قوله تعالى : { تبارك } تفاعل من البركة . عن ابن عباس : معناه : جاء بكل بركة ، دليله قول الحسن : مجيء البركة من قبله . وقال الضحاك : تعظم ، { الذي نزل الفرقان } أي : القرآن ، { على عبده } محمد صلى الله عليه وسلم . { ليكون للعالمين نذيراً } أي : للجن والإنس . قيل : النذير هو القرآن . وقيل : محمد صلى الله عليه وسلم .
{ 1 - 2 ْ } { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ْ }
هذا بيان لعظمته الكاملة وتفرده [ بالوحدانية ]{[574]} من كل وجه وكثرة خيراته وإحسانه فقال : { تَبَارَكَ ْ } أي : تعاظم وكملت أوصافه وكثرت خيراته الذي من أعظم خيراته ونعمه أن نزل هذا القرآن الفارق بين الحلال والحرام والهدى والضلال وأهل السعادة من أهل الشقاوة ، { عَلَى عَبْدِهِ ْ } محمد صلى الله عليه وسلم الذي كمل مراتب العبودية وفاق جميع المرسلين ، { لِيَكُونَ ْ } ذلك الإنزال للفرقان على عبده { لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا ْ } ينذرهم بأس الله ونقمه ويبين لهم مواقع رضا الله من سخطه ، حتى إن من قبل نذارته وعمل بها كان من الناجين في الدنيا والآخرة الذين حصلت لهم السعادة الأبدية والملك السرمدي ، فهل فوق هذه النعمة وهذا الفضل والإحسان شيء ؟ فتبارك الذي هذا من بعض إحسانه وبركاته .
1- سورة الفرقان من السور المكية ، وعدد آياتها سبع وسبعون آية ، وكان نزولها بعد سورة " يس " . أما ترتيبها في المصحف فهي السورة الخامسة والعشرون .
ومن المفسرين الذين لم يذكروا خلافا في كونها مكية ، الإمام ابن كثير والإمام الرازي .
وقال القرطبي : هي مكية كلها في قول الجمهور . وقال ابن عباس وقتادة : إلا ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة ، وهي : [ والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ] إلى قوله –تعالى- : [ وكان الله غفورا رحيما ] .
2- وقد افتتحت هذه السورة الكريمة بالثناء على الله –تعالى- الذي نزل الفرقان على عبده محمد صلى الله عليه وسلم والذي له ملك السموات والأرض . . . والذي خلق كل شيء فقدره تقديرا .
قال –تعالى- : [ تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا . الذي له ملك السموات والأرض . ولم يتخذ ولدا . ولم يكن له شريك في الملك . وخلق كل شيء فقدره تقديرا ] .
3- ثم انتقلت السورة بعد ذلك إلى حكاية بعض أقوال المشركين الذين أثاروا الشبهات حول الرسول صلى الله عليه وسلم وحول دعوته ، وردت عليهم بما يمحق باطلهم ، وقارنت بين مصيرهم السيئ ، وبين ما أعده الله –تعالى- للمؤمنين من جنات .
قال –تعالى- : [ وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا* أو يلقي إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها ، وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ] .
4- وبعد أن يصور القرآن حسراتهم يوم الحشر ، وعجزهم عن التناصر ، يعود فيحكي جانبا من تطاولهم وعنادهم ، ويرد عليهم بما يكبتهم ، وبما يزيد المؤمنين ثباتا على ثباتهم .
قال –تعالى- : [ وقال الذين لا يرجون لقاءنا ، لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا ، لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا* يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا* وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا* أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقبلا ] .
5- ثم تحكي السورة جانبا من قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم . فيقول : [ ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا* فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا للظالمين عذابا أليما . . ] .
6- ثم تعود السورة مرة أخرى إلى الحديث عن تطاول هؤلاء الجاحدين على رسولهم صلى الله عليه وسلم وتعقب على ذلك بتسليته صلى الله عليه وسلم عما أصابه منهم فتقول : [ وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا . أهذا الذي بعث الله رسولا* إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صيرنا عليها ، وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا* أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا* أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون ؟ إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ] .
