في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ إِلَّآ أَن يَأۡتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة الطلاق مدنية وآياتها اثنتا عشرة

هذه سورة الطلاق ، يبين الله فيها أحكامه ، ويفصل فيها الحالات التي لم تفصل في السورة الأخرى " سورة البقرة " التي تضمنت بعض أحكام الطلاق ؛ ويقرر فيها أحكام الحالات المتخلفة عن الطلاق من شؤون الأسرة . وقد تضمنت هذه السورة بيان الوقت الذي يمكن أن يقع فيه الطلاق الذي يقبله الله ويجري وفق سنته : ( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ) . .

وحق المطلقة وواجبها في البقاء في بيتها - وهو بيت مطلقها - فترة العدة لا تخرج ولا تخرج إلا أن تأتي بفاحشة مبينة : ( لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) . .

وحقها بعد انقضاء العدة في الخروج لتفعل بنفسها ما تشاء ، ما لم يكن الزوج قد راجعها وأمسكها في فترة العدة ، لا ليضارها ويؤذيها بهذا الإمساك ويعطلها عن الزواج ، ولكن لتعود الحياة الزوجية بينهما بالمعروف : ( فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ) . . وهذا مع الإشهاد على الإمساك أو الفراق : ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) . .

وفي سورة البقرة بين مدة العدة للمطلقة ذات الحيض - وهي ثلاثة قروء بمعنى ثلاث حيضات أو ثلاثة أطهار من الحيضات على خلاف فقهي - وهنا بين هذه المدة بالنسبة للآيسة التي انقطع حيضها وللصغيرة التي لم تحض : ( واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن ) . .

وبين عدة الحامل : ( وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن ) . .

ثم فصل حكم المسكن الذي تعتد فيه المعتدة ونفقة الحمل حتى تضع : ( أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ، ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن . وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن ) . .

ثم حكم الرضاعة لولد المطلقة حين تضعه ، وأجر الأم على الرضاعة في حالة الإتفاق بينها وبين أبيه على مصلحة الطفل بينهما ، وفي حالة إرضاعه من أخرى : ( فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف . وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى ) . .

ثم زاد حكم النفقة والأجر في جميع الحالات تفصيلا ، فجعله تابعا لحالة الزوج وقدرته : ( لينفق ذو سعة من سعته ، ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله . لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ) . .

وهكذا تتبعت النصوص سائر الحالات ، وما يتخلف عنها ، بأحكام مفصلة دقيقة ، ولم تدع شيئا من أنقاض الأسرة المفككة بالطلاق إلا أراحته في مكانه ، وبينت حكمه ، في رفق وفي دقة وفي وضوح . .

ويقف الإنسان مدهوشا أمام هذه السورة وهي تتناول أحكام هذه الحالة ومتخلفاتها . وهي تحشد للأمر هذه الحشد العجيب من الترغيب والترهيب ، والتعقيب على كل حكم ، ووصل هذا الأمر بقدر الله في السماوات والأرضين ، وسنن الله في هلاك العاتين عن أمره ، وفي الفرج والسعة لمن يتقونه . وتكرار الأمر بالمعروف والسماحة والتراضي ، وإيثار الجميل . والإطماع في الخير . والتذكير بقدر الله في الخلق وفي الرزق ، وفي اليسر والعسر . .

