معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ فَٱسۡلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلٗاۚ يَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ فِيهِ شِفَآءٞ لِّلنَّاسِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (69)

قوله تعالى : { ثم كلي من كل الثمرات } ، ليس معنى الكل العموم ، وهو كقوله تعالى : { وأوتيت من كل شيء } [ النمل – 23 ] . { فاسلكي سبل ربك ذللاً } . قيل : هي نعت الطرق ، يقول : هي مذللة للنحل سهلة المسالك . قال مجاهد : لا يتوعر عليها مكان سلكته . وقال آخرون : الذلل نعت النحل ، أي : مطيعة منقادة بالتسخير . يقال : إن أربابها ينقلونها من مكان إلى مكان ، ولها يعسوب إذا وقف وقفت ، وإذا سار سارت . { يخرج من بطونها شراب } ، يعني : العسل { مختلف ألوانه } ، أبيض وأحمر وأصفر . { فيه شفاء للناس } ، أي : في العسل . وقال مجاهد : أي في القرآن ، والأول أولى .

أنبأنا إسماعيل بن عبد القاهر ، حدثنا عبد الغافر بن محمد ، حدثنا محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا محمد بن مثنى ، أنبأنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن أبي المتوكل ، عن أبي سعيد الخدري قال : " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن أخي استطلق بطنه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اسقه عسلاً ، فسقاه ثم جاء فقال : إني سقيته فلم يزده إلا استطلاقا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له ثلاث مرات ، ثم جاء الرابعة فقال : اسقه عسلاً ، قال : قد سقيته فلم يزده إلا استطلاقا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صدق الله وكذب بطن أخيك ، فسقاه فبرأ " . قال ابن مسعود : العسل شفاء من كل داء ، والقرآن شفاء لما في الصدور . وروي عنه أنه قال : عليكم بالشفاءين : القرآن والعسل . { إن في ذلك لآيةً لقوم يتفكرون } ، فيعتبرون .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ فَٱسۡلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلٗاۚ يَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ فِيهِ شِفَآءٞ لِّلنَّاسِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (69)

{ 68 - 69 } { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }

في خلق هذه النحلة الصغيرة ، التي هداها الله هذه الهداية العجيبة ، ويسر لها المراعي ، ثم الرجوع إلى بيوتها التي أصلحتها بتعليم الله لها ،وهدايته لها ، ثم يخرج من بطونها هذا العسل اللذيذ ، مختلف الألوان بحسب اختلاف أرضها ومراعيها ، فيه شفاء للناس من أمراض عديدة . فهذا دليل على كمال عناية الله تعالى ، وتمام لطفه بعباده ، وأنه الذي لا ينبغي أن يحب غيره ويدعي سواه .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ فَٱسۡلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلٗاۚ يَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ فِيهِ شِفَآءٞ لِّلنَّاسِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (69)

وقوله : { ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثمرات فاسلكي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً . . } ، بيان للون آخر من الإِلهامات التي ألهمها الله - تعالى - إياها .

والسبل : جمع سبيل . والمراد بها : الطرق التي تسلكها النحلة في خروجها من بيتها ، وفي رجوعها إليه ، وأضاف - سبحانه - السبل إليه ؛ لأنه هو خالقها وموجدها .

وذللا : جمع ذلول ، وهو : الشيء الممهد المنقاد ، وهو حال من السبل ، أي : فاسلكي سبل ربك حال كونها ممهدة لك ، لا عسر في سلوكها عليك ، وإن كانت صعبة بالنسبة لغيرك .

قالوا : ربما أجدب عليها ما حولها ، فتنتجع الأماكن البعيدة للمرعى ، ثم تعود إلى بيوتها دون أن تضل عنها .

وقيل إن : { ذللا } ، حال من النحلة ، أي : ثم كلي من كل الثمرات ، فاسلكي سبل ربك ، حالة كونك منقادة لما يراد منك ، مطيعة لما سخرك الله له ، من أمور تدل على قدرته وحكمته - سبحانه - .

