معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ إِلَّآ أَن يَأۡتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة الطلاق

مدنية وآياتها اثنتا عشرة

{ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } نادى الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم خاطب أمته ، لأنه السيد المقدم ، فخطاب الجميع معه . وقيل : مجازه : يا أيها الرسول قل لأمتك { إذا طلقتم النساء } أي : إذا أردتم تطليقهن ، كقوله عز وجل : { فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله }( النحل- 98 ) أي : إذا أردت القراءة . { فطلقوهن لعدتهن } أي لطهرهن بالذي يحصينه من عدتهن . وكان ابن عباس وابن عمر يقرآن : فطلقوهن في قبل عدتهن . نزلت هذه الآية في عبد الله بن عمر كان قد طلق امرأته في حال الحيض .

أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد الفقيه ، أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي ، أنبأنا مصعب ، عن مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر " أنه طلق امرأته وهي حائض في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال : يا عمر مره فليراجعها ، ثم ليمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض ثم تطهر ، ثم إن شاء أمسك بعد ، وإن شاء طلق قبل أن يمس ، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء " . ورواه سالم عن ابن عمر قال : " مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهراً أو حاملاً " . ورواه يونس بن جبير وأنس بن سيرين عن ابن عمر ، ولم يقولا : ثم تحيض ثم تطهر .

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنبأنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنبأنا أبو العباس الأصم ، أنبأنا الربيع ، أنبأنا الشافعي ، أنبأنا مسلم وسعيد بن سالم ، عن ابن جريج قال : أخبرني أبو الزبير أنه " سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عزة يسأل عبد الله بن عمر -وأبو الزبير يسمع- فقال : كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضاً ؟ فقال ابن عمر : طلق عبد الله بن عمر امرأته حائضاً ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : " مره فليراجعها فإذا طهرت فليطلق أو ليمسك " قال ابن عمر : وقال الله عز وجل : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن } في قبل لعدتهن ، أو لقبل عدتهن ، الشافعي يشك . ورواه حجاج بن محمد عن ابن جريج ، وقال : قال ابن عمر : وقرأ الرسول صلى الله عليه وسلم : يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن . { فصل } اعلم أن الطلاق في حال الحيض والنفاس ، وكذلك في الطهر الذي جامعها فيه بدعة ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " وإن شاء طلق قبل أن يمس " . والطلاق السني : أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه . وهذا في حق امرأة تلزمها العدة بالأقراء . فأما إذا طلق غير المدخول بها في حال الحيض ، أو طلق الصغيرة التي لم تحض قط ، والآيسة بعدما جامعها ، أو طلق الحامل بعد ما جامعها ، أو في حال رؤية الدم ، لا يكون بدعياً . ولا سنة ولا بدعة في طلاق هؤلاء ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " ثم ليطلقها طاهراً أو حاملاً " . والخلع في حال الحيض أو في طهر جامعها فيه لا يكون بدعياً لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لثابت بن قيس في مخالعة زوجته من غير أن يعرف حالها ، ولولا جوازه في جميع الأحوال لأشبه أن يتعرف الحال . ولو طلق امرأته في حال الحيض أو في طهر جامعها فيه قصداً يعصي الله تعالى ، ولكن يقع الطلاق لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر ابن عمر بالمراجعة ولولا وقوع الطلاق لكان لا يأمره بالمراجعة ، وإذا راجعها في حال الحيض يجوز أن يطلقها في الطهر الذي يعقب تلك الحيضة قبل المسيس ، كما رواه يونس بن جبير وأنس عن سيرين عن ابن عمر . وما رواه نافع : " ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر " . فاستحباب ، استحب تأخير الطلاق إلى الطهر الثاني حتى لا يكون مراجعته إياها للطلاق ، كما يكره النكاح للطلاق . ولا بدعة في الجمع بين الطلقات الثلاث ، عند بعض أهل العلم ، حتى لو طلق امرأته في حال الطهر ثلاثاً لا يكون بدعياً ، وهو قول الشافعي وأحمد . وذهب بعضهم إلى أنه بدعة ، وهو قول مالك وأصحاب الرأي . قوله عز وجل : { وأحصوا العدة } أي عدد أقرائها ، احفظوها ، قيل : أمر بإحصاء العدة لتفريق الطلاق على الأقراء إذا أراد أن يطلق ثلاثاً . وقيل : للعلم ببقاء زمان الرجعة ومراعاة أمر النفقة والسكنى . { واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن } أراد به إذا كان المسكن الذي طلقها فيه للزوج لا يجوز له أن يخرجها منه ، { ولا يخرجن } ولا يجوز لها أن تخرج ما لم تنقض العدة فإن خرجت لغير ضرورة أو حاجة أثمت ، فإن وقعت ضرورة -وإن خافت هدماً أو غرقاً- لها أن تخرج إلى منزل آخر ، وكذلك إن كان لها حاجة من بيع غزل أو شراء قطن فيجوز لها الخروج نهاراً ولا يجوز ليلاً فإن رجالاً استشهدوا بأحد فقالت نساؤهم : نستوحش في بيوتنا ، فأذن لهن الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتحدثن عند إحداهن ، فإذا كان وقت النوم تأوي كل امرأة إلى بيتها ، وأذن النبي صلى الله عليه وسلم لخالة جابر حين طلقها زوجها أن تخرج لجذاذ نخلها . وإذا لزمتها العدة في السفر تعتد في أهلها ذاهبة وجائية ، والبدوية تتبوأ حيث يتبوأ أهلها في العدة ، لأن الانتقال في حقهم كالإقامة في حق المقيم . قوله : { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } قال ابن عباس : الفاحشة المبينة : أن تبذأ على أهل زوجها ، فيحل إخراجها . وقال جماعة : أراد بالفاحشة : أن تزني ، فتخرج لإقامة الحد عليها ، ثم ترد إلى منزلها ، يروى ذلك عن ابن مسعود . وقال قتادة : معناه إلا أن يطلقها على نشوزها ، فلها أن تتحول من بيت زوجها والفاحشة : النشوز . وقال ابن عمر ، والسدي : خروجها قبل انقضاء العدة فاحشة . { وتلك حدود الله } يعني : ما ذكر من سنة الطلاق وما بعدها ، { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } يوقع في قلب الزوج مراجعتها بعد الطلقة والطلقتين . وهذا يدل على أن المستحب أن يفرق الطلقات ، ولا يوقع الثلاث دفعة واحدة ، حتى إذا ندم أمكنته المراجعة .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ إِلَّآ أَن يَأۡتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة الطلاق

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة وتمهيد

1- سورة " الطلاق " من السور المدنية الخالصة ، وقد سماها عبد الله بن مسعود بسورة النساء القصري ، أما سورة النساء الكبرى فهي التي بعد سورة آل عمران .

وكان نزولها بعد سورة " الإنسان " وقبل سورة " البينة " ، وترتيبها بالنسبة للنزول : السادسة والتسعون ، أما ترتيبها بالنسبة لترتيب المصحف ، فهي السورة الخامسة والستون .

2- وعدد آياتها إحدى عشرة آية في المصحف البصري ، وفيما عداه اثنتا عشرة آية .

3- ومعظم آياتها يدور حول تحديد أحكام الطلاق ، وما يترتب عليه من أحكام العدة ، والإرضاع ، والإنفاق ، والسكن ، والإشهاد على الطلاق ، وعلى المراجعة .

وخلال ذلك تحدثت السورة الكريمة حديثا جامعا عن وجوب تقوى الله –تعالى- وعن مظاهر قدرته ، وعن حسن عاقبة التوكل عليه ، وعن يسره في تشريعاته ، وعن رحمته بهذه الأمة حيث أرسل فيها رسوله صلى الله عليه وسلم ليتلو على الناس آيات الله –تعالى- ويخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان بإذنه –سبحانه- .

افتتح الله - تعالى - السورة الكريمة بتوجيه النداء إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال : { ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ العدة } .

وأحكام الطلاق التى وردت فى هذه الآية ، تشمل النبى - صلى الله عليه وسلم - كما تشمل جميع المكلفين من أمته - صلى الله عليه وسلم - .

وإنما كان النداء له - صلى الله عليه وسلم - وكان الخطاب بالحكم عاما له ولأمته ، تشريفا وتكريما له - صلى الله عليه وسلم - لأنه هو المبلغ للناس ، وهو إمامهم وقدوتهم لأحكام الله - تعالى - فيهم .

قال صاحب الكشاف : خُصَّ النبى - صلى الله عليه وسلم - بالنداء ، وعُمًّ بالخطاب ، لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - إمام أمته وقدوتهم ، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم : يا فلان : افعلوا كيت وكيت ، وإظهارا لتقدمه ، واعتبارا لترؤسه ، وأنه مِدْرة قومه ولسانهم - والمدرة : القرية .

أى : أنه بمنزلة القرية لقومه ، وأنه الذى يصدرون عن رأيه ، ولا يستبدون بأمر دونه ، فكان هو وحده فى حكم كلهم ، وساد مسد جميعهم .