7- ثم تنتقل السورة الكريمة بعد ذلك إلى الحديث عن مظاهر قدرة الله –تعالى- فتسوق لنا مظاهر قدرته في مد الظل ، وفي تعاقب الليل والنهار ، وفي الرياح التي يرسلها –سبحانه- لتكون بشارة لنزول المطر ، وفي وجود برزخ بين البحرين ، وفي خلق البشر من الماء . . . ثم يعقب على ذلك بالتعجب من حال الكافرين ، الذين يعبدون من دونه –سبحانه- مالا ينفعهم ولا يضرهم . .
قال –تعالى- : [ ألم تر إلى ربك كيف مدّ الظل ولو شاء لجعله ساكنا ، ثم جعلنا الشمس عليه دليلا* ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا* وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا ] .
8- ثم تسوق السورة في أواخرها صورة مشرقة لعباد الرحمن ، الذين من صفاتهم التواضع ، والعفو عن الجاهل . وكثرة العبادة لله –تعالى- والتضرع إليه بأن يصرف عنهم عذاب جهنم ، وسلوكهم المسلك الوسط في إنفاقهم ، وإخلاصهم الطاعة لله –تعالى- وحده . واجتنابهم للرذائل التي نهى الله –عز وجل- عنها .
قال –تعالى- : [ وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا ، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما* والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما* والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما* إنها ساءت مستقرا ومقاما ] .
9- ومن هذا العرض المختصر لأبرز القضايا التي اهتمت بالحديث عنها السورة الكريمة ، نرى ما يأتي .
( أ ) أن السورة الكريمة قد ساقت ألوانا من الأدلة على قدرة الله –تعالى- وعلى وجوب إخلاص العبادة له ، وعلى الثناء عليه –سبحانه- بما هو أهله .
نرى ذلك في مثل قوله –تعالى- : [ تبارك الذي نزل الفرقان على عبده . . . ] [ تبارك الذي جعل في السماء بروجا . . . ] [ تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار . . . ] . وفي مثل قوله –تعالى- : [ وهو الذي مرج البحرين هذا عذاب فرات ، وهذا ملح أجاج ، وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا* وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا* ويعبدون من دون الله مالا ينفعهم ولا يضرهم ، وكان الكافر على ربه ظهيرا ] .
( ب ) أن السورة الكريمة زاخرة بالآيات التي تدخل الأنس والتسرية والتسلية والتثبيت على قلب النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن اتهمه المشركون بما هو برئ منه ، وسخروا منه ومن دعوته ، ووصفوا القرآن بأنه أساطير الأولين ، واستنكروا أن يكون النبي من البشر .
نرى هذه التهم الباطلة فيما حكاه الله عنهم في قوله –تعالى- : [ وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون ، فقد جاءوا ظلما وزورا* وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملي عليه بكرة وأصيلا ] . [ وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ] . [ وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا ] .
وترى التسلية والتسرية والتثبيت في قوله –تعالى- : [ انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا* تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورا ] .
[ وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضهم لبعض فتنة ، أتصبرون ، وكان ربك بصيرا ] .
[ وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ، كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا* ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ] .
وهكذا نرى السورة الكريمة زاخرة بالحديث عن الشبهات التي أثارها المشركون حول النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته ، وزاخرة –أيضا- بالرد عليها ردا يبطلها . ويزهقها . ويسلي النبي صلى الله عليه وسلم عما أصابه منهم ، ويزيد المؤمنين إيمانا على إيمانهم .
( ج ) أن السورة الكريمة مشتملة على آيات كثيرة ، تبين ما سيكون عليه المشركون يوم القيامة من هم وغم وكرب وحسرة وندامة وسوء مصير ، كما تبين ما أعده الله –تعالى- لعباده المؤمنين من عاقبة حسنة ، ومن جنات تجري من تحتها الأنهار .
فبالنسبة لسوء عاقبة المشركين نرى قوله –تعالى- : [ بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا* إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا* وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنا لك ثبورا* لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا ] .