يقف الإنسان مدهوشا أمام هذا الحشد من الحقائق الكونية الكبرى في معرض الحديث عن الطلاق أمام هذا الاحتفال والاهتمام - حتى ليوجه الخطاب إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] بشخصه ، وهو أمر عام للمؤمنين وحكم عام للمسلمين ، زيادة في الاهتمام وإشعارا بخطورة الأمر المتحدث فيه . وأمام هذا التفصيل الدقيق للأحكام حالة حالة ، والأمر المشدد في كل حكم بالدقة في مراعاته ، وتقوى الله في تنفيذه ، ومراقبة الله في تناوله . والإطالة في التعقيب بالترغيب والترهيب ، إطالة تشعر القلب كأن هذا الأمر هو الإسلام كله ! وهو الدين كله ! وهو القضية التي تفصل فيها السماء ، وتقف لتراقب تنفيذ الأحكام ! وتعد المتقين فيها بأكبر وأسمى ما يتطلع إليه المؤمن ؛ وتوعد الملتوين والمتلكئين والمضارين بأعنف وأشد ما يلقاه عاص ؛ وتلوح للناس بالرجاء الندي والخير المخبوء وراء أخذ الأمر بالمعروف والسماحة والتجمل والتيسير .

ويقرأ القارئ في هذه السورة . . ( واتقوا الله ربكم ) . . ( وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ) . . ( لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ) . . ( وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ) . . ( ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ) . . ( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب . . ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره . قد جعل الله لكل شيء قدرا ) . . ( ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا ) . ( ذلك أمر الله أنزله إليكم ) ( ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا ) . . ( سيجعل الله بعد عسر يسرا ) . .

كما يقرأ ذلك التهديد العنيف الطويل المفصل : ( وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا ، وعذبناها عذابا نكرا . فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا . أعد الله لهم عذابا شديدا ) . .

يعقبه التحذير من مثل هذا المصير ، والتذكير بنعمة الله بالرسول وما معه من النور ، والتلويح بالأجر الكبير : ( فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا ، قد أنزل الله إليكم ذكرا : رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور . ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا ) . .

ثم يقرأ هذا الإيقاع الهائل الضخم في المجال الكوني الكبير : ( الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن ، يتنزل الأمر بينهن ، لتعلموا أن الله على كل شيء قدير ، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ) . .

يقرأ هذا كله تعقيبا على أحكام الطلاق . ويجد سورة كاملة في القرآن ، من هذا الطراز ، كلها موقوفة على تنظيم هذه الحالة ومتخلفاتها كذلك ! وربطها هكذا بأضخم حقائق الإيمان في المجال الكوني والنفسي . وهي حالة تهدم لا حالة بناء ، وحالة انتهاء لا حالة إنشاء . . لأسرة . . لا لدولة . . وهي توقع في الحس أنها أضخم من إنشاء دولة !

علام يدل هذا ?

إن له عدة دلالات تجتمع كلها عند سمو هذا الدين وجديته وانبثاقه من نبع غير بشري على وجه التأكيد . حتى لو لم تكن هناك دلالة أخرى سوى دلالة هذه السورة !

إنه يدل ابتداء على خطورة شأن الأسرة في النظام الإسلامي :

فالإسلام نظام أسرة . البيت في اعتباره مثابة وسكن ، في ظله تلتقي النفوس على المودة والرحمة والتعاطف والستر والتجمل والحصانة والطهر ؛ وفي كنفه تنبت الطفولة ، وتدرج الحداثة ؛ ومنه تمتد وشائج الرحمة وأواصر التكافل .

ومن ثم يصور العلاقة البيتية تصويرا رفافا شفيفا ، يشع منه التعاطف ، وترف فيه الظلال ، ويشيع فيه الندى ، ويفوح منه العبير : ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ) . . ( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ) . . فهي صلة النفس بالنفس ، وهي صلة السكن والقرار ، وهي صلة المودة والرحمة ، وهي صلة الستر والتجمل . وإن الإنسان ليحس في الألفاظ ذاتها حنوا ورفقا ، ويستروح من خلالها نداوة وظلا . وإنها لتعبير كامل عن حقيقة الصلة التي يفترضها الإسلام لذلك الرباط الإنساني الرفيق الوثيق . ذلك في الوقت الذي يلحظ فيه أغراض ذلك الرباط كلها ، بما فيها امتداد الحياة بالنسل ، فيمنح هذه الأغراض كلها طابع النظافة والبراءة ، ويعترف بطهارتها وجديتها ، وينسق بين اتجاهاتها ومقتضياتها . ذلك حين يقول : ( نساؤكم حرث لكم ) . فيلحظ كذلك معنى الإخصاب والإكثار .