وهذا التفسير الذى اقتصر عليه صاحب الكشاف ، هو المعول عليه ، وهو الذى يناسب بلاغة القرآن وفصاحته ، ويناسب مقام النبى - صلى الله عليه وسلم - .

وقيل : الخطاب له ولأمته : والتقدير : يأيها النبى وأمته إذا طلقتم ، فحذف المعطوف لدلالة ما بعده عليه .

وقيل : هو خطاب لأمته فقط ، بعد ندائه - عليه السلام - وهو من تلوين الخطاب ، خاطب أمته بعد أن خاطبه .

وقيل : إن الكلام على إضمار قول ، أى : يأيها النبى قل لأمتك إذا طلقتم .

والحق أن الذى يتدبر القرآن الكريم ، يرى أن الخطاب والأحكام المترتبة عليه ، تارة تكون خاصة به - صلى الله عليه وسلم - كما فى قوله - تعالى - : { ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } وتارة يكون شاملا له - صلى الله عليه وسلم - ولأمته كما فى هذه الآية التى معنا ، وكما فى قوله - تعالى - : { ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ } وتارة يكون - صلى الله عليه وسلم - خارجا عنه كما فى قوله - تعالى - : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } فصيغة الخطاب هنا وإن كانت موجهة إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - إلا إنه ليس داخلا فيها ، لأن والديه لم يكونا موجودين عند نزول هاتين الآيتين .

والمراد بقوله : { إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء } أى : إذا أردتم تطليقهن ، لأن طلاق المطلقة من باب تحصيل الحاصل .

وهذا الأسلوب يرد كثيرا فى القرآن الكريم ، ومنه قوله - تعالى - : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ . . } أى : إذا أردتم القيام للصلاة فاغسلوا .

والمراد بالنساء هنا : الزوجات المدخول بهن ، لأن غير المدخول بهن خرجن بقوله - تعالى - : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } واللام فى قوله - سبحانه - : فطلقوهن لعدتهن ، هى التى تسمى بلام التوقيت ، وهى بمعنى عند ، أو بمعنى فى ، كما يقول القائل : كتبت هذا الكتاب لعشر مضين من شهر كذا .

ومنه قوله - تعالى - : { أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس . . } أى عند أو فى وقت دلوكها .

وقوله : { وَأَحْصُواْ العدة } من الإحصاء بمعنى العد والضبط ، وهو مشتق من الحصى ، وهى من صغار الحجارة ، لأن العرب كانوا إذا كثر عدد الشىء ، جعلوا لكل واحد من المعدود حصاة ، ثم عدوا مجموع ذلك الحصى .

والمراد به هنا : شدة الضبط ، والعناية بشأن العد ، حتى لا يحصل خطأ فى وقت العدة . والمعنى : يأيها النبى ، أخبر المؤمنين ومرهم ، إذا أرادوا تطليق نسائهم المدخول بهن ، من المعتدات بالحيض ، فعليهم أن يطلقوهن فى وقت عدتهن .

وعليهم كذلك أن يضبطوا أيام العدة ضبطا تاما حتى لا يقع فى شأنها خطأ أو لبس .

قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : خوطب النبى - صلى الله عليه وسلم - أولا تشريفا وتكريما ، ثم خاطب الأمة تبعا ، فقال : { ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُواْ العدة . . } .

روى ابن أبى حاتم عن أنس قال : طلق النبى - صلى الله عليه وسلم - حفصة ، فأتت أهلها ، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية . وقيل له : راجعها فإنها صوامة قوامة ، وهى من أزواجك فى الجنة .

وروى البخارى أن عبد الله بن عمر ، طلق امرأة له وهى حائض ، فذكر عمر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك ، فتغيظ - صلى الله عليه وسلم - ثم قال : فليراجعها ، ثم يمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض فتطهر ، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل أن يمسها ، فتلك العدى التى أمر الله - تعالى - .

ثم قال - رحمه الله - : ومن ها هنا أخذ الفقهاء أحكام الطلاق ، وقسموه إلى طلاق سنة ، وطلاق بدعة .

فطلاق السنة : أن يطلقها طاهرا من غير جماع ، أو حاملا قد استبان حملها .

والبدعى : هو أن يطلقها فى حال الحيض ، - وما يشبهه كالنفاس - ، أو فى طهر قد جامعها فيه ، ولا يدرى أحملت أم لا ؟ .

وتعليق { طَلَّقْتُمُ } بإذا الشرطية ، يشعر بأن الطلاق خلاف الأصل ، إذ الأصل فى الحياة الزوجية أن تقوم على المودة والرحمة ، وعلى الدوام والاستقرار .

قال - تعالى - : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً . . . } قال القرطبى : روى الثعلبى من حديث ابن عمر قال : قال رسول - صلى الله عليه وسلم - " إن من أبغض الحلال إلى الله الطلاق " .

وعن أبى موسى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تطلقوا النساء إلا من ريبة فإن الله - عز وجل - لا يحب الذواقين ولا الذواقات " .

وعن أنس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ما حلف بالطلاق ، ولا استحلف به إلا منافق " .

والمراد بالأمر فى قوله - تعالى - : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } إرشاد المؤمنين إلى ما يجب عليهم اتباعه إذا ما أرادوا مفارقة أزواجهم ، ونهيهم عن إيقاع الطلاق فى حال الحيض أو ما يشبهها كالنفاس ، لأن ذلك يكون طلاقا بديعا محرما ، إذ يؤدى إلى تطويل عدة المرأة لأن بقية أيام الحيض لا تحسب من العدة ، ويؤدى - أيضا - إلى عدم الوفاء لها ، حيث طلقها فى وقت رغبته فيها فاترة .

ولكن الطلاق مع ذلك يعتبر واقعا ونافذا عند جمهور العلماء .

قال القرطبى : من طلق فى طهر لم يجامع فيه ، نفذ طلاقه وأصاب السنة ، وإن طلقها وهى حائض نفذ طلاقه وأخطأ السنة .

وقال سعيد بن المسبب : لا يقع الطلاق فى الحيض لأنه خلاف السنة ، وإليه ذهبت الشيعة .

وفى الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال : " طلقت امرأتى وهى حائض ، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتغيظ وقال : فليراجعها ثم فليمسكها حتى تحيض حيضة مستقبلة سوى حيضتها التى طلقها فيها " .

وكان عبد الله بن عمر قد طلقها تطليقة ، فحسبت من طلاقها ، وراجعها عبد الله بن عمر كما أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .

وفى رواية أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال له : " هى واحدة " وهذا نص . وهو يرد على الشيعة قولهم .

وقد بسط الفقهاء وبعض المفسرين الكلام فى هذه المسألة فليرجع إليها من شاء .

والمخاطب بقوله { وَأَحْصُواْ العدة } الأزواج على سبيل الأصالة ، لأنهم هم المخاطبون بقوله { طَلَّقْتُمُ } وبقوله { فَطَلِّقُوهُنَّ } ، ويدخل معهم الزوجات على سبيل التبع ، وكذلك كل من له صلة بهذا الحكم ، وهو إحصاء العدة .

ثم أمر - سبحانه - بتقواه فقال : { واتقوا الله رَبَّكُمْ } أى ، واتقوا الله ربكم ، بأن تصونوا أنفسم عن معصيته ، التى من مظاهرها إلحاق الضرر بأزواجكم ، بتطليقهن فى وقت حيضهن . أو فى غير ذلك من الأوقات المنهى عن وقوع الطلاق فيها .

فالمقصود بهذه الجملة الكريمة : التحذير من التساهل فى أحكام الطلاق والعدة ، كما كان أهل الجاهلية يفعلون .

وجمع - سبحانه - بين لفظ الجلالة ، وبين الوصف بربكم ، لتأكيد الأمر بالتقوى ، وللمبالغة فى وجوب المحافظة على هذه الأحكام .

ثم بين - سبحانه - حكما آخر يتعلق بالأزواج والزوجات فقال : { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } .

والجملة الكريمة مستأنفة ، أو حال من ضمير { وَأَحْصُواْ العدة } أى : حالة كون العدة فى بيوتهن ، والخطاب للأزواج ، والزوجات ، والاستثناء مفرغ من أعم الأحوال والأساليب .

والفاحشة : الفعلة البالغة الغاية فى القبح والسوء ، وأكثر إطلاقها على الزنا .

وقوله : { مُّبَيِّنَةٍ } صفة للفاحشة ، وقراءة الجمهور - بكسر الياء - أى : بفاحشة توضح لمن تبلغه أنها فاحشة لشدة قبحها .

وقرأ ابن كثير { مُّبَيَّنَةٍ } بفتح الياء - أى : بفاحشة قامت الحجة على مرتكيبيها قياما لا مجال معه للمناقشة أو المجادلة .

أى : واتقوا الله ربكم - أيها المؤمنون - فيما تأتون وتذرون ، ومن مظاهر هذه التقوى ، أنكم لا تخرجون زوجاتكم المطلقات من مساكنهن إلى أن تنقضى عدتهن ، وهن - أيضا - لا يخرجن منها بأنفسهن فى حال من الأحوال ، إلا فى حال إتيانهن بفاحشة عظيمة ثبتت عليهن ثبوتا واضحا .

فالمقصود بالجملة الكريمة نهى الأزواج عن إخراج المطلقات المعتدات من مساكنهن عند الطلاق إلى أن تنتهى عدتهن ، ونهى المعتدات عن الخروج منها إلا عند اتركابهن الفاحشة الشديدة القبح .

وأضاف - سبحانه - البيوت إلى ضمير النساء فقال : { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ } للإشعار بأن استحقاقهن للمكث فى بيوت أزواجهن مدة عدتهن كاستحقاق المالك لما يملكه ، ولتأكيد النهى عن الإخراج والخروج .

وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة ، أن المطلقة لا يصح إخراجها أو خروجها من بيت الزوجية ما دامت فى عدتها ، إلا لأمر ضرورى .

قال الألوسى ما ملخصه : وقوله : { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ } أى : من مساكنهن عند الطلاق إلى أن تنقضى عدتهن . . . وعدم العطف للإيذان باستقلاله بالطلب اعتناء به ، والنهى عن الإخراج يتناول بمنطوقة عدم إخراجهن غضبا عليهن ، أو كراهة لمساكنتهن . . . ويتناول بإشارته عدم الإذن لهن بالخروج ، لأن خروجهن محرم ، لقوله - تعالى - : { وَلاَ يَخْرُجْنَ } فكأنه قيل : لا تخرجوهن ، ولا تأذنوا لهن فى الخروج إذا طلبن ذلك ، ولا يخرجن بأنفسهن إن أردن ، فهناك دلالة على أن سكونهن فى البيوت حق للشرع مؤكد ، فلا يسقط بالإذن . . . وهذا رأى الأحناف .

ومذهب الشافعية أنهما لو اتفقا على الانتقال جاز . إذ الحق لا يعدوهما ، فيكون المعنى : لا تخرجوهن ولا يخرجن باستبدادهن .

والاستثناء فى قوله : { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } يرى بعضهم أنه راجع إلى { وَلاَ يَخْرُجْنَ } فتكون الفاحشة المبينة هى نفس الخروج قبل انقضاء العدة ، أى : لا يطلق لهن فى الخروج ، إلا فى الخروج الذى هو فاحشة ، ومن المعلوم أنه لا يطلق لهن فيه ، فيكون ذلك منعا من الخروج على أبلغ وجه .

. . كما يقال لا تزن إلا أن تكون فاسقا . . .

وقال بعض العلماء : والذى تخلص لى أن حكمة السكنى للمطلقة ، أنها حفظ للأعراض ، فإن المطلقة يكثر التفات العيون لها ، وقد يتسرب سوء الظن إليها ، فيكثر الاختلاف عليها ، ولا تجد ذا عصمة يذب عنها ، فلذلك شرعت لها السكنى ، فلا تخرج إلا لحاجياتها الضرورية . . .

ومن الحكم - أيضا - فى ذلك أن المطلقة قد لا تجد مسكنا ، لأن غالب النساء لم تكن لهن أموال ، وإنما هن عيال على الرجال .

ويزاد فى المطلقة الرجعية ، قصد استبقاء الصلة بينها وبين مطلقها ، لعله يثوب إليه رشده فيراجعها .

فهذا مجموع علل ، فإذا تخلفت واحدة منها لم يتخلف الحكم ، لأن الحكم المعلل بعلتين فأكثر لا يبطله سقوط بعضها .

واسم الإشارة فى قوله : { وَتِلْكَ حُدُودُ الله } يعود إلى الأحكام التى سبق الحديث عنها ، والحدود : جمع حد ، وهو مالا يصح تجاوزه أو الخروج عنه .

أى : وتلك الأحكام التى بيناها لكم ، هى حدود الله - تعالى - التى لا يصح لم تعديها أو تجاوزها ، وإنما يجب عليكم الوقوف عندها ، وتنفيذ ما اشتملت عليه من آداب وهدايات .

ثم بين - سبحانه - سوء عاقبة من يتجاوز حدوده فقال : { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } أى : ومن يتجاوز حدود الله التى حدها لعباده ، بأن أخل بشىء منها ، فقد حمل نفسه وزرا ، وأكسبها إثما ، وعرضها للعقوبة والعذاب .

وقوله - تعالى - : { لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } ترغيب فى امتثال الأحكام السابقة ، بعد أن سلك فى شأنها مسلك الترهيب من مخالفتها ، ودعوة إلى فتح باب المصالحة بين الرجل وزوجه ، وعدم السير فى طريق المفارقة حتى النهاية . .

والخطاب لكل من يصلح له ، أو هو للمتعدى بطريق الالتفات ، والجملة الكريمة مستأنفة ، مسوقة لتعليل مضمون ما قبلها ، وتفصيل لأحواله .

أى : اسلك - أيها المسلم - الطريق الذى أرشدناك إليه فى حياتك الزوجية ، وامتثل ما أمرناك به ، فلا تطلق امرأتك وهى حائض ، ولا تخرجها من بيتها قبل تمام عدتها . . . ولا تقفل باب المصالحة بينك وبينها ، بل اجعل باب المصالح مفتوحا ، فإنك لا تدرى لعل الله - تعالى - يحدث بعد ذلك النزاع الذى نشب بينك وبين زوجك أمرا نافعا لك ولها ، بأن يحول البغض إلى حب ، والخصام إلى وفاق ، والغضب إلى رضا . . .

فالجملة الكريمة قد اشتملت على أسمى ألوان الإرشاد لحمل النفوس المتجهة نحو الطلاق . . . إلى التريث والتعقل ، وفتح باب المواصلة بعد المقاطعة والتقارب بعد التباعد ، لأن تقليب القلوب بيد الله - عز وجل - وليس بعيدا عن قدرته - تعالى - تحويل القلوب إلى الحب بعد البغض .

قال القرطبى : الأمر الذى يحدثه الله أن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها ، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها ، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه ، فيراجعها .

وقال جميع المفسرين : أراد بالأمر هنا الرغبة فى الرجعة . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ إِلَّآ أَن يَأۡتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة الطلاق

وهي مدنية .

خُوطب النبي صلى الله عليه وسلم أولا تشريفًا وتكريما ، ثم خاطب الأمة تبعًا فقال : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ }

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن ثواب بن سعيد الهباري ، حدثنا أسباط بن محمد ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أنس قال : طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة ، فأتت أهلها ، فأنزل الله ، عز وجل : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } فقيل له : راجعها فإنها صوامة قوامة ، وهي من أزواجك ونسائك في الجنة .

ورواه ابن جرير ، عن ابن بشار ، عن عبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتادة . . . فذكره مرسلا {[28942]} وقد ورد من غير وجه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها .

وقال البخاري : حدثنا يحيى بن بُكَيْر ، حدثنا الليث وعقيل ، عن ابن شهاب ، أخبرني سالم : أن عبد الله بن عمر أخبره : أنه طلق امرأة له وهي حائض ، فذكر عمرُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : " ليراجعها ، ثم يمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض فتطهر ، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرًا قبل أن يمسها ، فتلك العدة التي أمر الله ، عز وجل " {[28943]}

هكذا رواه البخاري هاهنا وقد رواه في مواضع من كتابه ، ومسلم ، ولفظه : " فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء " {[28944]}

ورواه أصحاب الكتب والمسانيد من طرق متعددة وألفاظ كثيرة{[28945]} ومواضع استقصائها كتب الأحكام .

وأمَسُّ لفظ يورَد ها هنا ما رواه مسلم في صحيحه ، من طريق ابن جُرَيْج : أخبرني أبو الزبير : أنه سمع عبد الرحمن بن أيمن - مولى عَزة يسأل ابن عمر - وأبو الزبير يسمع ذلك : كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضًا ؟ فقال : طَلَّق ابن عمر امرأته حائضا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليراجعها " فَردَّها ، وقال : " إذا طهرت فليطلق أو يمسك " . قال ابن عمر : وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } {[28946]} .

وقال الأعمش ، عن مالك بن الحارث ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، عن عبد الله في قوله : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } قال : الطهر من غير جماع{[28947]} وروي عن ابن عمر وعطاء ، ومجاهد ، والحسن ، وابن سيرين ، وقتادة ، وميمون بن مِهْران ، ومقاتل بن حيان مثل ذلك ، وهو رواية عن عكرمة ، والضحاك .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } قال : لا يطلقها وهي حائض ولا في طهر قد جامعها فيه ، ولكن : تتركها حتى إذا حاضت وطهرت طلقها تطليقة .

وقال عكرمة : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } العدة : الطهر ، والقرء الحيضة ، أن يطلقها حبلى مستبينا حملها ، ولا يطلقها وقد طاف عليها ، ولا يدري حبلى هي أم لا .

