنسان قاصر ، محدود العمر ، محدود المعرفة ، محدود الرؤية ، يتقلب هواه هنا وهناك ، فلا يستقر على حال ، ولا يكاد يجتمع اثنان منه على رأي ، ولا على رؤية ، ولا على إدراك ؟ وأنى تذهب البشرية شاردة عن ربها . ربها الذي خلق ، والذي يعلم من خلق ، والذي يعلم ما يصلح لخلقه ، في كل حالة وفي كل آن ؟
ألا إنها الشقوة للبشرية في هذا الشرود عن منهج الله وشرعه . الشقوة التي بدأت في الغرب هربا من الكنيسة الطاغية الباغية هناك ؛ ومن إلهها الذي كانت تزعم أنها تنطق باسمه وتحرم على الناس أن يتفكروا وأن يتدبروا ؛ وتفرض عليهم باسمه الإتاوات الباهظة والاستبداد المنفر . . فلما هم الناس أن يتخلصوا من هذا الكابوس ، تخلصوا من الكنيسة وسلطانها . ولكنهم لم يقفوا عند حد الاعتدال ، فتخلصوا كذلك من إله الكنيسة وسلطانه ! ثم تخلصوا من كل دين يقودهم في حياتهم الأرضية بمنهج الله . . وكانت الشقوة وكان البلاء ! !
فأما نحن - نحن الذين نزعم الإسلام - فما بالنا ؟ ما بالنا نشرد عن الله ومنهجه وشريعته وقانونه ؟ ما بالنا وديننا السمح القويم لم يفرض علينا إلا كل ما يرفع عنا الأغلال ، ويحط عنا الأثقال ، ويفيض علينا الرحمة والهدى واليسر والاستقامة على الطريق المؤدي إليه وإلى الرقي والفلاح ؟ !