ويحيط الإسلام هذه الخلية ، أو هذا المحضن ، أو هذه المثابة بكل رعايته وبكل ضماناته . وحسب طبيعة الإسلام الكلية ، فإنه لا يكتفي بالإشعاعات الروحية ، بل يتبعها التنظيمات القانونية والضمانات التشريعية .

والذي ينظر في تشريعات الأسرة في القرآن والسنة في كل وضع من أوضاعها ولكل حالة من حالاتها ، وينظر في التوجيهات المصاحبة لهذه التشريعات ، وفي الإحتشاد الظاهر حولها بالمؤثرات والمعقبات ؛ وفي ربط هذا الشأن بالله مباشرة في كل موضع ، كما هو الحال في هذه السورة وفي غيرها . . يدرك إدراكا كاملا ضخامة شأن الأسرة في النظام الإسلامي ، وقيمة هذا الأمر عند الله ، وهو يجمع بين تقواه - سبحانه - وتقوى الرحم في أول سورة النساء حيث يقول : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام . إن الله كان عليكم رقيبا ) . . كما يجمع بين عبادة الله والإحسان للوالدين في سورة الإسراء وفي غيرها : ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ) . . وبين الشكر لله والشكر للوالدين في سورة لقمان : ( أن اشكر لي ولوالديك ) . .

وإن هذه العناية القصوى بأمر الأسرة لتتناسق مع مجرى القدر الإلهي بإقامة الحياة البشرية ابتداء على أساس الأسرة ، حين جرى قدر الله أن تكون أول خلية في الوجود البشري هي أسرة آدم وزوجه ، وأن يتكاثر الناس بعد ذلك من هذه الخلية الأولى . وكان الله - سبحانه - قادرا على أن يخلق الملايين من الأفراد الإنسانيين دفعةواحدة . ولكن قدره جرى بهذا لحكمة كامنة في وظيفة الأسرة الضخمة في حياة هذا المخلوق ، حيث تلبي حياة الأسرة فطرته واستعداداته ، وحيث تنمي شخصيته وفضائله ، وحيث يتلقى فيها أعمق المؤثرات في حياته . ثم جرت هذه العناية في النظام الإسلامي - منهج الله الأخير في الأرض - مع القدر الإلهي في خلقة الإنسان ابتداء . كما هو الشأن في تناسق كل ما يصدر عن الله بلا تفاوت ولا اختلاف .

والدلالة الثانية لسياق السورة ، وللاحتفال بشأن العلاقات الزوجية والعائلية هذا الاحتفال في القرآن كله ، هي اتجاه النظام الإسلامي لرفع هذه العلاقات الإنسانية إلى مستوى القداسة المتصلة بالله ؛ واتخاذها وسيلة للتطهر الروحي والنظافة الشعورية - لا كما كان ينظر إليها في العقائد الوثنية ، وعند أتباع الديانات المحرفة ، البعيدة بهذا التحريف عن فطرة الله التي فطر الناس عليها .

[ إن الإسلام لا يحارب دوافع الفطرة ولا يستقذرها ، إنما ينظمها ويطهرها ، ويرفعها عن المستوى الحيواني ، ويرقيها حتى تصبح هي المحور الذي يدور عليه الكثير من الآداب النفسية والاجتماعية . ويقيم العلاقات الجنسية على أساس من المشاعر الإنسانية الراقية ، التي تجعل من التقاء جسدين ، التقاء نفسين وقلبين وروحين . وبتعبير شامل التقاء إنسانين ، تربط بينهما حياة مشتركة ، وآمال مشتركة ، وآلام مشتركة ، ومستقبل مشترك ، يلتقي في الذرية المرتقبة ، ويتقابل في الجيل الجديد ، الذي ينشأ في العش المشترك ، الذي يقوم عليه الوالدان حارسين لا يفترقان ] .

