إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{لِّلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَإِن تُبۡدُواْ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ أَوۡ تُخۡفُوهُ يُحَاسِبۡكُم بِهِ ٱللَّهُۖ فَيَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (284)

{ للَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } من الأمور الداخلة في حقيقتهما والخارجة عنهما المتمكنةِ فيهما من أُولي العلم وغيرِهم ، أي كلُّها له تعالى خَلْقاً ومُلكاً وتصرُّفاً لا شِركةَ لغيره في شيء منها بوجه من الوجوه { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ } من السوء والعزمِ عليه بأن تُظهروه للناس بالقول أو بالفعل أو بهما { أَوْ تُخْفُوهْ } بأن تكتُموه منهم ولا تُظهروه بأحد الوجهين ، ولا يندرج فيه ما لا يخلو عنه البشرُ من الوساوس وأحاديث النفس التي لا عقدَ ولا عزيمة فيها إذ التكليفُ بحسب الوُسع { يُحَاسِبْكُم بِهِ الله } يومَ القيامة وهو حجةٌ على منكري الحساب من المعتزلة والروافض ، وتقديمُ الجارِّ والمجرور على الفاعل للاعتناء به ، وأما تقديمُ الإبداء على الإخفاء على عكس ما في قوله عز وجل : { قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله } [ آل عمران ، الآية 29 ] فلِما أن المعلَّق بما في أنفسهم هاهنا هو المحاسبة ، والأصلُ فيها الأعمالُ البادية ، وأما العلمُ فتعلُّقه بها كتعلقه بالأعمال الخافية ، كيف لا وعلمُه سبحانه بمعلوماته متعالٍ عن أن يكون بطريق حصول الصور ، بل وجودُ كل شيءٍ في نفسه في أيّ طور كان علمٌ بالنسبة إليه تعالى وفي هذا لا يختلف الحالُ بين الأشياء البارزةِ والكامنة خلا أن مرتبة الإخفاءِ متقدمةٌ على مرتبة الإبداء إذ ما من شيء يبدى إلا وهو أو مباديه قبل ذلك مضمَرٌ في النفس فتعلقُ علمِه تعالى بحالته الأولى متقدمٌ على تعلّقه بحالته الثانية وقد مر في تفسير قوله تعالى : { أَوَ لاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُون } [ البقرة ، الآية 77 ] .

{ فَيَغْفِرُ } بالرفع على الاستئناف أي فهو يغفرُ بفضله { لِمَن يَشَاء } أي يغفر له { وَيُعَذّبَ } بعدله { مَن يَشَاء } أي يعذبه حسبما تقتضيه مشيئته المبنيةُ على الحِكَم والمصالِح ، وتقديمُ المغفرةِ على التعذيب لتقدّم رحمته على غضبه ، وقرئ بجزم الفعلين عطفاً على جواب الشرط ، وقرئ بالجزم من غير فاء على أنهما بدلٌ من الجواب بدلَ البعضِ أو الاشتمالِ ، ونظيره الجزمُ على البدلية من الشرط في قوله : [ الطويل ]

متى تأتِنا تُلمِمْ بنا في ديارنا *** تجدْ حَطَباً جَزْلاً وناراً تأججا{[110]}

وإدغام الراء في اللام لحنٌ { والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ } تذييلٌ مقرِّر لمضمون ما قبله ، فإن كمالَ قدرته تعالى على جميع الأشياءِ مُوجِبٌ لقدرته سبحانه على ما ذُكر من المحاسبة وما فُرِّع عليه من المغفرة والتعذيب .


[110]:وهو لعبد الله بن الحر في خزانة الأدب 9/90-99 والدرر 6/69 وشرح أبيات سيبويه 2/66 وشرح المفصل 7/53 وبلا نسبة في شرح الأشموني ص 440 ولسان العرب 5/242 (نور) وفي البيت شاهدان: أولهما إبدال الفعل "تلمم" من الفعل "تأتنا" وتأنيهما: إبدال النون ألفا في "تأججا".