وقوله - تعالى - : { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } ، كلام مستأنف ، عدل به من خطاب النحلة الى خطاب الناس ، تعديدا للنعم ، وتعجيبا لكل سامع ، وتنبيها على مواطن العظات والعبر الدالة على وحدانية الله - تعالى - وقدرته ، وعجيب صنعه في خلقه .

أي : يخرج من بطون النحل - بعد أكلها من كل الثمرات ، وبعد اتخاذها بيوتها - شراب هو العسل ، مختلف ألوانه ما بين أبيض وأصفر ، وغير ذلك من ألوان العسل ، على حسب اختلاف مراعيها ، ومآكلها ، وسنها ، وغير ذلك بما اقتضته حكمته - سبحانه - .

والضمير في قوله - تعالى - : { فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } ، يعود على الشراب المستخرج من بطونها ، وهو : العسل .

أي : في العسل شفاء عظيم للناس من أمراض كثيرة تعرض لهم .

وقيل : الضمير يعود إلى القرآن الكريم ، والتقدير : فيما قصصنا عليكم في هذا القرآن الشفاء للناس .

وهذا القيل وإن كان صحيحا في ذاته ، إلا أن السياق لا يدل عليه ، لأن الآية تتحدث عما يخرج من بطون النحل ، وهو : العسل ، ولا وجه للعدول عن الظاهر ، ومخالفة المرجع الواضح .

قال الإِمام ابن كثير : والدليل على أن المراد بقوله : { فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } ، هو : العسل ، الحديث الذي رواه البخاري ، ومسلم ، في صحيحيهما ، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - ، " أن رجلا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن أخي استطلق بطنه فقال : " اسقه عسلا " ، فذهب فسقاه عسلا ثم جاء فقال : يا رسول الله ، سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا . قال : " اذهب فاسقه عسلا " . فذهب فسقاه عسلا ، ثم جاء فقال يا رسول الله ، سقيته عسلا فما زاده إلا استطلاقا . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " صدق الله ، وكذب بطن أخيك . اذهب فاسقه عسلا " ، فذهب فسقاه عسلا ، فبرئ " .

ثم ساق الإِمام ابن كثير بعد ذلك جملة من الأحاديث في هذا المعنى ، منها : ما رواه البخاري ، عن ابن عباس قال : " الشفاء في ثلاثة : فى شرطة محجم ، أو شربة عسل ، أوكية بنار ، وأنهى أمتي عن الكي " .

وروى البخاري - أيضا - عن جابر بن عبد الله قال : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن كان في شئ من أدويتكم - أو يكون في شيء من أدويتكم - خير : ففي شرطة محجم ، أو شربة عسل ، أو لذعة بنار توافق الداء ، وما أحب أن أكتوي " .

وقال صاحب فتح البيان : وقد اختلف أهل العلم هل هذا الشفاء الذي جعله الله في العسل عام لكل داء ، أو خاص ببعض الأمراض ؟ .

فقال طائفة : هو على العموم في كل حال ولكل أحد .

وقالت طائفة أخرى : إن ذلك خاص ببعض الأمراض ، ولا يقتضى العموم في كل علة وفي كل إنسان ، وليس هذا بأول لفظ خصص في القرآن ، فالقرآن مملوء منه ، ولغة العربية يأتي فيها العام كثيرا بمعنى الخاص ، والخاص بمعنى العام .

ومما يدل على هذا ، أن العسل نكرة في سياق الإِثبات ، فلا يكون عاما باتفاق أهل اللسان . ومحققي أهل الأصول . وتنكيره إن أريد به التعظيم ، لا يدل إلا على أن فيه شفاء عظيما لمرض ، أو أمراض ، لا لكل مرض ، فإن تنكير التعظيم لا يفيد العموم .

ثم قال : قلت : وحديث البخاري : أن أخي استطلق بطنه . . أوضح دليل على ما ذهبت إليه طائفة من تعميم الشفاء ؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم " صدق الله " أي : أنه شفاء ، فلو كان لبعض دون بعض لم يكرر الأمر بالسقيا .