ويعد الإسلام الزواج وسيلة للتطهر والارتفاع فيدعو الأمة المسلمة لتزويج رجالها ونسائها إذا قام المال عقبة دون تحقيق هذه الوسيلة الضرورية لتطهير الحياة ورفعها : ( وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم ، إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم . وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله ) . . ويسمي الزواج إحصانا أي وقاية وصيانة . ويستقر في أخلاد المؤمنين أن البقاء بدون إحصان ولو فترة قصيرة لا ينال رضى الله . فيقول الإمام علي - كرم الله وجهه - وقد سارع بالزواج عقب وفاة زوجه فاطمة بنت الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] : " لقد خشيت أن ألقى الله وأنا عزب " . . فيدخل الزواج في عرف المؤمن في الطاعات التي يتقرب بها إلى ربه . وترتفع هذه الصلة إلى مكان القداسة في ضميره بما أنها إحدى الطاعات لربه .

والدلالة الثالثة لسياق سورة الطلاق ونظائرها هي واقعية هذا النظام الإسلامي ومعاملته للحياة وللنفس البشرية كما هي في فطرتها ، مع محاولة رفعها إلى ذلك المستوى الكريم ، عن طريق استعداداتها وملابسات حياتها . ومن ثم لا يكتفي بالتشريع الدقيق في هذا الأمر الموكول إلى الضمير . ولا يكتفي بالتوجيه . ويستخدم هذا وذاك في مواجهة واقع النفس وواقع الحياة .

إن الأصل في الرابطة الزوجية هو الاستقرار والاستمرار . والإسلام يحيط هذه الرابطة بكل الضمانات التي تكفل استقرارها واستمرارها . وفي سبيل هذه الغاية يرفعها إلى مرتبة الطاعات ، ويعين على قيامها بمال الدولة للفقراء والفقيرات ، ويفرض الآداب التي تمنع التبرج والفتنة كي تستقر العواطف ولا تتلفت القلوب على هتاف الفتنة المتبرجة في الأسواق ! ويفرض حد الزنا وحد القذف ؛ ويجعل للبيوت حرمتها بالاستئذان عليهاوالاستئذان بين أهلها في داخلها .

وينظم الارتباطات الزوجية بشريعة محددة ، ويقيم نظام البيت على أساس قوامة أحد الشريكين وهو الأقدر على القوامة ، منعا للفوضى والاضطراب والنزاع . . إلى آخر الضمانات والتنظيمات الواقية من كل اهتزاز . فوق التوجيهات العاطفية . وفوق ربط هذه العلاقة كلها بتقوى الله ورقابته .

ولكن الحياة الواقعية للبشر تثبت أن هناك حالات تتهدم وتتحطم على الرغم من جميع الضمانات والتوجيهات . وهي حالات لا بد أن تواجه مواجهة عملية ، اعترافا بمنطق الواقع الذي لا يجدي إنكاره حين تتعذر الحياة الزوجية ، ويصبح الإمساك بالزوجية عبثا لا يقوم على أساس !

" والإسلام لا يسرع إلى رباط الزوجية المقدسة فيفصمه لأول وهلة ، ولأول بادرة من خلاف . إنه يشد على هذا الرباط بقوة ، فلا يدعه يفلت إلا بعد المحاولة واليأس .

" إنه يهتف بالرجال : ( وعاشروهن بالمعروف ، فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ) . . فيميل بهم إلى التريث والمصابرة حتى في حالة الكراهية ، ويفتح لهم تلك النافذة المجهولة : ( فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا )فما يدريهم أن في هؤلاء النسوة المكروهات خيرا ، وأن الله يدخر لهم هذا الخير . فلا يجوز أن يفلتوه . إن لم يكن ينبغي لهم أن يستمسكوا به ويعزوه ! وليس أبلغ من هذا في استحياء الإنعطاف الوجداني واستثارته ، وترويض الكره وإطفاء شرته .