ونرى قوله –تعالى- : [ ويوم بعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا* يا ويلتا ليتني لم أتخذ فلانا خليلا* لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني ، وكان الشيطان للإنسان خذولا ] .
وبالنسبة للمؤمنين نرى قوله –تعالى- : [ قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا* لهم فيها ما يشاءون خالدين كان على ربك وعدا مسئولا ] .
ونرى قوله –سبحانه- : [ وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ] . إلى قوله –تعالى- : [ خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما ] .
وهكذا نرى السورة تسوق آيات كثيرة في المقارنة بين مصير الكافرين ومصير المؤمنين . . وليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة . . .
هذه بعض الموضوعات التي اهتمت السورة الكريمة بتفصيل الحديث عنها ، وهناك موضوعات أخرى سنتحدث عنها –بإذن الله- عند تفسيرنا لآياتها .
وصلى الله على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين .
افتتحت السورة الكريمة بالثناء على الله - تعالى - ثناء يليق بجلاله وكماله .
ولفظ " تبارك " فعل ماض لا يتصرف . أى : لم يجىء منه مضارع ولا أمر ولا اسم فاعل : وهو مأخوذ من البركة بمعنى الكثرة من كل خير . وأصلها النماء والزيادة . أى : كثرة خيره وإحسانه ، وتزايدت بركاته .
أو مأخوذ من البَرْكَة بمعنى الثبوت . يقال : برك البعير ، إذا أناخ فى موضعه فلزمه وثبت فيه . وكل شىء ثبت ودام فقد برك . أى : ثبت ودام خيره على خلقه .
والفرقان : القرآن . وسمى بذلك لأنه يفرق بين الحق والباطل .
ونذيرا : من الإنذار ، وهو الإعلام المقترن بتهديد وتخويف .
أى : جل شأن الله - تعالى - وتكاثرت ودامت خيراته وبركاته ، لأنه - سبحانه - هو الذى نزل القرآن الكريم على عبده محمد صلى الله عليه وسلم ليكون " للعالمين " أى : للإنس وللجن " نذيرا " أى : منذرا إياهم بسوء المصير إن هم استمروا على كفرهم وشركهم .
وفى التعبير بقوله - تعالى - { تَبَارَكَ } إشعار بكثرة ما يفيضه - سبحانه - من خيرات وبركات على عباده ، وأن هذا العطاء ثابت مستقر ، وذلك يستلزم عظمته وتقدسه عن كل ما لا يليق بجلاله - عز وجل - .
ولم يذكر - سبحانه - لفظ الجلالة ، واكتفى بالاسم الموصول الذى نزل الفرقان ، لإبراز صلته - سبحانه - وإظهارها فى هذا المقام ، الذى هو مقام إثبات صدق رسالته التى أوحاها إلى نبيه صلى الله عليه وسلم .
وعبر - سبحانه - ب { نَزَّلَ } بالتضعيف ، لنزول القرآن الكريم مفرقا فى أوقات متعددة ، لتثبيت فؤاد النبى صلى الله عليه وسلم .
ووصف الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم بالعبودية ، وأضافها لذاته ، للتشريف والتكريم والتعظيم . وأن هذه العبودية لله - تعالى - هى ما يتطلع إليه البشر .
واختير الإنذار على التبشير . لأن المقام يقتضى ذلك ، إذ أن المشركين قد لجوا فى طغيانهم وتمادوا فى كفرهم وضلالهم ، فكان من المناسب تخويفهم من سوء عاقبة ما هم عليه من عناد .
وهذه الآية الكريمة تدل على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم للناس جميعا . حيث قال - سبحانه - : { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } أى : لعالم الإنس وعالم الجن ، وشيه بها قوله - تعالى - : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } وقوله - سبحانه - : { قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً . . }
سورة الفرقان مكية وآياتها سبع وسبعون
هذه السورة المكية تبدو كلها وكأنها إيناس لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وتسرية ، وتطمين له وتقوية وهو يواجه مشركي قريش ، وعنادهم له ، وتطاولهم عليه ، وتعنتهم معه ، وجدالهم بالباطل ، ووقوفهم في وجه الهدي وصدهم عنه .