ومن ها هنا أخذ الفقهاء أحكام الطلاق وقسموه إلى طلاق سنة وطلاق بدعة ، فطلاق السنة : أن يطلقها طاهرًا من غير جماع ، أو حاملا قد استبان حملها . والبدعي : هو أن يطلقها في حال الحيض ، أو في طهر قد جامعها فيه ، ولا يدري أحملت أم لا ؟ وطلاق ثالث لا سنة فيه ولا بدعة ، وهو طلاق الصغيرة والآيسة ، وغير المدخول بها ، وتحرير الكلام في ذلك وما يتعلق به مستقصى في كتب الفروع ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

وقوله { وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ } أي : احفظوها واعرفوا ابتداءها وانتهاءها ؛ لئلا تطول العدة على المرأة فتمتنع من الأزواج . { وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ } أي : في ذلك .

وقوله : { لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ } أي : في مدة العدة لها حق السكنى على الزوج ما دامت معتدة منه ، فليس للرجل أن يخرجها ، ولا يجوز لها أيضا الخروج لأنها معتقلة{[28948]} لحق الزوج أيضًا .

وقوله : { إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } أي : لا يخرجن من بيوتهن إلا أن ترتكب المرأة فاحشة مبينة ، فتخرج من المنزل ، والفاحشة المبينة تشمل الزنا ، كما قاله ابن مسعود ، وابن عباس ، وسعيد بن المُسَيَّب ، والشعبي ، والحسن ، وابن سيرين ، ومجاهد ، وعِكْرمة ، وسعيد بن جبير ، وأبو قِلابة ، وأبو صالح ، والضحاك ، وزيد بن أسلم ، وعطاء الخراساني ، والسُّدِّي ، وسعيد بن أبي هلال ، وغيرهم وتشمل ما ذا{[28949]} نشزَت المرأة أو بَذَت على أهل الرجل وآذتهم في الكلام والفعال ، كما قاله أبي بن كعب ، وابن عباس ، وعكرمة ، وغيرهم .

وقوله : { وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } أي : شرائعه ومحارمه { وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ } أي : يخرج عنها ويتجاوزها إلى غيرها ولا يأتمر بها { فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } أي : بفعل ذلك .

وقوله : { لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } أي : إنما أبقينا المطلقة في منزل الزوج في مدة العدة ، لعل الزوج يندم على طلاقها ويخلق الله في قلبه رَجْعَتَها ، فيكون ذلك أيسر وأسهل .

قال الزهري ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن فاطمة بنت قيس في قوله : { لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } قال : هي الرجعة . وكذا قال الشعبي ، وعطاء ، وقتادة ، والضحاك ، ومقاتل ابن حيان ، والثوري . ومن هاهنا ذهب من ذهب من السلف ومن تابعهم ، كالإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله تعالى إلى أنه لا تجب السكنى للمبتوتة ، وكذا المتوفى عنها زوجها ، واعتمدوا أيضًا على حديث فاطمة بنت قيس الفهرية ، حين طلقها زوجها أبو عمرو بن حفص آخر ثلاث تطليقات ، وكان غائبًا عنها باليمن ، فأرسل إليها بذلك ، فأرسل إليها وكيله بشعير - [ يعني ]{[28950]} نفقة - فَتَسَخَّطته فقال : والله ليس لك علينا نفقة . فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " ليس لك عليه نفقة " . ولمسلم : ولا سكنى ، وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ، ثم قال : " تلك امرأة يغشاها أصحابي ، اعتدي عند ابن أم مكتوم ، فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك " الحديث{[28951]}

وقد رواه الإمام أحمد من طريق أخرى بلفظ آخر ، فقال :

حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا مجالد ، حدثنا عامر قال : قدمت المدينة فأتيت فاطمة بنت قيس ، فحدثتني أن زوجها طلقها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سَرية . قالت : فقال لي أخوه : اخرجي من الدار . فقلت : إن لي نفقة وسكنى حتى يحل الأجل . قال : لا . قالت : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : إن فلانا طلقني ، وأن أخاه أخرجني ومنعني السكنى والنفقة ، [ فأرسل إليه ]{[28952]} فقال : " ما لك ولابنة آل قيس " ، قال : يا رسول الله ، إن أخي طلقها ثلاثا جميعًا . قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انظري يا بنت آل قيس ، إنما النفقة والسكنى للمرأة على زوجها ما كان له عليها رجعة ، فإذا لم يكن له عليها رجعة فلا نفقة ولا سكنى . اخرجي فانزلي على فلانة " . ثم قال : " إنه يُتحَدّث إليها ، انزلي على ابن أم مكتوم ، فإنه أعمى لا يراك " وذكر تمام الحديث{[28953]}

وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن عبد الله البزار التُّسْتَريّ ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الصواف ، حدثنا بكر بن بكار ، حدثنا سعيد بن يزيد البجلي ، حدثنا عامر الشعبي : أنه دخل على فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس القرشي ، وزوجها أبو عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي فقالت : إن أبا عمرو بن حفص أرسل إلي وهو منطلق في جيش إلى اليمن بطلاقي ، فسألت أولياءه النفقة علي والسكنى ، فقالوا : ما أرسل إلينا في ذلك شيئًا ، ولا أوصانا به . فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، إن أبا عمرو بن حفص أرسل إلي بطلاقي ، فطلبت السكنى والنفقة علي ، فقال : أولياؤه : لم يرسل إلينا في ذلك بشيء . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما النفقة والسكنى للمرأة إذا كان لزوجها عليها رجعة ، فإذا كانت لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره فلا نفقة لها ولا سكنى " .

وكذا رواه النسائي{[28954]} عن أحمد بن يحيى الصوفي ، عن أبي نعيم الفضل بن دُكَيْن ، عن سعيد بن يزيد وهو الأحمسي البَجَلي الكوفي . قال أبو حاتم الرازي : وهو شيخ ، يروى عنه {[28955]}


[28942]:- (1) تفسير الطبري (28/85)
[28943]:- (2) صحيح البخاري برقم (4908).
[28944]:- (3) صحيح البخاري برقم (5251) وصحيح مسلم برقم (1471).
[28945]:- (4) المسند (2/26، 43، 51، 54، 58) وسنن أبي داود برقم (2179) وسنن النسائي (6/138) وسنن ابن ماجة برقم (2023).
[28946]:- (1) صحيح مسلم برقم (14719).
[28947]:- (2) رواه الطبري في تفسيره (28/83).
[28948]:- (3) في أ: "لأنها متعلقة".
[28949]:- (1) في م، أ: "وتشمل ما إذا".
[28950]:- (2) زيادة من م.
[28951]:- (3) صحيح مسلم برقم (1480).
[28952]:- (4) زيادة من المسند.
[28953]:- (5) المسند (6/373).
[28954]:- (1) المعجم الكبير (24/382) وسنن النسائي (6/144).
[28955]:- (2) الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (4/74).
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ إِلَّآ أَن يَأۡتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة الطلاق مدنية وآيها اثنتا عشرة أو إحدى عشرة آية .

بسم الله الرحمن الرحيم يا أيها النبي إذا طلقتم النساء خص النداء وعم الخطاب بالحكم لأنه أمام أمته فنداؤه كندائهم أو لأن الكلام معه والحكم يعمهم والمعنى إذا أردتم تطليقهن على تنزيل المشارف له منزلة الشارع فيه فطلقوهن لعدتهن أي في وقتها وهو الطهر فإن اللام في الأزمان وما يشبهها للتأقيت ومن عد العدة بالحيض علق اللام بمحذوف مثل مستقبلات وظاهره يدل على أن العدة بالأطهار وأن طلاق المعتدة بالأقراء ينبغي أن يكون في الطهر وأنه يحرم في الحيض من حيث إن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده ولا يدل على عدم وقوعه إذ النهي لا يستلزم الفساد كيف وقد صح أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لما طلق امرأته حائضا أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالرجعة وهو سبب نزوله وأحصوا العدة واضبطوها وأكملوها ثلاثة أقراء واتقوا الله ربكم في تطويل العدة والإضرار بهن لا تخرجوهن من بيوتهن من مساكنهن وقت الفراق حتى تنقضي عدتهن ولا يخرجن باستبدادهن أما لو اتفقا على الانتقال جاز إذ الحق لا يعدوهما وفي الجمع بين النهيين دلالة على استحقاقهما السكنى ولزومها ملازمة مسكن الفراق وقوله إلا أن يأتين بفاحشة مبينة مستثنى من الأول والمعنى إلا أن تبذو على الزوج فإنه كالنشوز في إسقاط حقها أو إلا أن تزني فتخرج لإقامة الحد عليها أو من الثاني للمبالغة في النهي والدلالة على أن خروجها فاحشة وتلك حدود الله الإشارة إلى الأحكام المذكورة ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه بأن عرضها للعقاب لا تدري أي النفس أو أنت أيها النبي أو المطلق لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا وهو الرغبة في المطلقة برجعة أو استئناف .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ إِلَّآ أَن يَأۡتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } الخ شاعت تسميتها في المصاحف وفي كتب التفسير وكتب السنة : سورة الطلاق ولم ترد تسميتها بهذا في حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم موسوم بالقبول .