" فإذا تجاوز الأمر مسألة الحب والكره إلى النشوز والنفور ، فليس الطلاق أول خاطر يهدي إليه الإسلام . بل لا بد من محاولة يقوم بها الآخرون ، وتوفيق يحاوله الخيرون : ( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله ، وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما . إن الله كان عليما خبيرا ) . . ( وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا . فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير ) . .

[ فإذا لم تجد هذه الوساطة ، فالأمر إذن جد ، وهناك ما لا تستقيم معه هذه الحياة ، ولا يستقر لها قرار . وإمساك الزوجية على هذا الوضع إنما هو محاولة فاشلة ، يزيدها الضغط فشلا ، ومن الحكمة التسليم بالواقع ، وإنهاء هذه الحياة على كره من الإسلام ، فإن أبغض الحلال إلى الله الطلاق ] .

فإذا أراد أن يطلق فليس في كل لحظة يجوز الطلاق . إنما السنة أن يكون في طهر لم يقع فيه وطء . . وفي هذا ما يؤجل فصم العقدة فترة بعد موقف الغضب والانفعال . وفي خلال هذه الفترة قد تتغير النفوس ، وتقر القلوب ، ويصلح الله بين المتخاصمين فلا يقع الطلاق !

ثم بعد ذلك فترة العدة . ثلاثة قروء للتي تحيض وتلد . وثلاثة أشهر للآيسة والصغيرة . وفترة الحمل للحوامل . وفي خلالها مجال للمعاودة إن نبضت في القلوب نابضة من مودة ، ومن رغبة في استئناف ما انقطع من حبل الزوجية .

ولكن هذه المحاولات كلها لا تنفي أن هناك انفصالا يقع ، وحالات لا بد أن تواجهها الشريعة مواجهة عملية واقعية ، فتشرع لها ، وتنظم أوضاعها ، وتعالج آثارها . وفي هذا كانت تلك الأحكام الدقيقة المفصلة ، التي تدل على واقعية هذا الدين في علاجه للحياة ، مع دفعها دائما إلى الأمام . ورفعها دائما إلى السماء .

والدلالة الرابعة للسورة وما فيها من الترغيب والترهيب والتعقيب والتفصيل الشديد والتوكيد ، هو أنها كانت تواجه حالات واقعة في الجماعة المسلمة متخلفة من رواسب الجاهلية ، وما كانت تلاقيه المرأة من العنت والخسف ، مما اقتضى هذا التشديد ، وهذا الحشد من المؤثرات النفسية ، ومن التفصيلات الدقيقة ، التي لا تدع مجالا للتلاعب والالتواء مع ما كان مستقرا في النفوس من تصورات متخلفة عن علاقات الجنسين ، ومن تفكك وفوضى في الحياة العائلية .

ولم يكن الحال هكذا في شبه الجزيرة وحدها ، إنما كان شائعا في العالم كله يومذاك . فكان وضع المرأة هو وضع الرقيق أو ما هو أسوأ من الرقيق في جنبات الأرض جميعا . فوق ما كان ينظر إلى العلاقات الجنسية نظرة استقذار ، وإلى المرأة كأنها شيطان يغري بهذه القذارة .

ومن هذه الوهدة العالمية ارتفع الإسلام بالمرأة وبالعلاقات الزوجية إلى ذلك المستوى الرفيع الطاهر الكريم الذي سبقت الإشارة إليه . وأنشأ للمرأة ما أنشأ من القيمة والاعتبار والحقوق والضمانات . . وليدة لا توأد ولا تهان . ومخطوبة لا تنكح إلا بإذنها ثيبا أو بكرا . وزوجة لها حقوق الرعاية فوق ضمانات الشريعة . ومطلقة لها هذه الحقوق المفصلة في هذه السورة وفي سورة البقرة وغيرها . .