فهي في لمحة منها تصور الإيناس اللطيف الذي يحيط به الله عبده ورسوله ؛ وكأنما يمسح على آلامه ومتاعبه مسحا رفيقا ؛ ويهدهد قلبه ، ويفيض عليه من الثقة والطمأنينة ، وينسم عليه من أنسام الرعاية واللطف والمودة .
وهي في اللمحة الأخرى تصور المعركة العنيفة مع البشرية الضالة الجاحدة المشاقة لله ورسوله ، وهي تجادل في عنف ، وتشرد في جموح ، وتتطاول في قحة ، وتتعنت في عناد ، وتجنح عن الهدى الواضح الناطق المبين .
إنها البشرية التي تقول عن هذا القرآن العظيم : ( إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون ) . . أو تقول : ( أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا )والتي تقول عن محمد رسول الله الكريم : ( إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ) . . أو تقول في استهزاء : ( أهذا الذي بعث الله رسولا ? ) . . والتي لا تكتفي بهذا الضلال ، فإذا هي تتطاول في فجور على ربها الكبير : ( وإذا قيل لهم : اسجدوا للرحمن قالوا : وما الرحمن ? أنسجد لما تأمرنا ? وزادهم نفورا ) . أو تتعنت فتقول : لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا ? .
وهي هي من قديم كما يرسمها سياق السورة من عهد نوح إلى موقفها هذا الأخير مع رسولها الأخير . . لقد اعترض القوم على بشرية الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] فقالوا : ( ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ? لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ! ) .
واعترضوا على حظه من المال ، فقالوا : ( أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها ) .
واعترضوا على طريقة تنزيل القرآن فقالوا : ( لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة ! ) .
وذلك فوق التكذيب والاستهزاء والقحة والافتراء الأثيم .
ووقف الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يواجه هذا كله ، وهو وحيد فريد مجرد من الجاه والمال ، ملتزم حده مع ربه لا يقترح عليه شيئا ، ولا يزيد على أن يتوجه إليه مبتغيا رضاه ، ولا يحفل بشيء سواه : " رب إلا يكن بك علي غضب فلا أبالي . لك العتبى حتى ترضى " . .
فهنا في هذه السورة يؤويه ربه إلى كنفه ، ويمسح على آلامه ومتاعبه ، ويهدهده ويسري عنه ، ويهون عليه مشقة ما يلقى من عنت القوم وسوء أدبهم وتطاولهم عليه ، بأنهم يتطاولون على خالقهم ورازقهم ، وخالق هذا الكون كله ومقدره ومدبره . . فلا عليه أن ينالوه بشيء من ذاك ! ( ويعبدون من دون الله مالا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا ) . . ( واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ، ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا ) . . ( وإذا قيل لهم : اسجدوا للرحمن قالوا : وما الرحمن ? ) . .
ويعزيه عن استهزائهم به بتصوير المستوى الهابط الذي يتمرغون فيه : ( أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا ? أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون ? إن هم إلا كالأنعام ، بل هم أضل سبيلا ! ) .
ويعده العون والمساعدة في معركة الجدل والمحاجة : ( ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ) . . وفي نهاية المعركة كلها يعرض عليه مصارع المكذبين من قبل : قوم موسى ونوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وما بين ذلك من قرون .
ويعرض عليه نهايتهم التعيسة في سلسلة من مشاهد القيامة : ( الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا ) . . ( بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا . إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا . وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا . لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا ادعوا ثبورا كثيرا ) ( ويوم يعض الظالم على يديه يقول : يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا . يا ويلتا ! ليتني لم أتخذ فلانا خليلا ) . .
ويسليه بأن مثله مثل الرسل كلهم قبله : ( وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ) . . ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين . وكفى بربك هاديا ونصيرا ) .
ويكلفه أن يصبر ويصابر ، ويجاهد الكافرين بما معه من قرآن ، واضح الحجة قوي البرهان عميق الأثر في الوجدان : ( فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا ) . .
ويغريه على مشاق الجهاد بالتوكل على مولاه ( وتوكل علي الحي الذي لا يموت وسبح بحمده ، وكفى به بذنوب عباده خبيرا . .
