المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُواْ ٱلۡعِدَّةَۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخۡرُجۡنَ إِلَّآ أَن يَأۡتِينَ بِفَٰحِشَةٖ مُّبَيِّنَةٖۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ لَا تَدۡرِي لَعَلَّ ٱللَّهَ يُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَٰلِكَ أَمۡرٗا} (1)

مقدمة السورة:

( 65 ) سورة الطلاق مدنية

وآياتها اثنتا عشرة

وهي مدنية بإجماع من أهل التفسير .

قوله عز وجل :

الطلاق على الجملة مكروه ، لأنه تبديد شمل في الإسلام ، وروى أبو موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «لا تطلقوا النساء إلا من ريبة ، فإن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات »{[11150]} . وروى أنس أنه عليه السلام قال : «ما حلف بالطلاق ولا استحلف به إلا منافق »{[11151]} . واختلف في ندائه النبي . ثم قوله تعالى بعد ذلك : { طلقتم } ، فقال بعض النحويين حكاه الزهراوي ، في ذلك خروج من مخاطبة أفراد إلى مخاطبة جماعة ، وهذا موجود ، وقال آخرون منهم في نداء النبي صلى الله عليه وسلم : أريدت أمته معه ، فلذلك قال : { إذا طلقتم } ، وقال آخرون منهم إن المعنى : { يا أيها النبي } قل لهم { إذا طلقتم } ، وقال آخرون إنه من حيث يقول الرجل العظيم فعلنا وصنعنا خوطب النبي صلى الله عليه وسلم ب { طلقتم } إظهاراً لتعظيمه ، وهذا على نحو قوله تعالى في عبد الله بن أبي : { هم الذين يقولون }{[11152]} [ المنافقون : 7 ] إذا كان قوله مما يقوله جماعة ، فكذلك النبي في هذه ما يخاطب به فهو خطاب الجماعة .

قال القاضي أبو محمد : والذي يظهر لي في هذا أنهما خطابان مفترقان ، خوطب النبي على معنى تنبيهه لسماع القول وتلقي الأمر ثم قيل له : { إذا طلقتم } ، أي أنت وأمتك{[11153]} ، فقوله : { إذا طلقتم } ، ابتداء كلام لو ابتدأ السورة به ، وطلاق النساء : حل عصمتهن وصورة ذلك وتنويعه مما لا يختص بالتفسير ، وقوله تعالى : { فطلقوهن لعدتهن } أي لاستقبال عدتهن وقوامها وتقريبها عليهن ، وقرأ عثمان وابن عباس وأبي بن كعب وجابر بن عبد الله ومجاهد وعلي بن الحسين وزيد بن علي وجعفر بن محمد : «فطلقوهن في قبل عدتهن » ، وروي عن بعضهم وعن ابن عمر { لقبل عدتهن } أي لاستقبالها ، وروى ابن عمر القراءتين عن النبي صلى الله عليه وسلم{[11154]} ، وقرأ ابن مسعود رضي الله عنه : " لقبل طهرهن " ، ومعنى هذه الآية ، أن لا يطلق أحد امرأته إلا في طهر لم يمسها فيه ، هذا على مذهب مالك وغيره ممن قال : بأن الاقراء الاطهار فيطلق عندهم المطلق في طهر لم يمس فيه وتعتد به المرأة ، ثم تحيض حيضتين تعتد بالطهر الذي بينهما ، ثم يقيم في الطهر الثالث معتدة به ، فإذا رأت أول الحيضة الثالثة حلت ، ومن قال : بأن الإقراء الحيض وهم العراقيون قال : { لعدتهن } ، معناه أن تطلق طاهراً ، فتستقبل ثلاث حيض كوامل ، فإذا رأت الطهر بعد الثالثة حلت ويخف عند هؤلاء مس في طهر الطلاق أو لم يمس ، وكذلك مالك يقول : إن طلق في طهر قد مس فيه معنى الطلاق ، ولا يجوز طلاق الحائض ، لأنها تطول العدة عليها ، وقيل بل ذلك تعبد ولو علل بالتطويل لا ينبغي أن يجوز إذا رضيته ، والأصل في ذلك حديث عبد الله بن عمر قال : طلقت امرأتي وهي حائض ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لعمر :«مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم يطلقها إن شاء ، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء »{[11155]} . وروى حذيفة أنه عليه السلام قال : «طلقوا المرأة في قبل طهرها »{[11156]} ، ثم أمره تعالى بإحصاء العدة لما يلحق ذلك من أحكام الرجعة والسكنى والميراث وغير ذلك{[11157]} .

ثم أخبر تعالى بأنهن أحق بسكنى بيوتهن التي طلقن فيها ، فنهى عن إخراجهن وعن خروجهن{[11158]} ، وسنة ذلك أن لا تبيت المرأة المطلقة " بعيدة " {[11159]} عن بيتها ولا تغيب عنه نهاراً إلا في ضروة ، ومما لا خطب له من جائز التصرف وذلك لحفظ النسب والتحرز بالنساء ، فإن كان البيت ملكاً للزوج أو بكراء منه فهذا حكمه ، فإن كان لها فعليه الكراء ، فإن كان قد أمتعته طول الزوجية ففي لزوم خروج العدة له قولان في المذهب اللزوم رعاية لانفصال مكارمة النكاح ، والسقوط من أجل العدة من سبب النكاح ، واختلف الناس في معنى قوله : { إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } فقال قتادة والحسن ومجاهد : ذلك الزنا فيخرجن للحد ، وهذا قول الشعبي وزيد بن أسلم وحماد والليث ، وقال ابن عباس : ذلك لنداء على الإحماء ، فتخرج ويسقط حقها من السكنى وتلزم الإقامة في مسكن يتخذه حفظاً للنسب . وفي مصحف أبي بن كعب «إلا أن يفحشن عليكم » ، وقال ابن عباس أيضاً الفاحشة جميع المعاصي ، فمن سرقت أو قذفت أو زنت أو أربت في تجارة وغير ذلك فقد سقط حقها في السكنى ، وقال السدي وابن عمر : الفاحشة الخروج عن البيت ، خروج انتقال ، فمتى فعلت ذلك ، فقد سقط حقها في السكنى ، وقال قتادة أيضاً : المعنى { أن يأتين بفاحشة } في نشوز عن الزوج فيطلق بسبب ذلك ، فلا يكون عليه سكنى . وقال بعض الناس الفاحشة متى وردت معرفة فهي الزنا ، ومتى جاءت منكرة فهي المعاصي يراد بها سوء عشرة الزوج ومرة غير ذلك ، وقرأ عاصم : «مبيَّنة » بفتح الياء المشددة{[11160]} تقول : بان الأمر وبينته أنا على تضعيف التعدية ، وقرأ الجمهور : «مبيِّنة » بكسر الياء ، تقول بان الشيء وبين بمعنى واحد ، إلا أن التضعيف للمبالغة ، ومن ذلك قولهم قد بين الصبح لذي عينين وقوله تعالى : { وتلك حدود الله } إشارة إلى جميع أوامره في هذه الآية ، وقوله تعالى : { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً } ، قال قتادة وغيره : يريد به الرجعة ، أي أحصوا العدة وامتثلوا هذه الأوامر المتفقة لنسائكم الحافظة لأنسابكم ، وطلقوا على السنة تجدوا المخلص إن ندمتم فإنكم لا تدرون لعل الرجعة تكون بعد ، والإحداث في هذه الآية بين التوجه عبارة عما يوجد من التراجع ، وجوز قوم أن يكون المعنى { أمراً } من النسخ ، وفي ذلك بعد .


[11150]:أخرجه الطبراني في الكبير، عن أبي موسى رضي الله عنه، ورمز له الإمام السيوطي في "الجامع الصغير" بأنه حديث ضعيف.
[11151]:أخرجه ابن عساكر عن أنس رضي الله عنه، ذكره الإمام السيوطي في "الجامع الصغير"، ورمز له بالضعف.
[11152]:من الآية (7) من سورة (المنافقون).
[11153]:بقول بعض العلماء: إن الخطاب له والمعنى له وللمؤمنين، وإذا أراد الله بالخطاب المؤمنين لاطفه بقوله:{يا أيها النبي}، فإذا كان الخطاب باللفظ والمعنى جميعا له قال: {يا أيها الرسول}.
[11154]:أخرج عبد الرزاق في المصنف، وابن المنذر، والحاكم، وابن مردويه، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ:{فطلقوهن في قبل عِدتهن}، وأخرج ابن الأنباري، عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قرأ:{فطلقوهن لقبل عدتهن}، وقُبُل الشيء هو إقباله وأوله.
[11155]:أخرجه مالك، والشافعي، وعبد الرزاق في المصنف، وأحمد، وعبد بن حميد، والبخاري ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو يعلى، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، عن ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرج مثله ابن مردويه عن ابن عمر أيضا ولكن من طريق أبي الزبير.(الدر المنثور).
[11156]:لم أقف عليه.
[11157]:وهذا في المدخول بها؟ لأن غير المدخول بها لا عدة عليها لقوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها}.
[11158]:أي: لا يجوز للزوج أن يخرجها من مسكن النكاح ما دامت في العدة، ولا يجوز لها هي أن تخرج إلا للضرورة، فإن خرجت فهي آثمة، لكن العدة لا تنقطع بخروجها. قال الإمام القرطبي:"والرجعية والمبتوتة في هذا سواء، وهذا لصيانة ماء الرجل، وهذا معنى إضافة البيوت إليهن، فهي إضافة إسكان وليست إضافة تمليك"، على أن هناك خلافا بين الفقهاء وتفريقا بين الرجعية والمبتوتة، وبين الخروج نهارا والخروج ليلا، وموضعه كتب الفقه.
[11159]:ما بين العلامتين سقط من الأصول.
[11160]:لعلها قراءة أبي بكر عنه، أما قراءة حفص عن عاصم فهي بكسر الياء المشددة كما هو ثابت في المصحف.