شرع الإسلام هذا كله . لا لأن النساء في شبه الجزيرة أو في أي مكان في العالم حينذاك شعرن بأن مكانهن غير مرض ! ولا لأن شعور الرجال كذلك قد تأذى بوضع النساء . ولا لأنه كان هناك اتحاد نسائي عربي أو عالمي ! ولا لأن المرأة دخلت دار الندوة أو مجلس الشورى ! ولا لأن هاتفا واحدا في الأرض هتف بتغيير الأحوال . . إنما كانت هي شريعة السماء للأرض . وعدالة السماء للأرض . وإرادة السماء بالأرض . . أن ترتفع الحياة البشرية من تلك الوهدة ، وأن تتطهر العلاقات الزوجية من تلك الوصمة ، وأن يكون للزوجين من نفس واحدة حقوق الإنسان وكرامة الإنسان .

. . هذا دين رفيع . . لا يعرض عنه إلا مطموس . ولا يعيبه إلا منكوس ، ولا يحاربه إلا موكوس . فإنه لا يدع شريعة الله إلى شريعة الناس إلا من أخلد إلى الأرض واتبع هواه .

والآن نستعرض الأحكام في سياق السورة - بعد هذا الاستطراد الذي لا يبعد كثيرا عن جو هذا الجزء وما فيه من تنظيم وبناء للجماعة المسلمة - والأحكام في سياق السورة شيء آخر غير ذلك التلخيص . شيء حي . فيه روح . وفيه حركة . وفيه حياة . وفيه إيحاء . . وله إيقاع . وهذا هو الفارق الأصيل بين مدارسة الأحكام في القرآن ومدارستها في كتب الفقه والأصول .

( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ، وأحصوا العدة ، واتقوا الله ربكم ، لا تخرجوهن من بيوتهن ، ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة . وتلك حدود الله ، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه . لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ) . .

هذه هي أول مرحلة وهذا هو أول حكم يوجه الخطاب به إلى النبي [ صلى الله عليه وسلم ] ( يا أيها النبي ) . . ثم يظهر أن الحكم خاص بالمسلمين لا بشخصه [ صلى الله عليه وسلم ] : إذا طلقتم النساء . . . الخ فيوحي هذا النسق من التعبير بما وراءه ، وهو إثارة الإهتمام ، وتصوير الجدية . فهو أمر ذو بال ، ينادي الله نبيه بشخصهليلقي إليه فيه بأمره ، كما يبلغه لمن وراءه . وهي إيحاءات نفسية واضحة الدلالة على ما يراد بها من احتفال واحتشاد .

( إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ) . .

وقد ورد في تحديد معنى هذا النص حديث صحيح رواه البخاري ولفظه : حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث ، حدثني عقيل ، عن ابن شهاب ، أخبرني سالم ، أن عبد الله بن عمر أخبره أنه طلق امرأة له وهي حائض ، فذكر عمر لرسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فتغيظ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ثم قال : " ليراجعها ، ثم يمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض فتطهر ، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل أن يمسها ، فتلك العدة التي أمر بها الله عز وجل " . .

ورواه مسلم ولفظه : " فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء " . .

ومن ثم يتعين أن هناك وقتا معينا لإيقاع الطلاق ؛ وأنه ليس للزوج أن يطلق حينما شاء إلا أن تكون امرأته في حالة طهر من حيض ، ولم يقع بينهما في هذا الطهر وطء . وتفيد آثار أخرى أن هناك حالة ثانية يجوز فيها الطلاق ، وهو أن تكون الزوجة حاملا بينة الحمل . والحكمة في ذلك التوقيت هي أولا إرجاء إيقاع الطلاق فترة بعد اللحظة التي تتجه فيها النفس للطلاق ؛ وقد تسكن الفورة إن كانت طارئة وتعود النفوس إلى الوئام . كما أن فيه تأكدا من الحمل أو عدمه قبل الطلاق . فقد يمسك عن الطلاق لو علم أن زوجه حامل . فإذا مضى فيه وقد تبين حملها دل على أنه مريد له ولو كانت حاملا . فاشتراط الطهر بلا وطء هو للتحقيق من عدم الحمل ، واشتراط تبين الحمل هو ليكون على بصيرة من الأمر .

