التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{لِّلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ وَإِن تُبۡدُواْ مَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ أَوۡ تُخۡفُوهُ يُحَاسِبۡكُم بِهِ ٱللَّهُۖ فَيَغۡفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ} (284)

{ لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ { 284 }

في الآية : تقرير بمطلق ملكية الله تعالى وتصرفه بما في السموات والأرض .

وتنبيه موجه للسامعين بأنه محيط بكل ما يبدونه ويخفونه ومحصيه عليهم ومحاسبهم به ثم معاملهم بما تشاء حكمته فيغفر ويتجاوز عمن يشاء ويؤاخذ ويعذب من يشاء ، وهو القادر على كل شيء في جميع الأحوال .

تعليق على الآية

{ لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ . . . }

وقد روى الطبري أقوالاً عديدة معزة إلى ابن عباس وبعض التابعين وتابعيهم تفيد أن هذه الآية متصلة بالشهادة وأدائها وكتمها . وهو الموضوع الذي احتوته الآيات السابقة . وقال الطبرسي : إن الآية استمرار للآيات السابقة فيما احتوته من تنبيه وتذكير وإنذار . وهذا لا يخرج عما رواه الطبري .

وليس شيء من هذه الروايات وارداً في كتب الصحاح . ومع ذلك فقد تكون وجيهة ، ويكون فيها بالتبعية توكيد الصلة بين الآيات السابقة وهذه الآية . وإن كان إطلاق العبارة فيها يثير شيئا من التردد . فإذا صحت الأقوال فتكون حكمة التنزيل قد اقتضت أن تأتي العبارة مطلقة الشمول لتكون عامة . والله تعالى أعلم .

تعليقات وأحاديث في صدد هذه الآية

1- في صدد ما جاء في الآية من أن الله يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء نقول : إن الذي ينسجم مع حكمة الله وتقريرات القرآن الكثيرة وأهدافه أن الغفران الإلهي إنما يكون للمؤمنين المتقين ذوي النوايا الحسنة . وإن العذاب الإلهي إنما يكون للمنحرفين عن الحق والهدى من كفار ومنافقين وطغاة وظالمين .

ولقد أورد الطبري في سياق الآية حديثاً ورد أيضا في التاج برواية الشيخين ، وهذا نص التاج الذي ليس فيه فرق جوهري مع نص الطبري : «قيل لابن عمر : كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى ؟ قال : سمعته يقول يدنو أحدكم من ربّه حتى يضع كنفه عليه فيقول أعملت كذا وكذا . فيقول : نعم . ويقول : أعملت كذا وكذا فيقول : نعم فيقرّره ثم يقول : إني سترت عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم ثم يعطى صحيفة حسناته . وأما الكفار فينادى على رؤوس الأشهاد هؤلاء الذين كذَبوا على ربّهم ألا لعنة الله على الظالمين » {[396]} .

ومع استغرابنا لسوق هذا الحديث في سياق الآية التي يروي الطبري عن أهل التأويل أنها في صدد الشهادة المذكورة في الآيات السابقة ؛ لأنه لا يبدو صلة ما بينه وبين الشهادة إلا من بعيد جدا ، فإن فيه شيئا من التوضيح لما ورد في الآية من كون محاسبة الله لعباده هي على ما يبدونه مما في أنفسهم أو يخفونه من عزمات الشر وسيء النيات كما أن فيه دعماً لما قلناه من أن الله تعالى إنما يغفر للمؤمنين المخلصين ويعذب الكافرين الظالمين . ومع واجب الإيمان بما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مشاهد أخروية فإن من الحكمة الملموحة في الحديث تبشير المؤمنين المخلصين وإنذار الكفار الظالمين .

2- ولقد روى المفسرون عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت الآية هلعوا من احتمال مؤاخذة الله لهم وتعذيبهم على خطرات النفس ووساوسها . وهرعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قائلين : هلكنا إذا كان الله مؤاخذنا على ما نحدث به نفوسنا . وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإذعان لله وتفويض الأمر إليه ، ففعلوا ، فلم تلبث أن نزلت الآيتان اللتان بعدها فنسخناها .

ولقد روى المفسرون ذلك بصيغ عديدة ، ومنها صيغة رواها البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال : «لما نزلت { لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ . . . } إلخ اشتد ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأتوه ثم بركوا على الركب فقالوا : أي رسول الله كلّفنا من الأعمال ما نطيق ، الصلاة والصيام والجهاد والصدقة ، وقد أنزل الله عليك هذه الآية ولا نطيقها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم سمعنا وعصينا . بل قولوا : سمعا وطاعة غفرانك ربّنا وإليك المصير قالها مرتين . فلما قالها القوم وذلّت بها ألسنتهم أنزل الله الآية التالية لها فكرروها ، فلما فعلوا ذلك نسخ الله تلك الآية وأنزل الآية الثانية : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا . . . } إلخ وقرأوها فلما قالوا { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } ، قال : نعم ، ولما قالوا : { وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } قال نعم ، ولما قالوا : { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } . قال : نعم . ولما قالوا : { وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } . قال : نعم » {[397]} .

وقد يلحظ أن قول أبي هريرة : إن الآيتين الثانيتين نسختا الآية التي نحن في صددها يتحمّل التوقف ؛ لأن الآية الثانية من الآيتين ثبتت كون الإنسان يحاسب على ما كسب من قول وفعل ، وهذا يدخل في معنى { وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ } في الآية التي نحن في صددها . ولقد روى الطبري حديثاً عن ابن عباس جاء فيه : إن الآية الثانية من الآيتين نسخت الوسوسة ، وثبتت القولَ والفعلَ مما فيه دعم لما قلناه .

ولقد روى الطبري في الوقت نفسه عن ابن عباس حديثاً جاء فيه : «إن الآية لم تنسخ وإن الله عز وجل إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول : إني أخبركم بما أخفيتم في نفوسكم مما لم يطلع عليه ملائكتي ، فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ، وأما أهل الشك والريبة والنفاق والكفار فيخبرهم ويعذّبهم » . وهناك روايات أخرى يرويها الطبري أيضا عن مجاهد والربيع وغيرهما تفيد أن الآية لم تنسخ .

وتعليقاً على هذه الروايات دون الأولى نقول :

أولاً : إن الآية موجهة للمؤمنين دون الكفار الذين ماتوا وهم كفار ؛ لأنهم خارجون عن نطاق الغفران ومخلدون في النار بنصوص قرآنية قطعية ومتكررة .

وثانيا : إن جملة { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } تؤيد بقوة قول النسخ الجزئي الذي جاء في قول ابن عباس الأول بحيث يصحّ التوقف في ما جاء في الأقوال الأخرى .

وهناك حديث صحيح يرويه الخمسة بهذه الصيغة «تجاوز لأمتي عما حدّثت به نفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به » . وحديث آخر صحيح أيضا يرويه الخمسة عن ابن عباس جاء فيه : «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربّه : «قال الله : إن من همّ بحسنة فلم يعملها كتبتها له حسنة ، فإن عملها كتبتها له عشر حسنات إلى سبعمائة ، ومن همّ بسيئة فلم يعملها كتبتها له حسنة ، وإن همّ بسيئة فعملها كتبتها له سيئة واحدة » . وهذا يدعم قول النسخ الجزئي ، ومن الحكمة الملموحة فيه تبشير المؤمنين وتطمينهم وتحذير من السيئات على كل حال .


[396]:التاج/5 (كتاب القيامة والجنة والنار – محاسبة الله لعباده). كنفه عليه: ستره ولطفه
[397]:التاج 4/62-64