وذكر في الإتقان أن عبد الله بن مسعود سماها سورة النساء القصرى أخذا مما أخرجه البخاري وغيره عن مالك بن عامر قال : كنا عند عبد الله بن مسعود فذكر عنده أن الحامل المتوفى عنها تعتد أقصى الأجلين أي أجل وضع الحمل إن كان أكثر من أربعة أشهر وعشر ، وأجل الأربعة الأشهر وعشر فقال : أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون عليها الرخصة لنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } اه . وفي الاتقان عن الداودي إنكار أن تدعى هذه السورة بالقصرى للتنزه عن وصف القرآن بصفة نقص ورده ابن حجر بأن القصر أمر نسبي أي ليس مشعرا بنقص على الإطلاق . وابن مسعود وصفها بالقصرى احترازا عن السورة المشهورة باسم سورة النساء التي هي السورة الرابعة في المصحف التي أولها { يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة } . وأما قوله الطولى فهو صفة لموصوف محذوف أي بعد السورة الطولى يعني سورة البقرة لأنها أطول سور القرآن ويتعين أن ذلك مراده لأن سورة البقرة هي التي ذكرت فيها عدة المتوفى عنها . وقد يتوهم أن سورة البقرة تسمى سورة النساء الطولى من مقابلتها بسورة النساء القصرى في كلام ابن مسعود . وليس كذلك كما تقدم في سورة النساء .

وهي مدنية بالاتفاق .

وعدد آيها اثنتا عشرة آية في عدد الأكثر . وعدها أهل البصرة إحدى عشرة آية .

وهي معدودة السادسة والتسعين في ترتيب نزول السور عند جابر بن زيد نزلت بعد سورة الإنسان وقبل سورة البينة .

وسبب نزولها ما رواه مسلم عن طريق ابن جريج عن أبي الزبير أنه سمع عبد الرحمان بن أيمن يسأل ابن عمر كيف ترى في الرجل طلق امرأته حائضا فقال طلق ابن عمر امرأته حائضا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : ليراجعها ، فردها وقال : إذا طهرت فليطلق أو ليمسك . قال ابن عمر وقرأ النبي : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } .

وظاهر قوله وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم الخ . إنها نزلت عليه ساعتئذ . ويحتمل أن تكون نزلت قبل هذه الحادثة . وقال الواحدي عن السدي : أنها نزلت في قضية طلاق ابن عمر وعن قتادة أنها نزلت بسبب أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ولم يصح . وجزم أبو بكر بن العربي بأن شيئا من ذلك لم يصح وأن الأصح أن الآية نزلت بيانا لشرع مبتدإ .

أغراضها

الغرض من آيات هذه السورة تحديد أحكام الطلاق وما يعقبه من العدة والإرضاع والإنفاق والإسكان . تتميما للأحكام المذكورة في سورة البقرة .

والإيماء إلى حكمة شرع العدة والنهي عن الإضرار بالمطلقات والتضييق عليهن .

والإشهاد على التطليق وعلى المراجعة وإرضاع المطلقة ابنها بأجر على الله .

والأمر بالائتمار والتشاور بين الأبوين في شأن أولادهما .

وتخلل ذلك الأمر بالمحافظة الوعد بأن الله يؤيد من يتقي الله ويتبع حدوده ويجعل له من أمره يسرا ويكفر عنه سيئاته .

وأن الله وضع لكل شيء حكمه لا يعجزه تنفيذ أحكامه .

وأعقب ذلك بالموعظة بحال الأمم الذين عتوا عن أمر الله ورسله وهو حث للمسلمين على العمل بما أمرهم به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم لئلا يحق عليهم وصف العتو عن الأمر .

وتشريف وحي الله تعالى بأنه منزل من السماوات وصادر عن علم الله وقدرته تعالى .

توجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أسلوب من أساليب آيات التشريع المهتم به فلا يقتضي ذلك تخصيص ما يذكر بعده النبي صلى الله عليه وسلم مثل { يأيها النبي حرض المؤمنين على القتال } [ الأنفال : 65 ] لأن النبي صلى الله عليه وسلم الذي يتولى تنفيذ الشريعة في أمته وتبيين أحوالها . فإن كان التشريع الوارد يشمله ويشمل الأمة جاء الخطاب مشتملاً على ما يفيد ذلك مثل صيغة الجمع في قوله هنا { إذا طلقتم النساء } وإن كان التشريع خاصاً بالرسول صلى الله عليه وسلم جاءت بما يقتضي ذلك نحو { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } [ المائدة : 67 ] .

قال أبو بكر بن العربي : وهذا قولهم أن الخطاب له لفظاً . والمعنى له وللمؤمنين ، وإذا أراد الله الخطاب للمؤمنين لاطفه بقوله : { يا أيها النبي } ، وإذا كان الخطاب باللفظ والمعنى جميعاً له قال : { يا أيها الرسول } [ المائدة : 67 ] اه . ووجه الاهتمام بأحكام الطلاق والمراجعة والعِدّة سنذكره عند قوله تعالى : { واتقوا الله ربكم } .

فالأحكام المذكورة في هذه السورة عامة للمسلمين فضمير الجمع في قوله : { إذا طلقتم النساء } وما بعده من الضمائر مثلِه مراد بها هو وأمته . وتوجيه الخطاب إليه لأنه المبلغ للناس وإمام أمته وقدوَتهم والمنفذ لأحكام الله فيهم فيما بينهم من المعاملات فالتقدير إذا طلقتم أيها المسلمون .

وظاهر كلمة { إذا } أنها للمستقبل وهذا يؤيد ما قاله أبو بكر بن العربي من أنها شرع مبتدأ قالوا : إنه يجوز أن يكون المراد إذا طلقتم في المستقبل فلا تعودوا إلى مثل ما فعلتم ولكن طلقوهن لعدتهن ، أي في أطْهارهن كما سيأتي .

وتكرير فعل { فطلقوهن } لمزيد الاهتمام به فلم يقل إذا طلقتم النساء فلِطهرهن وقد تقدم نظير ذلك عند قوله تعالى : { وإذا بطشتم بطشتم جبارين } في سورة [ الشعراء : 130 ] ، وقوله : { وإذا مروا باللغو مروا كراماً } في سورة [ الفرقان : 72 ] .

واللام في { لعدتهن } لام التوقيت وهي بمعنى عند مثل كُتب ليوممِ كذا من شهر كذا . ومنه قوله تعالى : { أقم الصلاة لدلوك الشمس } [ الإسراء : 78 ] لا تحتمل هذه اللام غير ذلك من المعاني التي تأتي لها اللام . ولما كان مدخول اللام هنا غير زمان عُلم أن المراد الوقت المضاف إلى عدتهن أي وقت الطهر .

ومعنى التركيب أن عدة النساء جعلت وقتاً لإيقاع طلاقهن فكني بالعدة عن الطهر لأن المطلقة تعتد بالأطهار .

وفائدة ذلك أن يكون إيماء إلى حكمة هذا التشريع وهي أن يكون الطلاق عند ابتداء العِدة وإنما تُبتدأ العدة بأول طُهر من أطْهار ثلاثة لدفع المضرة عن المطلقة بإطالة انتظار تزويجها لأن ما بين حيضها إذا طلقت فيه وبين طهرها أيام غير محسوبة في عدتها فكان أكثر المطلقين يقصدون بذلك إطالة مدة العدة ليوسعوا على أنفسهم زمن الارتياء للمراجعة قبل أن يَبنَّ منهم .

وفعل { طلقتم } مستعمل في معنى أردتم الطلاق وهو استعمال وارد ومنه قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } [ المائدة : 6 ] الآية والقرينة ظاهرة .

والآية تدل على إباحة التطليق بدلالة الإشارة لأن القرآن لا يقدِّر حصول فعل محرَّم من دون أن يبيّن منعه .

والطلاق مباح لأنه قد يَكون حاجيّاً لبعض الأزواج فإن الزوجين شخصان اعتشرا اعتشاراً حديثاً في الغالب لم تكن بينهما قبله صلة من نسب ولا جوار ولا تخلق بخلق متقارب أو متماثل فيكثر أن يحدث بينهما بعد التزوج تخالف في بعض نواحي المعاشرة قد يكون شديداً ويعسر تذليله ، فيمل أحدهما ولا يوجد سبيل إلى إراحتهما من ذلك إلا التفرقة بينهما فأحله الله لأنه حاجيّ ولكنه ما أحله إلا لدفع الضر فلا ينبغي أن يجعل الإِذن فيه ذريعة للنكاية من أحَد الزوجين بالآخر . أو من ذوي قرابتهما ، أو لقصد تبديل المذاق . ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم « أبغض الحلال إلى الله الطلاق » .

وتعليق { طلقتم } بإذا الشرطية مشعر بأن الطلاق خلاف الأصل في علاقة الزوجين التي قال الله فيها : { ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة } [ الروم : 21 ] .