وهذه أول محاولة لرأب الصدع في بناء الأسرة ، ومحاولة دفع المعول عن ذلك البناء .

وليس معنى هذا أن الطلاق لا يقع إلا في هذه الفترة . فهو يقع حيثما طلق . ولكنه يكون مكروها من الله ، مغضوبا عليه من رسول الله . وهذا الحكم يكفي في ضمير المؤمن ليمسك به حتى يأتي الأجل . فيقضي الله ما يريد في هذه المسألة .

( وأحصوا العدة ) . .

كي لا يكون في عدم إحصائها إطالة للأمد على المطلقة ، ومضارة لها بمنعها من الزواج بعد العدة . أو نقص في مدتها لا يتحقق به الغرض الأول ، وهو التأكد من براءة رحم المطلقة من الحمل المستكن حفظا للأنساب . ثم هو الضبط الدقيق الذي يوحي بأهمية الأمر ، ومراقبة السماء له ، ومطالبة أصحابه بالدقة فيه !

( واتقوا الله ربكم . لا تخرجوهن من بيوتهن ، ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ) .

هذا أول تنبيه - بعد وهلة النداء الأول - وأول تحذير من الله وتقديم تقواه . قبل الأمر بعدم إخراجهن من بيوتهن - وهي بيوت أزواجهن ولكنه يسميها بيوتهن لتوكيد حقهن في الإقامة بها فترة العدة - لا يخرجن منها ولا يخرجن ، إلا في حالة وقوع فاحشة ظاهرة منهن . وقد ورد أن هذه الفاحشة قد تكون الزنا فتخرج للحد : وقد تكون إيذاء أهل الزوج . وقد تكون هي النشوز على الزوج - ولو أنه مطلق - وعمل ما يؤذيه . ذلك أن الحكمة من إبقاء المطلقة في بيت الزوج هي إتاحة الفرصة للرجعة ، واستثارة عواطف المودة ، وذكرياتالحياة المشتركة ، حيث تكون الزوجة بعيدة بحكم الطلاق قريبة من العين ؛ فيفعل هذا في المشاعر فعله بين الإثنين ! فأما حين ترتكس في حمأة الزنا وهي في بيته ! أو تؤذي أهله ، أو تنشز عليه ، فلا محل لاستحياء المشاعر الطيبة ، واستجاشة المودة الدفينة . ولا حاجة إلى استبقائها في فترة العدة . فإن قربها منه حينذاك يقطع الوشائج ولا يستحييها !

( تلك حدود الله . ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ) . .

وهذا هو التحذير الثاني . فالحارس لهذا الحكم هو الله . فأي مؤمن إذن يتعرض لحد يحرسه الله ? ! إنه الهلاك والبوار . . ( ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ) . . ظلم نفسه لتعريضها هكذا لبأس الله القائم على حدوده يحرسها ويرعاها . وظلم نفسه بظلم زوجه . وهي وهو من نفس واحدة ، فما يظلمها يظلمه كذلك بهذا الاعتبار . . ثم . .

( لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا ) .

وهي لمسة موحية مؤثرة . فمن ذا الذي يعلم غيب الله وقدره المخبوء وراء أمره بالعدة ، وأمره ببقاء المطلقات في بيوتهن . . إنه يلوح هناك أمل ، ويوصوص هناك رجاء . وقد يكون الخير كله . وقد تتغير الأحوال وتتبدل إلى هناءة ورضى . فقدر الله دائم الحركة ، دائم التغيير ، ودائم الأحداث . والتسليم لأمر الله أولى ، والرعاية له أوفق ، وتقواه ومراقبته فيها الخير يلوح هناك !