الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{لِّلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَإِن تُبۡدُواْ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ أَوۡ تُخۡفُوهُ يُحَاسِبۡكُم بِهِ ٱللَّهُۖ فَيَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (284)

قوله تعالى : { للَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض . . . } [ البقرة :284 ] .

المعنى : جميعُ ما في السمواتِ ، وما في الأرض مِلْكٌ له سُبْحَانَهُ .

وقوله تعالى : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ . . . } الآية ، قوله : { مَا فِي أَنفُسِكُمْ } يقتضي قوَّةُ اللفظ أنَّه تقرَّر في النفْسِ ، واستصحبت الفكْرةَ فيه ، وأما الخواطر التي لا يُمْكِنُ دفْعُها ، فليسَتْ في النفْسِ ، إِلا على تجوُّز .

واختلف في معنى هذه الآية .

فقال عِكْرِمَةُ وغيره : هي في معنى الشهادةِ التي نُهِيَ عن كتمها ، فلفظ الآية ، على هذا التأويل : العمومُ ، ومعناه الخصوصُ ، وكذا نقل الثعلبيُّ .

وقال ابن عبَّاس : وأبو هريرة ، وجماعةٌ من الصَّحابة والتابعين : إِن هذه الآية ، لَمَّا نزلَتْ ، شَقَّ ذلك على الصَّحابة ، وقالوا : هُلِكْنَا ، يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنْ حُوسِبْنَا بِخَوَاطِرِ نُفُوسِنَا ، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، لكِنَّهُ قَالَ لَهُمْ : ( أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا ، كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ : سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ، بَلْ قُولُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا فَقَالُوهَا : فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] ، ونَسَخ بِهَذِهِ تِلْكَ ، هذا معنى الحديثِ الصحيحِ ، وله طرقٌ من جهاتٍ ، واختلفتْ عباراته ، وتعاضَدَتْ عبارةُ هؤلاء القائلين بلفظة النَّسْخِ في هذه النازلةِ .

وقال ابن عبَّاس : لما شقَّ ذلك علَيْهم ، فأنزل اللَّه تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا . . . } الآية ، فنسختِ الوسوسةُ ، وثَبَتَ القوْلُ ، والفعْلُ ،

وقال آخرون : هذه الآيةُ محكمةٌ غير منْسُوخةٍ ، واللَّه محاسِبٌ خلقه على ما عملوه ، وأضمروه ، وأرادوه ، ويَغْفِرُ للمؤمنين ، ويأخذ به أهل الكفر والنفاق ، ورجَّح الطبريُّ أنَّ الآية محكَمَةٌ غير منْسُوخة .

( ع ) : وهذا هو الصوابُ ، وإِنَّما هي مخصَّصة ، وذلك أنَّ قوله تعالى : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ }[ البقرة :284 ] معناه : بما هو في وُسْعكم ، وتحْتَ كَسْبِكُم ، وذلك استصحابُ المعتقد ، والفِكْر فيه ، فلما كان اللفظ ممَّا يمكنُ أنْ تدخل فيه الخواطرُ ، أشفَقَ الصحابةُ ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم ، فبيَّن اللَّه تعالى لهم ما أراد بالآيةِ الأولى ، وخصَّصَها ، ونصَّ على حُكْمِهِ ، ( أنه لا يكلِّف نفْساً إِلا وسْعَهَا ) ، والخواطرُ ليْسَتْ هي ، ولا دفعُهَا في الوُسْع ، بل هي أمر غالبٌ ، وليست مما يُكْسَبُ ، ولا يُكْتَسَبُ ، وكان في هذا البيان فَرَحُهُمْ ، وكَشْفُ كربهم ، وتأتي الآية محكمةً لا نَسْخَ فيها ، وممَّا يدفع أمر النَّسْخ ، أن الآية خَبَرٌ ، والأخبار يدخُلُها النَّسْخُ ، فإن ذهب ذاهبٌ إِلى تقرير النَّسْخِ ، فإِنما يترتَّب له في الحُكْم الذي لَحِقَ الصحابة ، حِينَ فزعوا من الآية ، وذلك أن قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم لهم : ( قولُوا سَمِعْنَا وأطعنا ) ، يجيء منْه : الأمر بأن يبنُوا على هذا ، ويلتزموه ، وينتظروا لُطْفَ اللَّه في الغُفْران ، فإِذا قرّر هذا الحكم ، فصحيحٌ وقوعُ النَّسْخ فيه ، وتشبه الآية حينئذٍ قوله تعالَى : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ } [ الأنفال : 65 ] ، فهذا لفظه الخَبَرُ ، ولكنَّ معناه : التزموا هذا ، وابنوا عليه ، واصبروا بحَسَبِهِ ، ثم نسخ ذلك بَعْد ذلك ، فهذه الآية في البقرة أشبهُ شَيْء بها .

وقوله تعالى : { وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ } ، يعني : من العصاةِ ، وتعلَّق قومٌ بهذه الآية ممَّن قال بجوازِ تكْليفِ ما لا يُطَاقُ ، وقالوا : إِن اللَّه قد كلَّفهم أمْرَ الخواطرِ ، وذلك مما لا يِطَاق .

قال ( ع ) : وهذا غير بيِّن ، وإِنما كان أمر الخواطر تأويلاً تأوَّله أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ولم يثبتْ تكليفاً إِلا على الوَجْه الذي ذكَرْناه من تقرير النبي صلى الله عليه وسلم ، إياهمُ على ذلك ، قال الشيخ الوليُّ العارفُ باللَّه ابن أبي جَمْرَةَ : والخواطرُ عندهم ستَّةٌ يعني عند العلماءِ العارفينَ باللَّه : أولُها الهَمَّة ، ثم اللَّمَّة ، ثم الخَطْرة ، وهذه الثلاثُ عندهم غَيرْ مُؤاخذٍ بها ، ثم نِيَّة ، ثمَّ إرادَةٌ ، ثم عَزِيمَةٌ ، وهذه الثلاثُ مؤَاخذ بها اه .