وهكذا تمضي السورة : في لمحة منها إيناس وتسرية وعطف وإيواء من الله لرسوله . وفي لمحة منها مشاقة وعنت من المشركين لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وتتبير ونكال من الله الكبير المتعال . حتى تقرب من نهايتها ، فإذا ريح رخاء وروح وريحان ، وطمأنينة وسلام . . وإذا صورة ( عباد الرحمن ) . . ( الذين يمشون على الأرض هونا ، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما . . . )وكأنما تتمخض عنهم معركة الجهادالشاقة مع البشرية الجاحدة الضالة المعاندة المشاقة ؛ وكأنما هم الثمرة الحلوة الجنية الممثلة للخير الكامن في شجرة البشرية ذات الأشواك .
وتختم السورة بتصوير هوآن البشرية على الله ، لولا تلك القلوب المؤمنة التي تلتجىء إليه وتدعوه : ( قل : ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم . فقد كذبتم فسوف يكون لزاما ) . .
هذه هي ظلال السورة ؛ وذلك هو محورها الذي تدور عليه ، وموضوعها الذي تعالجه . وهي وحدة متصلة ، يصعب فصل بعضها عن بعض . ولكن يمكن تقسيمها إلى أربعة أشواط في علاج هذا الموضوع .
يبدأ الشوط الأول منها بتسبيح الله وحمده على تنزيل هذا القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيرا . وبتوحيد الله المالك لما في السماوات والأرض ، المدبر للكون بحكمة وتقدير ، ونفي الولد والشريك . ثم يذكر اتخاذ المشركين مع ذلك آلهة من دونه لا يخلقون شيئا وهم يخلقون . . كل أولئك قبل أن يحكي مقولاتهم المؤذية عن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] من تكذيبه فيما جاءهم به ، وادعائهم أنه إفك افتراه ، وأنه أساطير الأولين اكتتبها . وقبل أن يحكي اعتراضاتهم على بشرية الرسول وحاجته للطعام والمشي في الأسواق ، واقتراحاتهم أن ينزل عليه ملك أو يلقى إليه كنز ، أو تكون له جنة يأكل منها . وقحتهم في وصفه [ صلى الله عليه وسلم ] بأنه رجل مسحور . . وكأنما يسبق بمقولاتهم الجاحده لربهم كي يهون على نفس الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] مقولاتهم عنه وعن رسالته . . ومن ثم يعلن ضلالهم وتكذيبهم بالساعة ، ويتوعدهم بما أعده الله لهم من سعير ، يلقون فيها مكانا ضيقا مقرنين . ويعرض في الصفحة المقابلة صورة المؤمنين في الجنة . ( لهم فيها ما يشاءون خالدين ) . . ويستمر في عرض مشهدهم يوم الحشر ، ومواجهتهم بما كانوا يعبدون من دون الله ، وتكذيب هؤلاء لهم فيما كانوا يدعون على الله من شرك . . وينتهي هذا الشوط بتسلية الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] بأن الرسل جميعا كانوا بشرا مثله ، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق .
ويبدأ الشوط الثاني بتطاول المكذبين بلقاء الله على الله ، وقولهم : ( لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا ) . ويعاجلهم بمشهد اليوم الذي يرون فيه الملائكة . . ( وكان يوما على الكافرين عسيرا ) . . ( ويوم يعض الظالم على يديه يقول : يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ) . . ليكون في ذلك تأسية للرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وهم يهجرون القرآن ، وهو يشكو لربه هذا الهجران . وهم يعترضون على طريقة تنزيله ويقولون ( لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة ) . ويعقب على هذا الاعتراض بمشهدهم يوم القيامة يحشرون على وجوههم ، وهم المكذبون بيوم القيامة ، وبتصوير عاقبة المكذبين قبلهم من قوم موسى وقوم نوح ، وعاد وثمود وأصحاب الرس والقرون الكثيرة بين ذلك ، ويعجب من أمرهم وهم يمرون على قرية لوط المدمرة ولا يعتبرون . فيهون بذلك كله من وقع تطاولهم على الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] وقولهم : ( أهذا الذي بعث الله رسولا ? )ثم يعقب على هذا الاستهزاء بتحقيرهم ووضعهم في صف الأنعام بل دون ذلك : ( إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ) .
