الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ إِلَّآ أَن يَأۡتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا} (1)

مقدمة السورة:

مدنية وهي إحدى عشرة أو اثنتا عشرة أو ثلاث عشرة آية

خص النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء وعم بالخطاب ؛ لأنّ النبي إمام أمّته وقدوتهم ، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم : يا فلان افعلوا كيت وكيت ، إظهاراً لتقدّمه واعتباراً لترؤسه ، وأنه مدرهُ قومه ولسانهم ، والذي يصدرون عن رأيه ولا يستبدون بأمر دونه ، فكان هو وحده في حكم كلهم ، وسادّاً مسدّ جميعهم . ومعنى { إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء } إذا أردتم تطليقهنّ وهممتم به على تنزيل المقبل على الأمر المشارف له منزلة الشارع فيه : كقوله عليه السلام : « من قتل قتيلاً فله سلبه » ومنه كان الماشي إلى الصلاة والمنتظر لها في حكم المصلي { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } فطلقوهن مستقبلات لعدتهن ، كقولك : أتيته لليلة بقيت من المحرم ، أي : مستقبلاً لها . وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم : في قُبلِ عدتهنّ ، وإذا طلقت المرأة في الطهر المتقدم للقرء الأوّل من أقرائها ، فقد طلقت مستقبلة لعدتها . والمراد : أن يطلقن في طهر لم يجامعن فيه ، ثم يخلين حتى تنقضى عدّتهن . وهذا أحسن الطلاق وأدخله في السنة وأبعده من الندم ، ويدل عليه ما روي عن إبراهيم النخعي أنّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يستحبون أن لا يطلقوا أزواجهم للسنة إلا واحدة ، ثم لا يطلقوا غير ذلك حتى تنقضي العدّة ، وكان أحسن عندهم من أن يطلق الرجل ثلاثاً في ثلاثة أطهار . وقال مالك بن أنس رضي الله عنه : لا أعرف طلاق السنة إلا واحدة ، وكان يكره الثلاث مجموعة كانت أو متفرقة . وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنما كرهوا ما زاد على الواحد في طهر واحد ، فأما مفرقاً في الأطهار فلا ؛ لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض : « ما هكذا أمرك الله ، إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالاً ، وتطلقها لكل قرء تطليقة » وروى أنه قال لعمر : « مر ابنك فليراجعها ، ثم ليدعها حتى تحيض ثم تطهر ، ثم ليطلقها إن شاء ؛ فتلك العدّة التي أمر الله أن تطلق لها النساء » . وعند الشافعي رضي الله عنه : لا بأس بإرسال الثلاث ، وقال : لا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة وهو مباح . فما لك تراعي في طلاق السنة الواحدة والوقت ؛ وأبو حنيفة يراعي التفريق والوقت ؛ والشافعي يراعي الوقت وحده .

فإن قلت : هل يقع الطلاق المخالف للسنة ؟ قلت : نعم ، وهو آثم ؛ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنّ رجلاً طلق امرأته ثلاثاً بين يديه ، فقال لا « أتلعبون بكتاب الله وأنا بين أظهركم » وفي حديث ابن عمر أنه قال : يا رسول الله ، أرأيت لو طلقتها ثلاثاً ، فقال له :

" إذن عصيت وبانت منك امرأتك " وعن عمر رضي الله عنه : أنه كان لا يؤتى برجل طلق امرأته ثلاثاً إلا أوجعه ضرباً . وأجاز ذلك عليه . وعن سعيد بن المسيب وجماعة من التابعين : أنّ من خالف السنة في الطلاق فأوقعه في حيض أو ثلث لم يقع ، وشبهوه بمن وكل غيره بطلاق السنة فخالف .

فإن قلت : كيف تطلق للسنة التي لا تحيض لصغر أو كبر أو حمل وغير المدخول بها ؟ قلت : الصغيرة والآيسة والحامل كلهن عند أبي حنيفة وأبي يوسف يفرق عليهن الثلاث في الأشهر ، وخالفما محمد وزفر في الحامل فقالا : لا تطلق للسنة إلا واحدة . وأما غير المدخول بها فلا تطلق للسنة إلا واحدة ، ولا يراعي الوقت .

فإن قلت : هل يكره أن تطلق المدخول بها واحدة بائنة ؟ قلت : اختلفت الرواية فيه عن أصحابنا . والظاهر الكراهة .

فإن قلت : قوله إذا طلقتم النساء عام يتناول المدخول بهن وغير المدخول بهن من ذوات الأقراء والآيسات والصغائر والحوامل ، فكيف صحّ تخصيصه بذوات الأقراء المدخول بهن ؟ قلت : لا عموم ثم ولا خصوص ، ولكن النساء اسم جنس للإناث من الإنس ، وهذه الجنسية معنى قائم في كلهن وفي بعضهن ، فجاز أن يراد بالنساء هذاوذاك ، فلما قيل : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } علم أنه أطلق على بعضهنّ وهنّ المدخول بهن من المعتدات بالحيض { وَأَحْصُواْ العدة } واضبطوها بالحفظ وأكملوها ثلاثة أقراء مستقبلات كوامل لا نقصان فيهن ، { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ } حتى تنقضي عدتهنّ { مِن بُيُوتِهِنَّ } من مساكنهنّ التي يسكنها قبل العدة ، وهي بيوت الأزواج ؛ وأضيفت إليهنّ لاختصاصها بهنّ من حيث السكنى .

فإن قلت : ما معنى الجمع بين إخراجهم أو خروجهن ؟ قلت : معنى الإخراج : أن لا يخرجهن البعولة غضباً عليهن وكراهة لمساكنتهن ، أو لحاجة لهم إلى المساكن ، وأن لا يأذنوا لهنّ في الخروج إذا طلبن ذلك ، إيذاناً بأنّ إذنهم لا أثر له في رفع الحظر ، ولا يخرجن بأنفسهن إن أردن ذلك { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } قرىء : بفتح للياء وكسرها . قيل : هي الزنا ، يعني إلا أن يزنين فيخرجن لإقامة الحد عليهن وقيل : إلا أن يطلقن على النشوز ، والنشوز يسقط حقهن في السكنى . وقيل : إلا أن يبذون فيحل إخراجهنّ لبذائهنّ ؛ وتؤكده قراءة أبي «إلا أن يفحش عليكم » وقيل : خروجها قبل انقضاء العدة فاحشة في نفسه . الأمر الذي يحدثه الله : أن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها ، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها . ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه فيراجعها . والمعنى : فطلقوهنّ لعدتهن وأحصوا العدة ، لعلكم ترغبون وتندمون فتراجعون .