والذي نراه ، أن من الواجب علينا أن نؤمن إيمانا جازما بأن العسل المذكور فيه شفاء للناس ، كما صرح بذلك القرآن الكريم ، وكما أرشد إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم .

وعلينا بعد ذلك أن نفوض أمر هذا الشفاء وعموميته وخصوصيته لعلم الله - تعالى - وقدرته وحكمته ، ويكفينا يقينا في هذا المجال ، إصرار النبي صلى الله عليه وسلم على أن يقول للرجل الذي استطلق بطن أخيه أكثر من مرة ، " اذهب فاسقه عسلا " .

وقد تولى كثير من الأطباء شرح هذه الآية الكريمة شرحا علميا وافيا ، وبينوا ما اشتمل عليه عسل النحل من فوائد .

ثم ختم - سبحانه - : الآية الكريمة بقوله : { إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } .

أي : إن في ذلك الذي ذكرناه لكم من أمر النحل ؛ من إلهامها اتخاذ البيوت العجيبة ، ومن إدارتها لشئون حياتها بدقة متناهية ، ومن سلوكها الطرق التي جعلها الله مذللة في ذهابها وإيابها ، للحصول على قوام حياتها ، ومن خروج العسل من بطونها .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَٰتِ فَٱسۡلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلٗاۚ يَخۡرُجُ مِنۢ بُطُونِهَا شَرَابٞ مُّخۡتَلِفٌ أَلۡوَٰنُهُۥ فِيهِ شِفَآءٞ لِّلنَّاسِۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّقَوۡمٖ يَتَفَكَّرُونَ} (69)

{ ثم كُلي من كل الثمرات } ، من كل ثمرة تشتهينها مرها وحلوها . { فاسلُكي } ، ما أكلت . { سُبل ربك } ، في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النور المر عسلا من أجوافك ، أو { فاسلكي } الطرق التي ألهمك في عمل العسل ، أو فاسلكي راجعة إلى بيوتك { سبل ربك } ، لا تتوعر عليك ولا تلتبس . { ذُللاً } ، جمع ذلول ، وهي حال من السبل ، أي : مذللة ، ذللها الله تعالى وسهلها لك ، أو من الضمير في اسلكي ، أي : وأنت ذلل منقادة لما أمرت به . { يخرج من بطونها } ، كأنه عدل به عن خطاب النحل إلى خطاب الناس ؛ لأنه محل الإنعام عليهم ، والمقصود من خلق النحل وإلهامه لأجلهم . { شراب } ، يعني : العسل ؛ لأنه مما يشرب ، واحتج به من زعم أن النحل تأكل الأزهار والأوراق العطرة فتستحيل في بطنها عسلا ، ثم تقيء ادخارا للشتاء ، ومن زعم أنها تلتقط بأفواهها أجزاء طلية حلوة صغيرة متفرقة على الأوراق والأزهار ، وتضعها في بيوتها ادخارا ، فإذا اجتمع في بيوتها شيء كثير منها كان العسل ، فسر البطون بالأفواه . { مختلف ألوانه } ، أبيض وأصفر وأحمر وأسود ، بحسب اختلاف سن النحل والفصل . { فيه شفاء للناس } ، إما بنفسه كما في الأمراض البلغمية ، أو مع غيره كما في سائر الأمراض ؛ إذ قلما يكون معجون إلا والعسل جزء منه ، مع أن التنكير فيه مشعر بالتبعيض ، ويجوز أن يكون للتعظيم . وعن قتادة أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن أخي يشتكي بطنه فقال : " اسقه العسل " ، فذهب ثم رجع فقال : قد سقيته فما نفع فقال : " اذهب واسقه عسلا ، فقد صدق الله وكذب بطن أخيك " . فسقاه فشفاه الله تعالى فبرأ فكأنما أنشط من عقال . وقيل : الضمير للقرآن ، أو لما بين الله من أحوال النحل . { إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون } ، فإن من تدبر اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والأفعال العجيبة حق التدبر ، علم قطعا أنه لا بد له من خالق قادر حكيم يلهمها ذلك ويحملها عليه .