قوله تعالى : { للَّهِ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض . . . } [ البقرة :284 ] .
المعنى : جميعُ ما في السمواتِ ، وما في الأرض مِلْكٌ له سُبْحَانَهُ .
وقوله تعالى : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ . . . } الآية ، قوله : { مَا فِي أَنفُسِكُمْ } يقتضي قوَّةُ اللفظ أنَّه تقرَّر في النفْسِ ، واستصحبت الفكْرةَ فيه ، وأما الخواطر التي لا يُمْكِنُ دفْعُها ، فليسَتْ في النفْسِ ، إِلا على تجوُّز .
فقال عِكْرِمَةُ وغيره : هي في معنى الشهادةِ التي نُهِيَ عن كتمها ، فلفظ الآية ، على هذا التأويل : العمومُ ، ومعناه الخصوصُ ، وكذا نقل الثعلبيُّ .
وقال ابن عبَّاس : وأبو هريرة ، وجماعةٌ من الصَّحابة والتابعين : إِن هذه الآية ، لَمَّا نزلَتْ ، شَقَّ ذلك على الصَّحابة ، وقالوا : هُلِكْنَا ، يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنْ حُوسِبْنَا بِخَوَاطِرِ نُفُوسِنَا ، وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، لكِنَّهُ قَالَ لَهُمْ : ( أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا ، كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ : سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا ، بَلْ قُولُوا : سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا فَقَالُوهَا : فَأَنْزَلَ اللَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] ، ونَسَخ بِهَذِهِ تِلْكَ ، هذا معنى الحديثِ الصحيحِ ، وله طرقٌ من جهاتٍ ، واختلفتْ عباراته ، وتعاضَدَتْ عبارةُ هؤلاء القائلين بلفظة النَّسْخِ في هذه النازلةِ .
وقال ابن عبَّاس : لما شقَّ ذلك علَيْهم ، فأنزل اللَّه تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا . . . } الآية ، فنسختِ الوسوسةُ ، وثَبَتَ القوْلُ ، والفعْلُ ،
وقال آخرون : هذه الآيةُ محكمةٌ غير منْسُوخةٍ ، واللَّه محاسِبٌ خلقه على ما عملوه ، وأضمروه ، وأرادوه ، ويَغْفِرُ للمؤمنين ، ويأخذ به أهل الكفر والنفاق ، ورجَّح الطبريُّ أنَّ الآية محكَمَةٌ غير منْسُوخة .
( ع ) : وهذا هو الصوابُ ، وإِنَّما هي مخصَّصة ، وذلك أنَّ قوله تعالى : { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ }[ البقرة :284 ] معناه : بما هو في وُسْعكم ، وتحْتَ كَسْبِكُم ، وذلك استصحابُ المعتقد ، والفِكْر فيه ، فلما كان اللفظ ممَّا يمكنُ أنْ تدخل فيه الخواطرُ ، أشفَقَ الصحابةُ ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم ، فبيَّن اللَّه تعالى لهم ما أراد بالآيةِ الأولى ، وخصَّصَها ، ونصَّ على حُكْمِهِ ، ( أنه لا يكلِّف نفْساً إِلا وسْعَهَا ) ، والخواطرُ ليْسَتْ هي ، ولا دفعُهَا في الوُسْع ، بل هي أمر غالبٌ ، وليست مما يُكْسَبُ ، ولا يُكْتَسَبُ ، وكان في هذا البيان فَرَحُهُمْ ، وكَشْفُ كربهم ، وتأتي الآية محكمةً لا نَسْخَ فيها ، وممَّا يدفع أمر النَّسْخ ، أن الآية خَبَرٌ ، والأخبار يدخُلُها النَّسْخُ ، فإن ذهب ذاهبٌ إِلى تقرير النَّسْخِ ، فإِنما يترتَّب له في الحُكْم الذي لَحِقَ الصحابة ، حِينَ فزعوا من الآية ، وذلك أن قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم لهم : ( قولُوا سَمِعْنَا وأطعنا ) ، يجيء منْه : الأمر بأن يبنُوا على هذا ، ويلتزموه ، وينتظروا لُطْفَ اللَّه في الغُفْران ، فإِذا قرّر هذا الحكم ، فصحيحٌ وقوعُ النَّسْخ فيه ، وتشبه الآية حينئذٍ قوله تعالَى : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صابرون يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ } [ الأنفال : 65 ] ، فهذا لفظه الخَبَرُ ، ولكنَّ معناه : التزموا هذا ، وابنوا عليه ، واصبروا بحَسَبِهِ ، ثم نسخ ذلك بَعْد ذلك ، فهذه الآية في البقرة أشبهُ شَيْء بها .
وقوله تعالى : { وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ } ، يعني : من العصاةِ ، وتعلَّق قومٌ بهذه الآية ممَّن قال بجوازِ تكْليفِ ما لا يُطَاقُ ، وقالوا : إِن اللَّه قد كلَّفهم أمْرَ الخواطرِ ، وذلك مما لا يِطَاق .
قال ( ع ) : وهذا غير بيِّن ، وإِنما كان أمر الخواطر تأويلاً تأوَّله أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ولم يثبتْ تكليفاً إِلا على الوَجْه الذي ذكَرْناه من تقرير النبي صلى الله عليه وسلم ، إياهمُ على ذلك ، قال الشيخ الوليُّ العارفُ باللَّه ابن أبي جَمْرَةَ : والخواطرُ عندهم ستَّةٌ يعني عند العلماءِ العارفينَ باللَّه : أولُها الهَمَّة ، ثم اللَّمَّة ، ثم الخَطْرة ، وهذه الثلاثُ عندهم غَيرْ مُؤاخذٍ بها ، ثم نِيَّة ، ثمَّ إرادَةٌ ، ثم عَزِيمَةٌ ، وهذه الثلاثُ مؤَاخذ بها اه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.