واختلف العلماء في أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق وجزم به الخطابي في « شرح سنن أبي داود » : ولم يثْبُتْ تطليق النبي صلى الله عليه وسلم بحديث صحيح والمروي في ذلك خبرانِ ، أولهما ما رواه ابن ماجة عن سويد بن سعيد وعبد الله بن عامر بن زرارة ومسروق بن المرزبان بسندهم إلى ابن عباس عن عُمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصَة ثم راجعها . وفي هذا السند ضعف لأن سُوَيد بن سعيد ضعيف نسبه ابن معين إلى الكذب وضعفه ابن المديني والنسائي وابن عدي . وقَبله أحمد بن حنبل وأبو حاتم . وكذلك مسروق بن المرزبان يضعف أيضاً . وبقي عبد الله بن عامر بن زرارة لا متكلم فيه فيكون الحديث صحيحاً لكنه غريب وهو لا يُقبل فيما تتوفر الدواعي على روايته كهذا . وهذا الحديث غريب في مبدئه ومنتهاه لانفراد سعيد بن جبير بروايته عن ابن عباس ، وانفراد ابن عباس بروايته عن عمر بن الخطاب مع عدم إخراج أهل الصحيح إياه فالأشبه أنه لم يقع طلاق النبي صلى الله عليه وسلم حفصة ولكن كانت قضيةُ الإيلاء بسبب حفصة .

والمعروف في « الصحيح » عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه فقال الناس طلق رسول الله نساءه . قال عمر : « فقلت يا رسول الله أطلقتَ نساءك ؟ ، قال : « لا آليت منهن شهراً » . فلعل أحد رواة الحديث عن ابن عباس عبر عن الإيلاء بلفظ التطليق وعن الفَيْئة بلفظ راجع على أن ابن ماجه يضعف عند أهل النقد .

وثانيهما : حديث الجونية أسماءَ أو أميمة بنت شُراحيل الكندية في « الصحيح » : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وأنه لما دخل يبني بها قالت له : « أعوذ بالله منك ، فقال : قد عذت بمعاذ ألحقي بأهلك » وأمَرَ أبا أُسيد الساعدي أن يكسوها ثوبين وأن يلحقها بأهلها ، ولعلها أرادت إظهار شرفها والتظاهر بأنها لا ترغب في الرجال وهو خُلق شائع في النساء .

والأشبه أن هذا طلاق وأنه كان على سبب سؤالها فهو مثل التخيير الذي قال الله تعالى فيه : { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا } في سورة [ الأحزاب : 28 ] . فلا يعارض ذلك قوله : أبغض الحلال إلى الله الطلاق . إذ يكون قوله ذلك مخصوصاً بالطلاق الذي يأتيه الزوج بداع من تلقاء نفسه لأن علة الكراهية هي ما يخلفه الطلاق من بغضاء المطلقة من يطلقها فلا يصدر من النبي ابتداء تجنباً من أن تبغضه المطلقة فيكون ذلك وَبَالاً عليها ، فأما إذا سألته فقد انتفت الذريعة التي يجب سدها .

وعُلم من قوله تعالى : { لعدتهن } أنهن النساء المدخول بهن لأن غير المدخول بهن لا عدة لهن إجماعاً بنص آية الأحزاب .

وهذه الآية حجة لمالك والشافعي والجمهور أن العدة بالأطهار لا بالحِيَض فإن الآية دلت على أن يكون إيقاع الطلاق عند مبدإ الاعتداد فلو كان مبدأ الاعتداد هو الحيض لكانت الآية أمراً بإيقاع الطلاق في الحيض ولا خلاف في أن ذلك منهي عنه لحديث عمر في قضية طلاق ابنه عبد الله بن عمر زوجه وهي حائض . واتفق أهل العلم على الأخذ به فكيف يخالف مخالف في معنى القرء خلافاً يفضي إلى إبطال حكم القضية في ابن عمر وقد كانت العدة مشروعة من قبل بآية سورة البقرة وآيات الأحزاب فلذلك كان نوط إيقاع الطلاق بالحال التي تكون بها العدة إحالة على أمر معلوم لهم .

وحكمة العدة تقدم بيانها .

{ وَأَحْصُواْ العدة } .

الإِحصاء : معرفة العدِّ وضبطه . وهو مشتق من الحصى وهي صغار الحجارة لأنهم كانوا إذا كثرت أعداد شيء جعلوا لكل معدود حصاةً ثم عدوا ذلك الحصى ، قال تعالى : { وأحصى كل شيء عدداً } [ الجن : 28 ] .

والمعنى : الأمر بضبط أيام العدة والإتيان على جميعها وعدم التساهل فيها لأن التساهل فيها ذريعة إلى أحد أمرين ؛ إما التزويج قبل انتهائها فربّما اختلط النسب ، وإما تطويل المدة على المطلقة في أيام منعها من التزوج لأنها في مدة العدة لا تخلو من حاجة إلى من يقوم بها .

وأما فوات أمد المراجعة إذا كان المطلق قد ثاب إلى مراجعة امرأته .

والتعريف في العدة للعهد فإن الاعتداد مشروع من قبل كما علمته آنفاً والكلام على تقدير مضاف لأن المحصَى أيام العدة .

والمخاطب بضمير { أحصوا } هم المخاطبون بضمير { إذا طلقتم } فيأخذ كل من يتعلق به هذا الحكم حَظه من المطلق والمطلقة ومن يطلع على مخالفة ذلك من المسلمين وخاصة ولاة الأمور من الحكام وأهل الحسبة فإنهم الأولى بإقامة شرائع الله في الأمة وبخاصة إذا رأوا تفشي الاستخفاف بما قصدته الشريعة . وقد بيّنا ذلك في باب مقاصد القضاء من كتابي « مقاصد الشريعة » .

ففي العدة مصالح كثيرة وتحتها حقوق مختلفة اقتضتها تلك المصالح الكثيرة وأكثر تلك الحقوق للمطلِّق والمطلَّقة وهي تستتبع حقوقاً للمسلمين وولاةِ أمورهم في المحافظة على تلك الحقوق وخاصة عند التحاكم .

{ واتقوا الله ربكم } .

اعتراض بين جملة { وأحصوا العدة } وجملة { لا تخرجوهن من بيوتهن } والواو اعتراضية .

وحذف متعلّق { اتقوا الله } ليعم جميع ما يتقى الله فيه فيكون هذا من قبيل الاعتراض التذييلي وأول ما يقصد بأن يتقى الله فيه ما سيق الكلام لأجله .

فقوله : { واتقوا الله ربكم } تحذير من التساهل في أحكام الطلاق والعدة . ذلك أن أهل الجاهلية لم يكونوا يقيمون للنساء وزناً وكان قرابة المطلقات قلما يدافعن عنهن فتناسى الناس تلك الحقوق وغمصوها فلذلك كانت هذه الآيات شديدة اللهجة في التحدّي ، وعبر عن تلك الحقوق بالتقوى وبحدود الله ولزيادة الحرص على التقوى أتبع اسم الجلالة بوصف { ربّكم } للتذكير بأنه حقيق بأن يتقى غضبه .

{ لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بفاحشة مبينة } .

استئناف أو حال من ضمير { أحصوا العدة } ، أي حالة كون العدة في بيوتهن ، ويجوز أن تكون بدل اشتمال من مضمون جملة { أحصوا العدة } لأن مكثهن في بيوتهن في مدة العدة يحقق معنى إحصاء العدة .

ولكلا الوجهين جردت الجملة عن الاقتران بالواو جوازاً أو وجوباً .

وفي إضافة البيوت إلى ضمير النساء إيماء إلى أنهن مستحقات المكث في البيوت مدة العدة بمنزلة مالك الشيء وهذا ما يسمى في الفقه مِلْك الانتفاع دون العين ولأن بقاء المطلقات في البيوت اللاّتي كنّ فيها أزواجاً استصحاب لحال الزوجية إذ الزوجة هي المتصرفة في بيت زوجها ولذلك يدعوها العرب « ربّة البيت » وللمطلقة حكم الزوجة ما دامت في العدة إلا في استمتاع المطلق .

وهذا الحكم سببُه مركب من قصد المكارمة بين المطلّق والمطلقة . وقصد الانضباط في علة الاعتداد تكميلاً لتحقق لحاق ما يظهر من حمل بأبيه المطلّق حتى يبرأ النسب من كل شك .

وجملة { ولا يخرجن } عطف على جملة { لا تخرجوهن } وهو نهي لهن عن الخروج فإن المطلق قد يُخرجها فترْغب المطلقة في الخروج لأنها تستثقل البقاء في بيت زالت عنه سيادتها فنهاهن الله عن الخروج . فَإذا كان البيت مكترى سكنتْه المطلقة وكراؤه على المطلق وإذا انتهى أمد كرائه فعلى المطلق تجديده إلى انتهاء عدة المطلقة .

وهذا الترتب بين الجملتين يشعر بالسببية وأن لكل امرأة معتدة حق السكنى في بيت زوجها مدة العدة لأنها معتدة لأجله أي لأجل حفظ نسبه وعِرضه فهذا مقتضى الآية .