والشوط الثالث جولة في مشاهد الكون تبدأ بمشهد الظل ، وتستطرد إلى تعاقب الليل والنهار ، والرياح المبشرة بالماء المحيي ، وخلقة البشر من الماء . ومع هذا فهم يعبدون من دون الله ما لاينفعهم ولا يضرهم ، ويتظاهرون على ربهم وخالقهم ، ويتطاولون في قحة إذا دعوا إلى عبادة الله الحق . . ( وإذا قيل لهم : اسجدوا للرحمن قالوا : وما الرحمن ? ) . . وهو الذي( جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرامنيرا . وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ) . . ولكنهم هم لا يتذكرون ولا يشكرون . .
ثم يجيء الشوط الأخير يصور ( عباد الرحمن )الذين يسجدون له ويعبدونه ، ويسجل مقوماتهم التي استحقوا بها هذه الصفة الرفيعة . ويفتح باب التوبة لمن يرغب في أن يسلك طريقة عباد الرحمن . ويصور جزاءهم على صبرهم على تكاليف الإيمان والعبادة : ( أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاما ) .
وتختم السورة بتقرير هوان البشرية على الله لولا هذه القلوب الطائعة المستجيبة العارفة بالله في هذا القطيع الشارد الضال من المكذبين والجاحدين . .
وفي هذا الهوان تهوين لما يلقاه منهم رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فهو يتفق مع ظل السورة وجوها ، ويتفق مع موضوعها وأهدافها ، على طريقة التناسق الفني في القرآن .
والآن نبدأ الشوط الأول بالتفصيل :
تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا . الذي له ملك السماوات والأرض ، ولم يتخذ ولدا ، ولم يكن له شريك في الملك ، وخلق كل شيء فقدره تقديرا . واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ، ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ، ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا . .
إنه البدء الموحي بموضوع السورة الرئيسى : تنزيل القرآن من عند الله ، وعموم الرسالة إلى البشر جميعا . ووحدانية الله المطلقة ، تنزيهه عن الولد والشريك ، وملكيته لهذا الكون كله ، وتدبيره بحكمة وتقدير . . وبعد ذلك كله يشرك المشركون ، ويفتري المفترون ، ويجادل المجادلون ، ويتطاول المتطاولون !
( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا ) . .
والتبارك تفاعل من البركة ، يوحي بالزيادة فيها والفيض والرفعة جميعا . ولم يذكر لفظ الجلالة واكتفى بالاسم الموصول ( الذي نزل الفرقان )لإبراز صلته وإظهارها في هذا المقام ، لأن موضوع الجدل في السورة هو صدق الرسالة وتنزيل القرآن .
وسماه الفرقان . بما فيه من فارق بين الحق والباطل ، والهدي والضلال . بل بما فيه من تفرقة بين نهج في الحياة ونهج ، وبين عهد للبشرية وعهد . فالقرآن يرسم منهجا واضحا للحياة كلها في صورتها المستقرة في الضمير ، وصورتها الممثلة في الواقع . منهجا لا يختلط بأي منهج آخر مما عرفته البشرية قبله . ويمثل عهدا جديدا للبشرية في مشاعرها وفي واقعها لا يختلط كذلك بكل ما كان قبله . فهو فرقان بهذا المعنى الواسع الكبير . فرقان ينتهي به عهد الطفولة ويبدأ به عهد الرشد . وينتهي به عهد الخوارق المادية ويبدأ به عهد المعجزات العقلية . وينتهي به عهد الرسالات المحلية الموقوتة ويبدأ به عهد الرسالة العامة الشاملة : ( ليكون للعالمين نذيرا ) .
