الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{لِّلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَإِن تُبۡدُواْ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ أَوۡ تُخۡفُوهُ يُحَاسِبۡكُم بِهِ ٱللَّهُۖ فَيَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (284)

أخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق مجاهد عن ابن عباس في قوله { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } قال : نزلت في الشهادة .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر من طريق مقسم عن ابن عباس في قوله { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه . . . } الآية . قال : نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها .

وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال " لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم { لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير } اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جثوا على الركب ، فقالوا : يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة ، والصيام ، والجهاد ، والصدقة ، وقد أنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا ؟ بل قولوا ( سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) ( البقرة الآية 285 ) فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها ( آمن الرسول . . . ) ( البقرة الآية 285 ) الآية . فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) ( البقرة الآية 286 ) إلى آخرها " .

وأخرج أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر والحاكم والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية { إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } دخل في قلوبهم منه شيء لم يدخل من شيء فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : قولوا سمعنا وأطعنا وسلمنا . فألقى الله الإيمان في قلوبهم ، فأنزل الله ( آمن الرسول . . . ) ( البقرة الآية 285 ) الآية ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) ( البقرة الآية 286 ) قال : قد فعلت ( ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ) قال : قد فعلت ( ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ) قال : قد فعلت ( واعف عنا واغفر لنا وارحمنا . . . ) الآية قال : قد فعلت .

وأخرج عبد الرزاق وأحمد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال : دخلت على ابن عباس فقلت : كنت عند ابن عمر فقرأ هذه الآية فبكى . قال : أية آية ؟ قلت { إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } قال ابن عباس : إن هذه الآية حين أنزلت غمت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غما شديدا وغاظتهم غيظا شديدا ، وقالوا : يا رسول الله هلكنا إن كنا نؤاخذ بما تكلمنا وبما نعمل ، فأما قلوبنا فليست بأيدينا ؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " قولوا سمعنا وأطعنا . قال : فنسختها هذه الآية ( آمن الرسول ) ( البقرة الآية 385 ) إلى ( وعليها ما اكتسبت ) فتجوز لهم عن حديث النفس وأخذوا بالأعمال " .

وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير والطبراني والبيهقي في الشعب عن سعيد بن مرجانة . أنه بينما هو جالس مع عبد الله بن عمر تلا هذه الآية { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه . . . } الآية . فقال : والله لئن آخذنا الله بهذا لنهلكن ، ثم بكى حتى سمع نشيجه ، قال ابن مرجانة : فقمت حتى أتيت ابن عباس فذكرت له ما قال ابن عمر وما فعل حين تلاها . فقال ابن عباس : يغفر الله لأبي عبد الرحمن ، لعمري لقد وجد المسلمون منها حين أنزلت مثل ما وجد عبد الله بن عمر ، فأنزل الله بعدها ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) ( البقرة الآية 286 ) إلى آخر السورة قال ابن عباس : فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين بها ، وصار الأمر إلى أن قضى الله أن للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت من القول والعمل .

وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير والنحاس في ناسخه والحاكم وصححه عن سالم أن أباه قرأ { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } فدمعت عيناه ، فبلغ صنيعه ابن عباس فقال : يرحم الله أبا عبد الرحمن لقد صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت ، فنسختها الآية التي بعدها ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) .

وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد وعبد بن حميد عن نافع قال : لقلما أتى ابن عمر على هذه الآية إلا بكى { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } إلى آخر الآية . ويقول : إن هذا لإحصاء شديد .

وأخرج البخاري والبيهقي في الشعب عن مروان الأصغر عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحسبه ابن عمر { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } قال : نسختها الآية التي بعدها .

وأخرج عبد بن حميد والترمذي عن علي قال : لما نزلت هذه الآية { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله . . . ) الآية . أحزنتنا قلنا : أيحدث أحدنا نفسه فيحاسب به لا ندري ما يغفر منه ولا ما لا يغفر منه ؟ ! فنزلت هذه الآية بعدها فنسختها ( لا يكلف الله نفسا إلا سعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) .

واخرج سعيد بن منصور وابن جرير والطبراني عن ابن مسعود في الآية قال : كانت المحاسبة قبل أن تنزل ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) فلما نزلت نسخت الآية التي كانت قبلها .

وأخرج ابن جرير من طريق قتادة عن عائشة أم المؤمنين في الآية قال : نسختها ( لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ) .

وأخرج سفيان وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن المنذر عن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم وتعمل به " .

وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر عن محمد بن كعب القرظي قال " ما بعث الله من نبي ولا أرسل من رسول أنزل عليهم الكتاب إلا أنزل عليه هذه الآية { وإن تبدو ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير } فكانت الأمم تأبى على أنبيائها ورسلها ، ويقولون : نؤاخذ بما نحدث به أنفسنا ولم تعمله جوارحنا ؟ ! فيكفرون ويضلون ، فلما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم اشتد على المسلمين ما اشتد على الأمم قبلهم ، فقالوا : يا رسول الله أنؤاخذ بما نحدث به أنفسنا ولم تعمله جوارحنا ؟ قال : نعم ، فاسمعوا وأطيعوا واطلبوا إلى ربكم ، فذلك قوله ( آمن الرسول ) ( البقرة الآية 285 ) الآية . فوضع الله عنهم حديث النفس إلا ما عملت الجوارح ، لها ما كسبت من خير وعليها ما اكتسبت من شر ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) ( البقرة الآية 286 ) قال : فوضع عنهم الخطأ والنسيان ( ربنا ولا تحمل علينا إصرا . . . ) الآية . قال : فلم يكلفوا ما لم يطيقوا ، ولم يحمل عليهم الإصر الذي جعل على الأمم قبلهم ، وعفا عنهم وغفر لهم ونصرهم " .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس في قوله { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } فذلك سرائرك وعلانيتك { يحاسبكم به الله } فإنها لم تنسخ ، ولكن الله إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول : إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتي ، فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم وهو قوله ( يحاسبكم به الله ) يقول : يخبركم ، وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب وهو قوله ( ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ) ( البقرة الآية 225 ) .

وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والنحاس عن مجاهد في قوله { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه } قال : من اليقين والشك .

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس { وإن تبدو ما في أنفسكم أو تخفوه } فذلك سر عملك وعلانيته { يحاسبكم به الله } فما من عبد مؤمن يسر في نفسه خيرا ليعمل به فإن عمل به كتبت له عشر حسنات ، وإن هو لم يقدر له أن يعمل كتب له به حسنة من أجل أنه مؤمن ، والله رضي سر المؤمنين وعلانيتهم ، وإن كان سوءا حدث به نفسه اطلع الله عليه أخبره الله به يوم تبلى السرائر ، فإن هو لم يعمل به لم يؤاخذه الله به حتى يعمل به ، فإن هو عمل به تجاوز الله عنه كما قال ( أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم ) ( الأحقاف الآية 16 ) .

وأخرج أبو داود في ناسخه عن ابن عباس قال { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } نسخت فقال ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) ( البقرة الآية 286 ) .

وأخرج الطبراني والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } قال : لما نزلت اشتد ذلك على المسلمين وشق عليهم فنسخها الله ، فأنزل الله ( لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ) ( البقرة الآية 286 ) .

وأخرج الطبراني في مسند الشاميين عن ابن عباس قال : لما نزلت { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه . . . ) الآية أتى أبو بكر ، وعمر ، ومعاذ بن جبل ، وسعد بن زرارة ، رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : ما نزل علينا آية أشد من هذه .

وأخرج ابن جرير من طريق الضحاك عن ابن عباس في الآية قال : إن الله يقول يوم القيامة : إن كتابي لم يكتبوا من أعمالكم إلا ما ظهر منها ، فأما ما أسررتم في أنفسكم فأنا أحاسبكم به اليوم ، فأغفر لمن شئت وأعذب من شئت .

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس في الآية قال : هي محكمة لم ينسخها شيء يعرفه الله يوم القيامة أنك أخفيت في صدرك كذا وكذا ولا يؤاخذه .

وأخرج الطيالسي وأحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن أمية ، أنها سألت عائشة عن قول الله تعالى { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } وعن قوله ( من يعمل سوءا يجز به ) ( النساء الآية 123 ) فقالت : ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : هذه معاتبة الله العبد فيما يصيبه من الحمى والنكبة ، حتى البضاعة يضعها في يد قميصه فيفقدها فيفزع لها ثم يجدها في ضبينه ، حتى أن العبد ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير .

وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير من طريق الضحاك عن عائشة في قوله { وإن تبدوا ما في أنفسكم . . . } الآية . قالت : هو الرجل يهم بالمعصية ولا يعملها ، فيرسل عليه من الغم والحزن بقدر ما كان هم من المعصية ، فتلك محاسبته .

وأخرج ابن جرير عن عائشة قالت : كل عبد هم بسوء ومعصية وحدث به نفسه حاسبه الله به في الدنيا ، يخاف ويحزن ويشتد همه لا يناله من ذلك شيء ، كما هم بالسوء ولم يعمل منه شيئا .

وأخرج عبد بن حميد عن عاصم أنه قرأ { فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء } بالرفع فيهما .

وأخرج عن الأعمش : أنه قرأ بجزمهما .

وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن الأعمش . أنه قال : في قراءة ابن مسعود ( يحاسبكم به الله يغفر لمن يشاء ) بغير فاء .

وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله { فيغفر لمن يشاء . . . } الآية . قال : يغفر لمن يشاء الكبير من الذنوب ، ويعذب من يشاء على الصغير .