ولذلك قال مالك وجمهور العلماء بوجوب السكنى للمطلقة المدخول بها سواء كان الطلاق رجعياً أو بائناً وقال ابن أبي ليلى : لا سكنى إلا للمطلقة الرجعية ، وعلل وجوب الإسكان للمطلقة المدخول بها بعدة أمور : حفظ النسب ، وجبر خاطر المطلقة وحفظ عرضها . وسيجيء في هذه السورة قوله تعالى : { أسكنوهن من حيث سكنتم } [ الطلاق : 6 ] الآية . وتَعلم أن ذلك تأكيداً لما في هذه الآية من وجوب الإِسكان في العدة أعيد ليبين عليه قوله : { من وجدكم } [ الطلاق : 6 ] وما عطف عليه .

والاستثناء في قوله : { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } يحتمل أن يرجع إلى الجملتين اللتين قبله كما هو الشأن فيه إذا ورد بعد جمل على أصح الأقوال لعلماء الأصول . ويحتمل أن يرجع إلى الأخيرة منهما وهو مقتضى كونه موافقاً لضميرها إذ كان الضمير في كلتيهما ضمير النسوة . وهو استثناء من عموم الأحوال التي اقتضاها عموم الذوات في قوله : { لا تخرجوهن } { ولا يخرجن } . فالمعنى : إلا أن يأتين بفاحشة فأخرجوهن أو ليخرجْن ، أي يباح لكم إخراجهن وليس لهن الامتناع من الخروج وكذلك عكسه .

والفاحشة : الفِعلة الشديدة السوء بهذا غلب إطلاقها في عرف اللغة فتشمل الزنا كما في قوله تعالى : { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم } الآية في سورة [ النساء : ] 15 .

وشَمل غيره من الأعمال ذات الفساد كما في قوله : { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا } [ الأعراف : 28 ] . وقوله تعالى : { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن } في سورة [ الأعراف : 33 ] . قال ابن عطية : قال بعض الناس : الفاحشة متى وردت في القرآن معرَّفة فهي الزنا ( يريد أو ما يشبهه ) كما في قوله : { أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين } [ الأعراف : 80 ] ومتى وردت منكرة فهي المعاصي .

وقرأ الجمهور { مبينة } بكسر الياء التحتية ، أي هي تُبيِّن لمن تبلغه أنها فاحشة عظيمة فإسناد التبيين إليها مجاز باستعارة التبيين للوضوح أو تبيين لولاة الأمور صدورَها من المرأة فيكون إسناد التبيين إلى الفاحشة مجازاً عقلياً وإنما المبيِّن ملابسها وهو الإقرار والشهادة فيحمل في كل حالة على ما يناسب معنى التبيين .

وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم { مبيَّنة } بفتح التحتية ، أي كانت فاحشة بَينتْها الحجة أو بينَها الخارج ومحمل القراءتين واحد .

ووصفها ب { مبينة } إما أن يراد به أنها واضحة في جنس الفواحش ، أي هي فاحشة عظيمة وهذا المقام يشعر بأن عظمها هو عظم ما يأتيه النساء من أمثالها عرفاً . وإما أن يراد به مبينة الثبوت للمدة التي تخرج .

وقد اختلفوا في المراد من الفاحشة هنا وفي معنى الخروج لأجلها فعن ابن مسعود وابن عباس والشعبي والحسن وزيد بن أسلم والضحاك وعكرمة وحماد والليث بن سعْدود أبي يوسف : أن الفاحشة الزنا ، قالوا : ومعاد الاستثناء الإِذن في إخراجهن ، أي ليقام عليهن الحد .

وفسرت الفاحشة بالبَذَاء على الجيران والأحماء أو على الزوج بحيث أن بقاء أمثالهن في جوار أهل البيت يفضي إلى تكرر الخصام فيكون إخراجها من ارتكاب أخف الضررين ونسب هذا إلى أبي بن كعب لأنه قرأ « إلا أن يفحشن عليكم » ( بفتح التحتية وضم الحاء المهملة أي الاعتداء بكلام فاحش ) وروي عن ابن عباس أيضاً واختاره الشافعي .

وفسرت الفاحشة بالمعصية من سرقة أو سب أو خروج من البيت فإن العدة بَلْه الزنا ونسب إلى ابن عباس أيضاً وابن عُمر وقاله السدي وأبو حنيفة .

وعن قتادة الفاحشة : النشوز ، أي إذا طلقها لأجللِ النشوز فلا سكنى لها .

وعن ابن عمر والسدي إرجاع الاستثناء إلى الجملة التي هو موال لها وهي جملة { ولا يخرجن } أي هن منهيات عن الخروج إلا أن يردن أن يأتين بفاحشة ، ومعنى ذلك إرادة تفظيع خروجهن ، أي إن أردن أن يأتين بفاحشة يخرجن وهذا بما يسمى تأكيد الشيء بما يشبه ضده كذا سماه السكاكي تسمية عند الأقدمين تأكيد المادح بما يشبه الذم ومنه قول النابغة :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب

فجعلت الآية خروجهن ريبة لهن وحذرت النساء منه بأسلوب خطابي ( بفتح الخاء ) فيكون هذا الاستثناء منعاً لهن من الخروج على طريقة المبالغة في النهي .

ومحمل فعل { يأتين } على هذا الوجه أنه من يردن أن يأتين مثل { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم } [ المائدة : 6 ] .

وقد ورد في « الصحيح » عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتته فاطمة بنت قيس الفهرية فأخبرته أن زوجها أبا عمرو بن حفص أو أبا حفص بن عَمرو ( وكان وجهه النبي صلى الله عليه وسلم مع عليّ إلى اليمن ) فأرسل إليها من اليمن بتطليقة صادفت آخر الثلاث فبانت منه ، وأنه أرسل إلى بعض ذويه بأن ينفقوا عليها مدة العدة فقالوا لها : ما لكِ نفقة إلا أن تكوني حاملاً ، وأنها رفعت أمرها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : لا نفقة لك فاستأذنته في الانتقال فأذن لها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم . وفي رواية أنها قالت : أخاف أن يُقْتَحَم عليَّ ( بالبناء للمجهول ) ، وفي رواية أنها كانت في مكان وحْش مخيف على ناحيتها فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالانتقال .

واختلف العلماء في انتقالها فقال جماعة : هو رُخصة لفاطمة بنت قيس لا تتجاوزها وكانت عائشة أم المؤمنين ترى ذلك ، روَى البخاري أن يحيى بن سعيد بن العاص طلق امرأته عَمرة بنت عبد الرحمان بن الحكم وكان عمُّها مروان بن الحكم أميرَ المدينة يومئذٍ فانتقلها أبوها إليه فبلغ ذلك عائشةَ أم المؤمنين فأرسلت إلى مروان أن اتَّققِ الله وأرددها إلى بيتها فقال مروان : أو ما بلغك شأن فاطمة بنت قيس ؟ قالت عائشة : لا يضركَ أن لا تذكر حديثَ فاطمة ، فقال مروان : إن كان بككِ الشَّرَّ فحسبككِ ما بين هذين من الشَّر ، ( ولعل عائشة اقتنعت بذلك إذ لم يرد أنها ردت عليه ) .

وفي « الصحيح » عن عمر بن الخطاب أنه قال : لا ندع كتاب الله وسنةَ نبينا لقول امرأة لا ندري أحفظت أم نسيت . وقالت عائشة : ليس لفاطمة بنت قيس خبر في ذكر هذا الحديث وعابت عليها أشدَّ العيب . وقالت إن فاطمة كانت في مكان وحش مُخيف على ناحيتها فرخص لها النبي صلى الله عليه وسلم بالانتقال . ويظهر من هذا أنه اختلاف في حقيقة العذر المسوغ للانتقال . قال مالك : وليس للمرأة أن تنتقل من موضع عدتها بغير عذر رواه الباجي في « المنتقى » .

وقال ابن العربي : إن الخروج للحدث والبَذاء والحاجة إلى المعايش وخوففِ العودة من المسكن جائز بالسنة .

ومن العلماء من جوز الانتقال للضرورة وجعلوا ذلك محمل حديث فاطمة بنت قيس فإنها خيف عليها في مكان وحش وحدث بينها وبين أهل زوجها شر وبَذاء قال سعيد بن المسيب : تلك امرأة استطالت على أحمائها بلسانها أنها كانت لَسِنَة فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنتقل وهذا الاختلاف قريب من أن يكون اختلافاً لفظياً لاتفاق الجميع عدا عمر بن الخطاب على أن انتقالها كان لعذر قَبله النبي صلى الله عليه وسلم فتكون تلك القضية مخصصة للآية ويجري القياس عليها إذا تحققت علة القياس .

أما قول عمر بن الخطاب : لا نَدع كتابَ الله وسنةَ نبينا لقول امرأة أحفظتْ أم نسيت . فهو دحض لرواية فاطمة ابنة قيس بشكَ له فيه فلا تكون معارضة لآية حتى يصار إلى الجمع بالتخصيص والترخيص . وقال ابن العربي : قيل إن عمر لم يخصص القرآن بخبر الواحد .

وأما تحديد منع خروج المعتدة من بيتها فلا خلاف في أن مبيتها في غير بيتها حرام . وأما خروجها نهاراً لقضاء شؤون نفسها فجوزه مالك والليث بن سعد وأحمد للمعتدة مطلقاً .