وفي موضع التكريم لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وفي مقام التعظيم يصفه بالعبودية : على عبده . . كذلك وصفه في مقام الإسراء والمعراج في سورة الإسراء : ( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ) . وكذلك وصفه في مقام دعائه ومناجاته في سورة الجن : ( وأنه لما قام عبد الله يدعوه . . . )وكذلك يصفه هنا في مقام تنزيل الفرقان عليه كما وصفه في مثل هذا المقام في مطلع سورة الكهف :
( الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا . . . )والوصف بالعبودية في هذه المواضع له دلالته على رفعة هذا المقام ، وأنه أرفع ما يرتفع إليه بشر من بني الإنسان . كما أن فيه تذكيرا خفيا بأن مقام البشرية حين يبلغ مداه لا يزيد على أن يكون مقام العبودية لله . ويبقى مقام الألوهية متفردا بالجلالة ، متجردا من كل شبهة شرك أو مشابهة . ذلك أن مثل مقام الإسراء والمعراج ، أو مقام الدعاء والمناجاة ، أو مقام الوحي والتلقي ، كان مزلة لبعض أتباع الرسل من قبل ، منها نشأت أساطير البنوة لله ، أو الصلة القائمة على غير الألوهية والعبودية . ومن ثم يحرص القرآن على توكيد صفة العبودية في هذه المقام ، بوصفها أعلى أفق يرتفع إليه المختارون من بني الإنسان .
ويرسم الغاية من تنزيل الفرقان على عبده . . ( ليكون للعالمين نذيرا ) . . وهذا النص مكي ، وله دلالته على إثبات عالمية هذه الرسالة منذ أيامها الأولى . لا كما يدعي بعض ؛ المؤرخين غير المسلمين ، أن الدعوة الإسلامية نشأت محلية ، ثم طمحت بعد اتساع رقعة الفتوح أن تكون عالمية . فهي منذ نشأتها رسالة للعالمين . طبيعتها طبيعة عالمية شاملة ، ووسائلها وسائل إنسانية كاملة ؛ وغايتها نقل هذه البشرية كلها من عهد إلى عهد ، ومن نهج إلى نهج . عن طريق هذا الفرقان الذي نزله الله على عبده ليكون للعالمين نذيرا ، فهي عالمية للعالمين والرسول يواجه في مكة بالتكذيب والمقاومة والجحود . .
القول في تأويل قوله تعالى : { تَبَارَكَ الّذِي نَزّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىَ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } .
قال أبو جعفر : تبارك : تَفاعَلَ من البركة ، كما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، قال : حدثنا أبو رَوق ، عن الضحاك ، عن عبد الله بن عباس ، قال : تبارك : تَفَاعَلَ من البركة .
وهو كقول القائل : تقدّس ربنا ، فقوله : تَبارَكَ الّذِي نَزّلَ الفُرْقانَ يقول : تبارك الذي نزّل الفصل بين الحقّ والباطل ، فصلاً بعد فصل وسورة بعد سُورة ، على عبده محمد صلى الله عليه وسلم ، ليكون محمد لجميع الجنّ والإنس الذين بعثه الله إليهم داعيا إليه ، نذيرا : يعني منذِرا يُنذرهم عِقابه ويخوّفهم عذابه ، إن لم يوحدوه ولم يخلصوا له العبادة ويخلعوا كلّ ما دونه من الاَلهة والأوثان .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : تَبارَكَ الّذِي نَزّلَ الفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ ليَكُونَ للْعالَمِينَ نَذِيرا قال : النبيّ النذير . وقرأ : وَإنْ مِنْ أُمّةٍ إلاّ خَلا فِيها نَذِيرٌ وقرأ : وَما أهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إلاّ لَهَا مُنْذِرُونَ قال : رسل . قال : المنذرون : الرسل . قال : وكان نذيرا واحدا بلّغ ما بين المشرق والمغرب ، ذو القرنين ، ثم بلغ السدّين ، وكان نذيرا ، ولم أسمع أحدا يُحِقّ أنه كان نبيّا . وأُوحِيَ إليّ هذَا القُرآنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ قال : من بلغه القرآن من الخلق ، فرسول الله نذيره . وقرأ : يا أيّها النّاسُ إنّي رَسُولُ اللّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعا وقال : لم يرسل الله رسولاً إلى الناس عامة إلاّ نوحا ، بدأ به الخلق ، فكان رسولَ أهل الأرض كلهم ، ومحمد صلى الله عليه وسلم خَتَم به .