الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ إِلَّآ أَن يَأۡتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا} (1)

مقدمة السورة:

مدنية وآياتها 12 .

قوله تعالى : { يا أيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء } أي : إذا أرَدْتُم طلاقَهُنَّ ؛ قاله الثعلبيّ وغيره : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } وطَلاَقُ النساء حَلُّ عِصْمَتِهِنَّ ، وصورَةُ ذلك وتَنْويعِه مِما لا يَخْتَصُّ بالتفسيرِ ، ومعنى { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } أي : لاسْتِقْبَالِ عِدَّتِهِن ، وعبارةُ الثعلبيِّ : أي : لِطُهْرِهِنَّ الذي يُحْصِينَه مِنْ عِدَّتِهِنَّ ، وهُو طُهْرٌ لَمْ يجامعْهَا فيه ، انتهى . قال ( ع ) : ومعنى الآيةِ أنْ لاَ يُطَلِّقَ أحَدٌ امرأتَه إلا في طُهْرٍ لَمْ يَمَسَّها فِيهِ ، وهَذَا على مَذْهَبِ مالكٍ ومن قال بقوله ؛ القائلينَ بأن الأَقْرَاءَ عندَهم هي الأطْهَارُ ، فَيُطَلِّقُ عَنْدَهم المُطَلِّقُ في طُهْرٍ لم يمسَّ فيه ، وتَعْتَدُّ به المرأةُ ، ثم تَحِيضُ حَيْضَتَيْنِ تَعْتَدّ بالطهْرِ الذي بَيْنَهُمَا ثُمَّ تُقِيمُ في الطُّهْرِ الثَّالِثِ مُعَتَدَّةً بِهِ ، فإذا رأت أوّلَ الحَيْضَةِ الثالثةِ حَلَّتْ ، وَمَنْ قَالَ بأنَّ الأَقْرَاءَ : الحَيْضُ وَهُمْ العِرَاقِيُّونَ ، قَالَ : { لِعِدَّتِهِنَّ } مَعْنَاهُ أنْ تُطَلَّقَ طَاهِراً فَتَسْتَقْبِلُ بِثَلاَثِ حَيْضٍ كَوامِلٌ فإذَا رَأَتْ الطُّهْرَ بَعْدَ الثالثة ، حَلَّتْ .

والأَصْلُ في مَنْعَ طَلاَقِ الحَائِضِ حَدِيثِ ابنِ عمرَ ، ثم أمر تَعَالى بإحْصَاء العِدَّةِ لِمَا يَلْحَقُ ذلك من أحكام الرَّجْعَةِ والسُّكْنَى ، والميراثِ ، وغيرُ ذلك ، وعبارة الثعلبي : { وَأَحْصُواْ العدة } أي : احْفَظُوا عَدَدَ قُرُوئِها الثلاثةِ وَنَحْوَه تفسيرُ ابن العربيّ ؛ قال : قوله تعالى : { وَأَحْصُواْ العدة } معْنَاهُ احْفَظُوا الوَقْتَ الَّذِي وَقَعَ فِيه الطَّلاَقُ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذلكَ من الأحكامِ ، انتهى من «أحكامه » ، ثم أخبرَ تعالى بأنهنّ أحَقُّ بسكنى بيوتِهن التي طُلِّقْنَ فيها فَنَهَى سبحانَه عن إخراجِهنَّ وعَنْ خُروجِهنّ ، وسنةُ ذلك ألا تَبِيتَ عَن بيتِها ولا تَغِيبَ عنهُ نهاراً إلا في ضرورةٍ ومَا لا خَطْبَ لَه من جائِز التصرُّفِ ، وذلك لحفظِ النَّسَبِ والتحرُّزِ بالنسَاء ، واختُلِفَ في معنى قوله تعالى : { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } فقال الحسن وغيره : ذلك الزِّنَا فَيُخْرَجْنَ للحَدِّ ، وقال ابن عباس : ذلك البَذَاءُ عَلَى الأَحْمَاءِ ، فَتَخْرُجَ ويَسْقُطَ حَقُّها مِنَ المسكنِ ، وتلزم الإقامَة في مسكنٍ تَتَّخِذُه حفظاً للنسبِ ، وفي مصحف أبَيٍّ { إلا أنْ يَفْحُشْنَ عَلَيْكُمْ } وعبارةُ الثعلبيّ : عن ابن عباسٍ : «إلا أنْ تَبْذُوَ عَلَى أهْلِهَا فَيَحِلُّ لَهُمْ إخْرَاجُهَا » ، انتهى . وهو معنى ما تقدم ، وقرأ الجمهور : ( مُبَيِّنَة ) بكسر الياءِ ، تقول بَانَ الشيءُ وَبَيَّنَ بمعنًى واحدٍ إلا أن التضعيفَ للمبَالَغَةِ ، وقرأ عاصم : «مُبَيَّنة » بفتح الياءِ .

وقوله سبحانه : { وَتِلْكَ حُدُودُ الله } إشارَةٌ إلى جميع أوامِرِه في هذه الآيةِ .

وقوله تعالى : { لا تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } قال قتادة وغيره : يريد به الرَّجْعَةَ ، أي : أحْصُوا العدةَ وامْتَثِلُوا مَا أُمِرْتُمْ به تَجِدُوا المُخَلِّصَ إن ندمتم ؛ فإنكم لا تدرونَ لعلّ الرَّجْعَةَ تكونُ بَعْدُ .