وقال الشافعي : المطلقة الرجعية لا تخرج ليلاً ولا نهاراً والمبتوتة تخرج نهاراً . وقال أبو حنيفة : تخرج المعتدة عدة الوفاة نهاراً ولا تخرج غيرها ، لا ليلاً ولا نهاراً .

وفي « صحيح مسلم » أن مروان بن الحكم أرسل إلى فاطمة بنت قيس يسألها عن حديثها فلما أبلغ إليه قال : لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة سنأخذ بالعِصمة التي وجدنا عليها الناس . فقالت فاطمة حين بلغها قول مروان : « فبَيني وبينكم القرآن قال الله عز وجل : { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } . هذا لمن كان له رجعة فأيّ أمر يحدث بعد الثلاث فكيف تقولون لا نفقة لها إذا لم تكن حاملاً فعَلام تحبسُونها فظنت أن ملازمة بيتها لاستبقاء الصلة بينها وبين مفارقها وأنها ملزمة بذلك لأجْل الإنفاق .

والذي تخلص لي أن حكمة السكنى للمطلقة أنها حفظ الإعراض فإن المطلقة يكثر إلتفات العيون لها وقد يتسرب سوء الظن إليها فيكثر الاختلاف عليها ولا تجد ذا عصمة يذب عنها فلذلك شرعت لها السكنى ولا تخرج إلا لحاجياتها فهذه حكمة من قبيل المَظنة فإذا طرأ على الأحوال ما أوقعها في المشقة أو أوقع الناس في مشقة من جرائها أخرجت من ذلك المسكن وجرَى على مكثها في المسكن الذي تنتقل إليه ما يجري عليها في مسكن مطلقها لأن المظِنة قد عارضتها مَئِنَّة . ومن الحكم أيضاً في ذلك أن المطلقة قد لا تجد مسكناً لأن غالب النساء لم تكن لهن أموال وإنما هن عيال على الرجال فلما كانت المعتدة ممنوعة من التزوج كان إسكانها حقاً على مفارقها استصحاباً للحال حتى تحل للتزوج فتصير سكناها على من يتزوجها . ويزاد في المطلقة الرجعية قصد استبقاء الصلة بينها وبين مطلقها لعلهُ أن يثوب إليه رشده فيراجعها فلا يحتاج في مراجعتها إلى إعادة التذاكر بينه وبينها أو بينه وبين أهلها . فهذا مجموع علل فإذا تخلفت واحدة منها لم يتخلف الحكم لأن الحكم المعلل بعلتين فأكثر لا يبطله سقوط بعضها بخلاف العلة المركبة إذا تخلف جزء منها .

{ وَتِلْكَ حُدُودُ الله } .

الواو اعتراضية والجملة معترضة بين جملة { ولا يخرجن } ، وجملة { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } أريد بهذا الاعتراض المبادرة بالتنبيه إلى إقامة الأحكام المذكورة من أول السورة إقامةً لا تقصير فيها ولا خيرة لأحد في التسامح بها ، وخاصة المطلَّقة والمطلِّق أن يحسبا أن ذلك من حقهما انفراداً أو اشتراكاً .

والإشارة إلى الجمل المتقدمة باعتبار معانيها بتأويل القضايا .

والحدودُ : جمع حد وهو ما يَحُد ، أي يمنع من الاجتياز إلى ما ورائه للأماكن التي لا يحبون الاقتحام فيها إما مطلقاً مِثل حدود الحِمى وإما لوجوب تغيير الحالة مثل حدود الحَرم لمنع الصيد وحدود المواقيت للإحرام بالحج والعمرة .

والمعنى : أن هذه الأحكام مشابهة الحدود في المحافظة على ما تقتضيه في هذا .

ووجه الشبه إنما يراعى بما يسمح به عرف الكلام مثل قولهم : « النحو في الكلام كالملح في الطعام » فإن وجه التشبيه أنه لا يصلح الكلام بدونه وليس ذلك بمقتض أن يكون الكثير من النحو في الكلام مفسداً ككثرة الملح في الطعام .

ووقوع { حدود الله } خبراً عن اسم الإشارة الذي أشير به إلى أشياء معينة يجعل إضافة حدود إلى اسم الجلالة مراداً منها تشريف المضاف وتعظيمه .

والمعنى : وتلك مما حدّ الله فلا تفيد تعريف الجمع بالإضافة عموماً لصرف القرينة عن إفادة ذلك لظهور أن تلك الأشياء المعينة ليست جميع حدود الله .

{ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَقَدْ ظَلَمَ نفسه } .

عطف على جملة ، { وتلك حدود الله } . فهو تتميم وهو المقصود من التذييل وإذ قد كان حدود الله جمعاً معرفاً بالإضافة كان مفيداً للعموم إذ لا صارف عن إرادة العموم بخلاف إضافة حدود الله السابق .

والمعنى : من يتعد شيئاً من حدود الله فقد ظلم نفسه ، وبهذا تعلم أن ليس في قوله : { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } إظهار في مقام الإضمار لاختلاف هذين المركبين بالعموم والخصوص وجيء بهذا الإطناب لتهويل أمر هذا التعدي .

وأُخبر عن متعديها بأنه ظلم نفسه للتخويف تحذيراً من تعدي هذه الحدود فإن ظلم النفس هو الجريرة عليها بما يعود بالإضرار وذلك منه ظلم لها في الدنيا بتعريض النفس لعواقب سيئة تنجر من مخالفة أحكام الدين لأن أحكامه صلاح للناس فمن فرط فيها فاتته المصالح المنطوية هي عليها .

قال : { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطَهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون } [ المائدة : 6 ] .

ومنه ظلم للنفس في الآخرة بتعريضها للعقاب المتوعد به على الإخلال بأحكام الدّين قال تعالى : { أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنتُ لمن الساخرين أو تقولَ لو أن الله هداني لكنت من المتقين أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين } [ الزمر : 56 58 ] فإن للمؤمنين حظاً من هذا الوعيد بمقدار تفاوت ما بين الكفر ومجرد العصيان وجيء في هذا التحذير بمَن الشرطية لإفادة عموم كل من تعدى حدود الله فيدخل في ذلك الذين يتعدون أحكام الطلاق وأحكام العدة في هذا العموم .

{ لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أمرا } .

هذه الجملة تعليل لجملة { فطلقوهن لعدتهن } وما ألحق بها مما هو إيضاح لها وتفصيل لأحوالها . ولذلك جاءت مفصولة عن الجمل التي قبلها .

ويجوز كونها بَدلاً من جملة { ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه } بدل اشتمال لأن ظلم النفس بعضه حاصل في الدنيا وهو مشتمل على إضاعة مصالح النفس عنها . وقد سلك في هذه الآية مسلك الترغيب في امتثال الأحكام المتقدمة بعد أن سلك في شأنها مسلك الترهيب من مخالفتها .

فمن مصالح الاعتداد ما في مدة الاعتداد من التوسيع على الزوجين في مهلة النظر في مصير شأنهما بعد الطلاق ، فقد يتضح لهما أو لأحدهما متاعب وأضرار من انفصام عروة المعاشرة بينهما فَيعُّدّ ما أضجرهما من بعض خُلقهما شيئاً تافهاً بالنسبة لما لحقهما من أضرار الطلاق فيندم كلاهما أو أحدهما فيجدا من المدة ما يسع للسعي بينهما في إصلاح ذات بينهما .

والمقصود الإشارة إلى أهم ما في العدة من المصالح وهو ما يُحدثه الله من أمر بعد الطلاق وتنكير أمر للتنويع .

أي أمراً موصوفاً بصفة محذوفة ، أي أمراً نافعاً لهما .

وهذا الأمر هو تقليب القلوب من بغض إلى محبة ، ومن غضب إلى رضى ، ومن إيثار تحمل المخالفة في الأخلاق مع المعاشرة على تحمل آلام الفراق وخاصة إذا كان بين المتفارقين أبناء ، أو من ظهور حمل بالمطلقة بعد أن لم يكن لها أولاد فيلزُّ ظهوره أباه إلى مراجعة أمه المطلقة . على أن في الاعتداد والإسكان مصالح أخرى كما علمته آنفاً .

والخطاب في قوله : { لا تدري } لغير معين جار على طريقة القصد بالخطاب إلى كل من يصلح للخطاب ويهمه أمر الشيء المخاطب به من كل من قَصر بصره إلى حالة الكراهية التي نشأ عليها الطلاق ولم يتدبر في عواقب الأمور ولا أحاط فِكرُه بصور الأحوال المختلفة المتقلبة كما قال تعالى : { فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً } [ النساء : 19 ] .

ولعل كلمة { لا تدري } تجري مجرى المثل فلا يراد مما فيها من علامة الخطاب ولا من صيغة الإفراد إلا الجري على الغالب في الخطاب وهو مبني على توجيه الخطاب لغير معين .

و { لعل } ومعمولاها سادّة معلقة فعل { تدري } عن العمل .