{ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة } .
أما التعلق بما قبلها فذلك أنه تعالى قال في أول تلك السورة : { له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير } والملك يفتقر إلى التصرف على وجه يحصل منه نظام الملك ، والحمد يفتقر إلى أن ذلك التصرف بطريق العدل والإحسان في حق المتصرف فيه وبالقدرة على من يمنعه عن التصرف وتقرير الأحكام في هذه السورة متضمن لهذه الأمور المفتقرة إليها تضمنا لا يفتقر إلى التأمل فيه ، فيكون لهذه السورة نسبة إلى تلك السورة ، وأما الأول بالآخر فلأنه تعالى أشار في آخر تلك السورة إلى كمال علمه بقوله : { عالم الغيب } وفي أول هذه السورة إلى كمال علمه بمصالح النساء وبالأحكام المخصوصة بطلاقهن ، فكأنه بين ذلك الكلي بهذه الجزئيات ، وقوله : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق حفصة فأتت إلى أهلها فنزلت ، وقيل : راجعها فإنها صوامة قوامة وعلى هذا إنما نزلت الآية بسبب خروجها إلى أهلها لما طلقها النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله في هذه الآية : { ولا يخرجن من بيوتهن } وقال الكلبي : إنه عليه السلام غضب على حفصة لما أسر إليها حديثا فأظهرته لعائشة فطلقها تطليقة فنزلت ، وقال السدي : نزلت في عبد الله بن عمر لما طلق امرأته حائضا والقصة في ذلك مشهورة وقال مقاتل : إن رجالا فعلوا مثل ما فعل ابن عمر ، وهم عمرو بن سعيد بن العاص وعتبة بن غزوان فنزلت فيهم ، وفي قوله تعالى : { يا أيها النبي إذا طلقتم النساء } وجهان ( أحدهما ) أنه نادى النبي صلى الله عليه وسلم ثم خاطب أمته لما أنه سيدهم وقدوتهم ، فإذا خوطب خطاب الجمع كانت أمته داخلة في ذلك الخطاب . قال أبو إسحاق : هذا خطاب النبي عليه السلام ، والمؤمنون داخلون معه في الخطاب ( وثانيهما ) أن المعنى يا أيها النبي قل لهم : إذا طلقتم النساء فأضمر القول ، وقال الفراء : خاطبه وجعل الحكم للجميع ، كما تقول للرجل : ويحك أما تتقون الله أما تستحيون ، تذهب إليه وإلى أهل بيته و { إذا طلقتم } أي إذا أردتم التطليق ، كقوله : { إذا قمتم إلى الصلاة } أي إذا أردتم الصلاة ، وقد مر الكلام فيه ، وقوله تعالى : { فطلقوهن لعدتهن } قال عبد الله : إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته ، فيطلقها طاهرا من غير جماع ، وهذا قول مجاهد وعكرمة ومقاتل والحسن ، قالوا : أمر الله تعالى الزوج بتطليق امرأته إذا شاء الطلاق في طهر لم يجامعها فيه ، وهو قوله تعالى : { لعدتهن } أي لزمان عدتهن ، وهو الطهر بإجماع الأمة ، وقيل : لإظهار عدتهن ، وجماعة من المفسرين قالوا : الطلاق للعدة أن يطلقها طاهرة من غير جماع ، وبالجملة ، فالطلاق في حال الطهر لازم ، وإلا لا يكون الطلاق سنيا ، والطلاق في السنة إنما يتصور في البالغة المدخول بها غير الآيسة والحامل ، إذ لا سنة في الصغير وغير المدخول بها ، والآيسة والحامل ، ولا بدعة أيضا لعدم العدة بالأقراء ، وليس في عدد الطلاق سنة وبدعة ، على مذهب الشافعي حتى لو طلقها ثلاثا في طهر صحيح لم يكن هذا بدعيا بخلاف ما ذهب إليه أهل العراق ، فإنهم قالوا : السنة في عدد الطلاق أن يطلق كل طلقة في طهر صحيح . وقال صاحب النظم : { فطلقوهن لعدتهن } صفة للطلاق كيف يكون ، وهذه اللام تجيء لمعان مختلفة للإضافة وهي أصلها ، ولبيان السبب والعلة كقوله تعالى : { إنما نطعمكم لوجه الله } وبمنزلة عند مثل قوله : { أقم الصلاة لدلوك الشمس } أي عنده ، وبمنزلة في مثل قوله تعالى : { هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر } وفي هذه الآية بهذا المعنى ، لأن المعنى فطلقوهن في عدتهن ، أي في الزمان الذي يصلح لعدتهن فقال صاحب الكشاف : فطلقوهن مستقبلات لعدتهن كقوله : أتيته لليلة بقيت من المحرم أي مستقبلا لها ، وفي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم : ( من قبل عدتهن ) فإذا طلقت المرأة في الطهر المتقدم للقرء الأول من أقرائها فقد طلقت مستقبلة العدة ، المراد أن يطلقن في طهر لم يجامعن فيه ، يخلين إلى أن تنقضي عدتهن ، وهذا أحسن الطلاق وأدخله في السنة وأبعده من الندم ويدل عليه ما روي عن إبراهيم النخعي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يستحبون أن لا يطلقوا أزواجهم للسنة إلا واحدة ثم لا يطلقوا غير ذلك حتى تنقضي العدة وكان أحسن عندهم من أن يطلق الرجل ثلاث تطليقات ، وقال مالك بن أنس : لا أعرف طلاقا إلا واحدة ، وكان يكره الثلاث مجموعة كانت أو متفرقة ، وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنما كرهوا ما زاد على الواحدة في طهر واحد ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض : " ما هكذا أمرك الله تعالى إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالا وتطلقها لكل قرء تطليقة " وعند الشافعي لا بأس بإرسال الثلاث ، وقال : لا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة وهو مباح فمالك يراعى في طلاق السنة الواحدة والوقت ، وأبو حنيفة يراعي التفريق والوقت ، والشافعي يراعي الوقت وحده ، وقوله تعالى : { وأحصوا العدة } أي أقراءها فاحتفظوا لها واحفظوا الحقوق والأحكام التي تجب في العدة واحفظوا نفس ما تعتدون به وهو عدد الحيض ، ثم جعل الإحصاء إلى الأزواج يحتمل وجهين ( أحدهما ) أنهم هم الذين يلزمهم الحقوق والمؤن ( وثانيهما ) ليقع تحصين الأولاد في العدة ، ثم في الآية مباحث :
الأول : ما الحكمة في إطلاق السنة وإطلاق البدعة ؟ نقول : إنما سمي بدعة لأنها إذا كانت حائضا لم تعتد بأيام حيضها عن عدتها بل تزيد على ثلاثة أقراء فتطول العدة عليها حتى تصير كأنها أربعة أقراء وهي في الحيض الذي طلقت فيه في صورة المعلقة التي لا هي معتدة ولا ذات بعل والعقول تستقبح الإضرار ، وإذا كانت طاهرة مجامعة لم يؤمن أن قد علقت من ذلك الجمع بولد ولو علم الزوج لم يطلقها ، وذلك أن الرجل قد يرغب في طلاق امرأته إذا لم يكن بينهما ولد ولا يرغب في ذلك إذا كانت حاملا منه بولد ، فإذا طلقها وهي مجامعة وعنده أنها حائل في ظاهر الحال ثم ظهر بها حمل ندم على طلاقها ففي طلاقه إياها في الحيض سوء نظر للمرأة ، وفي الطلاق في الطهر الذي جامعها فيه وقد حملت فيه سوء نظر للزوج ، فإذا طلقت وهي طاهر غير مجامعة أمن هذان الأمران ، لأنها تعتد عقب طلاقه إياها ، فتجري في الثلاثة قروء ، والرجل أيضا في الظاهر على أمان من اشتمالها على ولد منه .
الثاني : هل يقع الطلاق المخالف للسنة ؟ نقول : نعم ، وهو آثم لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا طلق امرأته ثلاثا بين يديه ، فقال له : " أو تلعبون بكتاب الله وأنا بين أظهركم "
الثالث : كيف تطلق للسنة التي لا تحيض لصغر أو كبر أو غير ذلك ؟ نقول : الصغيرة والآيسة والحامل كلهن عند أبي حنيفة وأبي يوسف يفرق عليهن الثلاث في الأشهر ، وقال محمد وزفر : لا يطلق للسنة إلا واحدة . وأما غير المدخول بها فلا تطلق للسنة إلا واحدة ، ولا يراعى الوقت .
الرابع : هل يكره أن تطلق المدخول بها واحدة بائنة ؟ نقول : اختلفت الرواية فيه عن أصحابنا ، والظاهر الكراهة .
الخامس : { إذا طلقتم النساء } عام يتناول المدخول بهن ، وغير المدخول بهن من ذوات الأقراء ، والآيسات والصغار والحوامل ، فكيف يصح تخصيصه بذوات الأقراء والمدخول بهن ؟ نقول : لا عموم ثمة ولا خصوص أيضا ، لكن النساء اسم جنس للإناث من الإنس ، وهذه الجنسية معنى قائم في كلهن ، وفي بعضهن ، فجاز أن يراد بالنساء هذا وذاك فلما قيل : { فطلقوهن لعدتهن } علم أنه أطلق على بعضهن ، وهن المدخول بهن من المعتدات بالحيض ، كذا ذكره في الكشاف .
قوله تعالى : { واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } .
قوله : { اتقوا الله } قال مقاتل : اخشوا الله فلا تعصوه فيما أمركم و { لا تخرجوهن } أي لا تخرجوا المعتدات من المساكن التي كنتم تساكنونهن فيها قبل الطلاق ، فإن كانت المساكن عارية فارتجعت كان على الأزواج أن يعينوا مساكن أخرى بطريق الشراء ، أو بطريق الكراء ، أو بغير ذلك ، وعلى الزوجات أيضا أن لا يخرجن حقا لله تعالى إلا لضرورة ظاهرة ، فإن خرجت ليلا أو نهارا كان ذلك الخروج حراما ، ولا تنقطع العدة .
وقوله تعالى : { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } قال ابن عباس : هو أن يزنين فيخرجن لإقامة الحد عليهن ، قال الضحاك الأكثرون : فالفاحشة على هذا القول هي الزنا ، وقال ابن عمر : الفاحشة خروجهن قبل انقضاء العدة ، قال السدي والباقون : الفاحشة المبينة هي العصيان المبين ، وهو النشوز ، وعن ابن عباس : إلا أن يبذون فيحل إخراجهن لبذائهن وسوء خلقهن ، فيحل للأزواج إخراجهن من بيوتهن ، وفي الآية مباحث :
البحث الأول : هل للزوجين التراضي على إسقاطها ؟ نقول : السكنى الواجبة في حال قيام الزوجية حق للمرأة وحدها فلها إبطالها ، ووجه هذا أن الزوجين ما داما ثابتين على النكاح فإنما مقصودهما المعاشرة والاستمتاع ، ثم لا بد في تمام ذلك من أن تكون المرأة مستعدة له لأوقات حاجته إليها ، وهذا لا يكون إلا بأنه يكفيها في نفقتها ، كطعامها وشرابها وأدمها ولباسها وسكناها ، وهذه كلها داخلة في إحصاء الأسباب التي بها يتم كل ما ذكرنا من الاستمتاع ، ثم ما وراء ذلك من حق صيانة الماء ونحوها ، فإن وقعت الفرقة زال الأصل الذي هو الانتفاع وزواله بزوال الأسباب الموصلة إليه من النفقة عليها ، واحتيج إلى صيانة الماء فصارت السكنى في هذه الحالة بوجوبها الإحصاء لأسبابها ، لأن أصلها السكنى ، لأن بها تحصينها ، فصارت السكنى في هذه الحالة لا اختصاص لها بالزوج ، وصيانة الماء من حقوق الله ، ومما لا يجوز التراضي من الزوجين على إسقاطه ، فلم يكن لها الخروج ، وإن رضي الزوج ، ولا إخراجها ، وإن رضيت إلا عن ضرورة مثل انهدام المنزل ، وإخراج غاصب إياها أو نقلة من دار بكراء قد انقضت إجارتها أو خوف فتنة أو سيل أو حريق ، أو غير ذلك من طريق الخوف على النفس ، فإذا انقضى ما أخرجت له رجعت إلى موضعها حيث كان ( الثاني ) قال : { واتقوا الله ربكم } ولم يقل : واتقوا الله مقصورا عليه فنقول : فيه من المبالغة ما ليس في ذلك فإن لفظ الرب ينبههم على أن التربية التي هي الإنعام والإكرام بوجوه متعددة غاية التعداد فيبالغون في التقوى حينئذ خوفا من فوت تلك التربية ( الثاني ) ما معنى الجمع بين إخراجهم وخروجهن ؟ نقول : معنى الإخراج أن لا يخرجهن البعولة غضبا عليهن وكراهة لمساكنتهن أو لحاجة لهم إلى المساكن وأن لا يأذنوا لهن في الخروج إذا طلبن ذلك ، إيذانا بأن إذنهم لا أثر له في رفع الحظر ، ولا يخرجن بأنفسهن إن أردن ذلك . ( الثالث ) قرئ { بفاحشة مبينة } و { مبينة } فمن قرأ مبينة بالخفض فمعناه : أن نفس الفاحشة إذا تفكر فيها تبين أنها فاحشة ، ومن قرأ { مبينة } بالفتح فمعناه أنها مبرهنة بالبراهين ، ومبينة بالحجج ، وقوله : { وتلك حدود الله } والحدود هي الموانع عن المجاوزة نحو النواهي ، والحد في الحقيقة هي النهاية التي ينتهي إليها الشيء ، قال مقاتل : يعود ما ذكر من طلاق السنة وما بعده من الأحكام { ومن يتعد حدود الله } وهذا تشديد فيمن يتعدى طلاق السنة ، ومن يطلق لغير العدة { فقد ظلم نفسه } أي ضر نفسه ، ولا يبعد أن يكون المعنى ومن يتجاوز الحد الذي جعله الله تعالى فقد وضع نفسه موضعا لم يضعه فيه ربه ، والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه ، وقوله تعالى : { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } قال ابن عباس : يريد الندم على طلاقها والمحبة لرجعتها في العدة وهو دليل على أن المستحب في التطليق أن يوقع متفرقا ، قال أبو إسحاق : إذا طلقها ثلاثا في وقت واحد فلا معنى في قوله : { لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } .